مهاجرٌ وميسورٌ ويحتاج إلى تدليك
2008-11-12
جدران البيت تصبح ثقيلة مابين السادسة والسابعة مساء. كل ّ يوم أبتكر حلاً. أحياناً أخرج ومعي الجدران وعقدة بين عينيّ، ووجه يخلو من الانشراح. أحيانا أخرج منشرحة وأترك الجدران تعاني لوحدها من ثقالتها وأعباء الصمود في وجه الحرّ والبرد وتقلبات الفصول والزمن. قبل الخروج أنفق قرابة 11 دقيقة أمام المرآة، بين الكحل الشتوي وزهر الشفاه، العطر وأقراط الأذان. الأقراط تستهلك أكثر مما يجب. دائما هناك قرط ضائع هو القرط الذي اخترت أن يرافقني في مشوار اليوم. القرط يضيع يصبح ثميناً، كما الأحبة الذين يضيعون، فأجلس كي أكتب عن فقدهم.
طريق اليوم إلى مطعم "زينة داينر" في سكاربرو لصاحبه السوري الأصل. عادة تراه يقدم زجاجة للزبون ثم يذهب إلى "الدربكة" يقدم وصلة لنفسه، لي، لأحدهم. يمسك العود ويدندن. وإذا كان مزاجه رائقاً ينصرف لوهلة إلى الكمان، رغم نفور بعض زبائن البار المخمورين من اللحن العربي. يقول أنه سيثقفهم في الموسيقى وتاريخ الأمة السورية.
ألقيت التحية على صديقي المبتسم على الغالب، فأجاب مرحبا "أهلين بنت البلد، أين أنتِ؟".
تلقيتُ ابتسامة عريضة من رجل أراه هناك للمرة الأولى، وهمّ بتقديم نفسه لي قائلاً:
ـ أنا حسن. تفضلي مدام، ماذا تشربين؟
كان الطقس حاراً رطباً. سألتُ صاحب المطعم عن جهاز التبريد، فابتسم وقال نعم ثم تجاهل السؤال. راح يعزف على العود أغنياته الكلاسيكية التي يعشقها لعبد الوهاب، وفريد الأطرش. حدّثني من جديد عن إعجابه بألحان عبد الوهاب، حتى قاطعه الزبائن المتعطشون للشراب على الدوام، والذين يحضرون عادة منذ الصباح الباكر لتناول فطور من البيرة والسجائر، بادئين نهاراتهم من هاهنا.
فتحت صحيفة اليوم، قنينة البيرة وجلست. أخذ المهاجر الجديد يحدثني عن هدفه من الهجرة إلى كندا. يحدّثني عن حساباته ووجوده كرجل أعمال ميسور، وطموحه الكبير لامتلاك بزنس هنا، كاشفاً لي عن بطاقاته الشخصية والمصرفية، تاركاً محفظته على الطاولة مشرّعة نقودها.
شخصياً، لا مانع أن استمع إلى أي قصة سواء أكانت سخيفة أو تراجيدية، وتحديداً إذا كان المتحدث معتوهاً، مخموراً، مهاجراً شحاذاً أو ميسوراً.
(انظرُ إلى أصابع محدّثي الخشنة، فلا ألحظ أثراً واضحاً للنعمة ورخاء العيش)
ـ من المستحسن ألا تحمل نقوداً كثيرة هكذا ـ اقترحتُ ـ لئلاّ يلحظها أحدهم ويتبعك. فمنذ أسبوع سُرق شاب في الجوار كان قادماً من مونتريال للمشاركة في جنازة والده الذي مات على غفلة. على كل، كلنا نموت على غفلة. لابد من الغفلة في أشدّ أوقاتنا حرجاً.
(حاول أن يبدو مشدوهاً)
ثم قال: معقول، هل يحصل أشياء من هذا القبيل في كندا، ألا يوجد شرطة لحفظ الأمن وسلامة المواطن؟!
- نعم يوجد، والحذر واجب.
رحتُ أقلب أوراق الصحيفة دون تركيز، فقاطعني معتذراً: عفواً مدام، هل تعرفين أين يجري سباق الخيل في تورنتو؟ متى، كيف يمكنني الذهاب؟ سأدعوك على حسابي. لدي رغبة في مشاهدة هذا السباق بين فترة وأخرى ولم أحضر أي نشاط أو سباقات أو حفلات منذ قدومي إلى هذا البلد، ألا تحبين هذه الرياضة؟ سأدعودك وأدفع ثمن الرحلة، وإذا ربحنا الرّهان على الحصان الفائز، سنتقاسم النصيب، الحمد لله حظي حلو، وحالتي ميسورة.
بعد أن سألت أحدهم عن مكان السباق وأحطّت المهاجر علماً بالمكان، سألني:
ـ هل تحبين الموسيقى والرقص؟
قلت: أحياناً. إذاً، هل تدلّيني أيضاً على مكان للرقص والسهر والأكل اللذيذ، مكان أنيق رومانسي، نستطيع أن نكون فيه على راحتنا. نأكل نشرب نسهر على راحتنا بعيداً عن أنظار المتطفلين. سحب السيجارة من العلبة ثم أردف قائلاً: تعالي نجلس في الفسحة الخلفية المخصصة للمدخنين. ألا تدخنين، لدي سجائر فاخرة ستعجبك؟
قلت: لا أعرف مكاناً مريحاً في العالم كله، أي مكان أذهب إليه أشعر بأنني يجب أن أغادر بعد قليل. كنت أنظر الى الساعة في يدي. فطلب من النادل زجاجة بيرة ثانية لي وله وأشعل سيجارة لي أولاً ثم لنفسه-لم تكن أصابعه ناعمة- وقال متسائلاً:
أفكر بشراء أو استئجار مطعم كهذا في تورنتو ما رأيك لو نشتري هذا المطعم؟ أو هل تعرفين مطعماً للبيع؟ وإذا وفقني الله في هذا المشروع سأسلمك إدارة المحل، مارأيك؟ ألن يكون المدخول أفضل من العمل الذي تقومين به؟ والحمد لله أنا حظي حلو، يا مدام الحياة فرص، وهذه فرصتك، أنا لقطة والحمد لله، جيبي عامر وقلبي انفتح لك. فكري معي بجدية. اعطني رقم هاتفك كي أتصل بك ونتحدث في الموضوع ولن تخسري، فالله له أحكامه، وربما أرسلك اليوم هنا لنلتقي في غاية وتدبير منه.
راح يمسد لحية البيضاء القصيرة الخفيفة، يخرج محفظته ويبحث عن كلينكس، ويعيدها إلى جيب الشورت، متسائلاً عن موعد إغلاق البنك ثم أضاف: قلبي ارتاح لك والله يامدام، نستطيع أن نكون أصدقاء، أصدقاء وبس. لا تفكري أنني أقصد الجنس. أنا رجل محترم وعندي أولاد وأحفاد، الله أنعمَ علي. مدام أرجو ألا تفهميني خطأ، لا أقصد مغامرة جنسية، رغم إنك كندية وتفهمين إن هذا ليس عيباً ولاغلطاً. قلبي انفتح لك يامدام والله يشهد.
من أي عائلة انتِ؟ ما اسم أبيك؟ أما يزال حياً؟
توجه صاحب المقهى إلى طاولتنا. فسأله المهاجر:
ـ هل تعتقد أن الملهى الليلي يدر أرباحاً جيدة في فترة قصيرة، لابد أن تكون الأرباح طائلة.
في هذه الأثناء دخل أحدهم وراح يغني، يترنح ويجاهد كي لا يسقط قبل أن يشرب زجاجة بيرة أخرى. أحرق المهاجر علبة السجائر التي في حوزته وحكى لي أنه كان قد خبأ عدة كرتونات منها بين الثياب حين قدم من البلاد، شاكياً من سعر السجائر المرتفع في هذه البلاد، عكس أسعار الدخان في بلاده، إنها تقريباً تسعة أضعاف أو أكثر.
ارتبكت أصابعه قليلاً وتعرّق وهو يقول: هل يوجد أماكن قريبة من هنا، نظيفة خاصة للمسّاج، للتدليك؟. أحلتُ السؤال إلى صاحب المحل.
فأشار له بأن هناك محلات ولكن ليست للتدليك فقط، بل للملاطفة الجنسية، ولكل لعبة-تدليكة- ثمنها، وغمز بعينه.
كان السيد حسن مسروراً يتحدث انكليزية مكسورة مع صاحب المحل وبدأ يتطلع لمزيد من المعرفة ويسأل المزيد من التفاصيل بعد انسحاب صاحب المطعم، قائلاً:
ـ أنا بحاجة إلى رياضة. أنت سيدة وتعرفين بأن الرجل يحتاج إلى رياضة، رعاية، ولا يمكنه العيش وحيداً، وأنا والحمد لله أحوالي ميسورة، ولدي مايكفي من المال، وابن عائلة وناس، وأحب أن أتمتع، وهذا ليس حراما. ولكن تهمني النظافة والابتعاد عن الأمراض، تعرفين يجب الحذر. حسناً، هل هناك اوتيلات قريبة في المنطقة، فأنا رجل وحيد وعندي بيت كبير. ولكن في البيت ابني وزوجته ولا أحب أن أزعج الاخرين بشؤوني الخاصة.أنا أخرج من البيت أثناء ذهاب ابني إلى العمل. لا أحبذ أن أبقى مع زوجته في البيت. تعرفين العادات والتقاليد في بلادنا.
أجبت باستغراب: ولكن زوجة ابنك، في مقام ابنتك، وأنت في مقام والدها. عموما كلّ العادات والتقاليد تبقى في بلادكم، لكني لا أعرف أين الفنادق القريبة، تستطيع أن تسأل أي سائق سيارة ليأخذك إلى أقرب اوتيل، سائقو التاكسي يعرفون البلد أكثر مني.ويوجد سائقات نساء أيضاً ومن بلادك.
أجاب : عفوا مدام لا تفهميني غلط، أنا أحب فقط أن أتعرف على البلد.
أجبت: نعم، واضح
سألني: طيب هل يوجد هنا "كازينوهات" للمقامرة، للتسلية؟
قلت: طبعا يوجد، لكنني لا أعرف أين. يوجد مكان فخم في منطقة شلالات نياغارا، تستطيع أن تزوره وتلعب قمار من خمسة دولارات، إلى ماتشاء من آلاف الدولارات. آخر مرة دخلتُ إليه خسرت 20 دولاراً ومازلت مقهورة، وأفكر أن أهذب لأستعيد خسارتي أضعافاً.
فقال: عفوا مدام، انا رجل متديّن ولا ألعب القمار، أحب فقط أن أتفرج، أن أتعرّف على البلد.
أجبت بهدوء شديد: أوكي، أمامك بلد طويل عريض وستتعرف عليه كثيراً.
لذتُ بالصّمت، ونظرت إلى ساعتي طويلاً. فقال المهاجر بشيء من التهكم: أنت أين تعيشين؟ ماذا تعرفين عن الحياة؟ هل تقيمين حقاً في كندا؟
قلت: لا أعرف
-هل تأتين كل يوم الى هنا؟
-ليس بالضرورة
-متى تأتين تحديداً
-لا أعرف.
ساد صمت قصير، قطعه المهاجر بسؤاله: عفواُ مدام، ماذا تحبين في الرجل؟ ماهي مواصفات الرجل الجيد في نظرك، لنقل فتى أحلامك؟
قلت: سؤال عظيم، يجب أن أفكر به. هل تريد الجواب حالاً!
(تفكّرت في الأمر بيني وبين نفسي، وقلت: امممم- يبدو أن لكل مرحلة فتيان وأحلام، ولابد من إعادة النظر في هذه المسأئل على الدوام. رحت أدمدم: آخ أيها الفتى لو كنت تعلم بما أجنّ من الهوى لعذرتني... أو شي من هذا القبيل...)
طيب، اسمحي لي مدام أن أسألك ولك حرية عدم الإجابة. قال الرجل ذو الذقن الأبيض والشعر المصبوغ بسوادلايخفي الجذر الأبيض.
(حين يصلني هكذا ملاحظة قبل السؤال، أتوجس، أتوقع سؤالاً كبيراً محرجاً وشخصياً)
قال: هل هذا لون شعرك الطبيعي؟
أجبت: نعم هذا لون شعري الطبيعي جداً.
أجاب حسن: مدام أذا سمحتِ لي، أقترح أن تصبغي شعرك، ستبدين أجمل وأصغر سناً، وخاصة إذا صبغته أشقر قليلاً. أنا أحب أن يكون شعر المرأة طويلاً وأشقر. لماذا شعرك قصير؟
أجبت: سأخرج الآن، إنّها لفرصة سعيدة ياسيد حسن، حظي حلو بالتأكيد.
-إذا سمحت مدام، لن أدعك تذهبين لوحدك، سأرافقك في الطريق إلى بيتك. لا يجوز أن تمشي امرأة لوحدها في الشارع والوقت متأخر، تعرفين التقاليد عندنا.
قلت: شكراً. أعرف الطريق إلى بيتي جيداً.
أخرجَ حسن محفظته ثانية. وطلب رقم الهاتف للمرة الثالثة. ذهبت لدفع حسابي لكنه أقسم على الطريقة العربية بأنه سيدفع الحساب كاملاً وهو يقول: لأ لأً، قسماً بالله لايجوز، يامدام تعرفين العادة في بلادنا، ثم أنا رجل ميسور والحمد لله.
كاتبة سورية-كندية.
[email protected]
عن موقع كيكا
08-أيار-2021
01-شباط-2015 | |
23-أيار-2009 | |
12-تشرين الثاني-2008 | |
10-نيسان-2006 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |