مذكرات شبح
2008-12-01
غادر عبد الجليل المقهى برفقة سيجارة محترقة في فمه وجريدة تحت إبطه .. أفلت بصعوبة بعد أن عجز شركاؤه الثلاثة في إقناعه بمتابعة اللعب واستسلموا لاستبداله برابع آخر ..
قرر أن يمضي ما تبقى من المساء في البيت على غير عادته التي لم تتبدل عبر السنين الطويلة الماضية .
شيء أشبه بنداء من عالم آخر استدعاه لترك الأصدقاء والورق والمقهى وألقى به في حالة ترقب مبهم ..
تناهى إلى سمعه صوت لم تتعرف عليه أذناه قبل اليوم تلته رعشة برودة في أطرافه تنم عن أمر ما سوف يحدث .
اندس في فراشه بأقل عدد ممكن من الحركات ليتجنب قرقعة سريره المعدني المهترئ وأغمض عينيه على سبيل النوم ..
حين ظهر ذلك الشبح في أعلى زاوية الغرفة كان عبد الجليل يجاهد لاعتبار ذلك حلماً .. لم يكن حلماً فقد بدت صورة الكائن الغريب جلية المعالم وقبل حتى إعطائه الفرصة للدهشة المناسبة .. بالكاد تمكن عبد الجليل من نطق بعض الكلمات المرتجفة : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم من أنت !؟.. من تكون ؟!.
ثبت الشبح عينيه المتحجرتين على وجه عبد الجليل وقد أخذ مكاناً مقابل سريره مثل جثة ارتمت على كرسي :
- ( بنبرة كأنها خرجت من المذياع) هل كنت تعلم بمجيئي إليك ؟...
- لا .. لا أعلم .. من أين لي أن أعرف !!..
- هل تسكن هنا بمفردك ؟.
- هز برأسه إلى أسفل دون أن يعيده إلى مكانه ..
- عظيم .. على أية حال بيتك جميل يستحق زيارتي ..
رفع عبد الجليل بصره إلى الشبح باستنكار مهذب :
- ماذا !؟. بيتي أنا .. جميل !؟..
- بالتأكيد .. بيت كهذا لا يمكن أن يغريني بدخوله لو لم يكن فيه من الصمت والكآبة ما يكفي لأفعل (بابتسامة جليدية) ..
- هل لي أن أسأل .. عن سبب زيارتك ؟.
- أجبني أولاً .. هل أنت خائف ؟.
- لا .. ولو أن ظهورك المفاجئ أربكني بعض الشيء لكني لا أخاف من الأشباح .
- غريب .. على أية حال لست هنا بهدف شرير ؛ مجرد فضول ربما لمعرفة الجديد عنكم أنتم الأحياء .. هل تمانع ؟.
- أنا ؟!. لا بالتأكيد .. تفضل .
- بيتك يوحي بأنك لست أباً ولا حتى زوجاً .. صحيح ؟.
- أجل كنت .. لم يستمر ذلك طويلاً .. بعدها لم أكرر التجربة ..
- إذن فأنت طليق بلا قيود ..
- إذا كان ما أنا عليه حرية فالجواب نعم ..
- هل تعمل ؟.
- قبل أكثر من عشر سنوات كنت مدرساً للرياضيات .
- حدثني عن الماضي ..
- أي ماض تقصد فأنا رجل يغمره الماضي حتى أذنيه !..
- الماضي البعيد .. طفولتك مثلاً ..
- لن تجد فيها ما يثيرك .. كانت قصيرة جداً بحيث لم أتمكن من البقاء معها طويلاً .. لكنها تذكرني دوماً بالخوف والهزيمة ..
- الهزيمة ؟!.
- اسمع يا سيدي الشبح .. بدأت مجرد نطفة لا تعلم شيئاً عن وجودها بعدها بزمن خرجت مولوداً بالإكراه وبقيت فأر تجارب مسلية لا أملك من حريتي سوى فعل التبول .. ثم تلقيت الهزيمة في اللحظة التي أعلنت فيها رفضي الأول .. لم أكن أعرف وقتها معنى هزيمة لكني انضممت إلى قائمة لا تنتهي من المهزومين ولا أملك حيال كل هذا سوى الخوف .. والبكاء .
- وكيف تخلصت من الخوف بعد ذلك ؟.
- يخرج الخوف من الأشياء عند مقابلتك الأولى لها فقط .. ثم يتبخر بالتدريج ويصبح سحابة عالية تتعاظم وتغلف الفضاء من حولك وتقيم هناك متربصةً بك كلما نظرت إلى الأعلى ..
- لهذا لا تخاف من الأشباح !.. حسناً .. وماذا بعد زمن الخوف ؟.
- الشباب .. زمن الحزن الفارغ .. ليس في صفحاته سوى حروب وخيبات مزمنة .. والكثير من الحرمان .
- حروب .. حرمان ؟..
- أجل .. عندنا نحن الأحياء ليس هناك شكل آخر للوجود من دون صراع مع طرف آخر على شكل إنسان .. جوع .. موت ؛ أياً كان يلقى بك معه إلى الحلبة وأنت تتكفل بالباقي .. هناك تجد نفسك تهرول في سباق تتابع .. تستلم العصا ورأسك إلى الخلف , وقد أشار أحدهم إلى حيث عليك أن تكمل .. فتبدأ بالعدو حيث لا وقت لاستعمال أدوات الاستفهام أو التعجب .. وفي الطريق تكتشف أنك محروم من الإمساك بالأشياء كيلا تسقط العصا من يدك .
- هذا رهيب .. والآن ؟.
- أعتقد أن الآن هو أفضل أيامي .. فالطفولة رحلت بالخوف إلى غير رجعة .. كذلك فعل الشباب حين انتهى ودفن معه الألم ..
- كيف ؟.
- عندما تكون شاباً قوياً فأنت تتحسر في كل دقيقة على جسد متين يفيض بالحياة بلا فائدة .. وتأسف لمشاعر تنبض بالجمال بلا معنى وتحزن على فرح يسيل من بين أصابعك دون توقف .. أما الآن فماذا يمكن أن تعني رائحة الشواء لعجوز فقد أسنانه !..
- إذن فأنت اليوم لا تقوم بأي عمل باستثناء أنك تنتظر الموت !.
- ليس تماماً .. دوماً هناك مخرج .. الإيمان يا سيدي .. إنه دفء تقاوم به صقيع الحرمان .. يحميك من التمرد وينتشلك من الغرق في رمال العبث المتحركة ..
- وماذا عن الألم .. والجسد .. والحلم .. ماذا تفعل بها .. أليست حقائق تطالب بوجودها ؟!.
- بلى .. هي حقائق تملى على أصحابها لمرة واحدة .. لكنهم على ما أظن قرؤوها منذ البداية بطريقة خاطئة ؛ وذهبت بعدها مثلاً .
- هل تقصد أن جميع من سبقوك لم يحسنوا قراءتها ؟!.
- والقادمين أيضاً سيفعلون ذلك ..
- وهل عليكم أن تتابعوا قراءة خاطئة لزمن لا ينتهي .
- أعتقد هذا .. هناك على أية حال فرصة ثانية في عالم آخر لقراءة أكثر عمقاً .. وهذا هو ...
- انتظر !. هل تقول بأن جسدك وإحساسك كانا طوال هذا الوقت مجرد خدعة ؟.
- أرأيت !.. ولهذا أجبتك بأن الآن هو الجزء الأجمل من الحياة .. فأنت لا تتعرف إلى قدرتك على الأشياء إلا بعد أن تتخلص منها ..
- تتخلص من قدرتك أم من الأشياء ؟!.
- لا فرق .. المهم ألا يبقى أثر لما تندم عليه أو على ضده ..وإلا لكانت كارثة كبيرة .. ألست معي في هذا ؟.
حدق الشبح المرتبك في وجه عبد الجليل بامتعاض شديد : ولماذا تصر على لعب الورق والثرثرة كل يوم مع أشباه الموتى من أمثالك ؟.
ما لبثت ابتسامة عبد الجليل أن تحولت إلى جلجلة قوية من الضحك المدوّي وهو يصرخ : كيلا أتحول إلى شبح مثلك ..
في هذه اللحظة اختفى عبد الجليل وانتفض الشبح من نومه مذعوراً يفرك عينيه بعصبية وهو يردّد : يا لطيف .. يا لطيف.. خير اللهم اجعله خير ..
08-أيار-2021
01-كانون الأول-2008 | |
26-تشرين الثاني-2008 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |