قصة / ستوكهولم.. ستوكهولم.. *
2008-12-06
حصلت على شقتي في المكان الذي أريد، على مقربة من البحر، كان ذلك لطفا من السويديين، الشقة المقابلة تقطنها عازبة أيضا، في عمري تقريبا، مصادفة أم لا، لا أعلم طبعا، هم يجيدون كل شئ، جنّ العالم وبعضه دمر مدينتي بغداد وهم عطفوا عليّ بلا حدود، نبلاء بلا حدود، عذابي بين حرب ومهجر أثمر. وحسب عادة سويدية تكلموا عنها بدرس اللغة يوجه جيران دعوة غداء أو عشاء لقادم جديد، يكتبون فيها ما سيتناوله معهم، متى يأتي ويخرج، ربما لتهيئة المعدة تمام وقضاء الوقت في إنسجام، إنسجام مستلهم ككل شئ هنا من طبيعتهم الجميلة. كيف تكون يُعطى لك أو بالعكس، لا أدري. عام مضى وجارتي لا تبالي، ما نفعت عطوري ولا تعلقي بالمعالي، لها حق، هي على شئ من جمال، لكن بلا صديق أو صديقة، زوجة محتملة مثالية لحالم مثل حضرتي. لا فائدة، حظي معها لم يعد حظ حلوين. إهتممتُ بنظافتي دائما، إغسل ما شئتَ مجانا أسفل العمارة، حتى سلاماتي لها كانت ناصعة جد نظيفة عند التلاقي في المصعد، دون طائل، الحظ معها مائل، وفكرتُ قد تكون عنصرية، لا تحب الأجانب، شأنها طبعا، توزيع الساكنين على البيوت بقانون، لا يمنع التفكير حتى بأسوأ. بتلقائية إنتقامية تذكرت مَثل سكارى ومدمني مخدرات، ماجن، دارج بينهم، لا تعش حيث الضجيعة، ولا تضاجع حيث تعيش، وإلاّ لماذا لا تبالي بقمر أربعطش يدور في فلك حولها. أخيرا قلتُ لأبحث بإختصار عن غيرها تقولب حياتي.
شايف حضرتك أنا جذاب، ليس (كذاب) ها، جاذبية المقناطيز تعرفها، لكن يبدو لي لا حظ لي معهن، الجيب والعيب قبل إكتشاف ثانويتهما عائق. بلي، تعب العراق أخذ بعض لمعتي، لكن وحقك ما زلت برداغ بلور، ثريا إحترق معظم مصابيحها وظلت تضيئ، مثل حضارة بابل، تفو، عاهدت نفسي لا سياسة، و لا فقدان باقي كياسة، نفسي تكسرت بخيبات نعم، لكن التصليحات جارية للواجهة، تلميع شعر وأسنان وخلافه، لازم الواحد يعيش، ما أنا طويل ولا قصير، أتكلم مثلك لتفهمني، لست سمينا ولا ضعيفا، لا كبير ولا صغير سن، مرآتي تشاورني كل صباح: إمرأة تنتظرك يا صاح، إذهب إلى ساحة سيرغل توري تحظى بنجاح، جنة تطير العقل هناك، أطايب الكلام والعطور والوجوه في كل مكان، مكتبات كأنها الأشجار دانية الثمار، متاحة، مباحة، إقطف وإشرب عصيرها عوافي، إسترجع على مهل ما أخذت منك مدن الشر أيام القهر هناك، هنا مدينة فاضلة، لها شريعة عادلة، تشجعني موظفة المكتبة، مرآة الحمام، كل شئ هنا مشجع، كن آدميا حقيقيا، تسمع من داخلك، وجهك هذا لعبقري لو فكرت إيجابيا، لمهزوم لو ما تركت قالبك القديم، بلي، تعلمت الكثير، حتى عَلم الخدمة هنا مريح للنظر، خد إمرأة سويدية، وشوارع العاصمة مشفى لا منفى، كيف لا أفكر إيجابيا وأنا كل الوقت بين حسناوات مبتسمات مثل آلهة طيبة.
عشرات الِشباك والخطاطيف رميت في بحرهن، ما شبك ولا حَبَك في واحدة، الحرية لها أصول هنا، إقترحت على موظفة البلدية فتح كورس خاص بالعزابية، يعلمنا كيف نتحارش بالنسوان دون أساءة. أتيكيت تعني؟ أجبت: وعندي خبرة عشرين سنة وراء الخطوط الخلفية، لا تتصوروا العراقيين أقل شأنا من أوربيين في الطروحات الغرامية، هناك أحيانا لغو، هنا لغة. سألتني الموظفة: قل لي مثلا كيف تبدأ معها؟ أجبت يعتمد على الحرمة، إذا كانت من كربلاء الغمزة تكفي، إذا كانت من روسيا خرخشة الجيب، من ستوكهولم، الفطنة بالعيون. إستدعت الموظفة إمراة شابة من الغرفة المجاورة، قالت: راويني شطارتك لأعرف أنقل فكرتك إلى فوق أو نرميها مع المهملات. لم تكن إمرأة شابة حقيقة، بل كارثة ذهب تمشي على قدمين. قلت لهن: شوفوا التمثيل شئ والواقع شئ، الكلام مفتاح القلب، لو كان عندها فحل لماذا تتكلم معي، إذن حتى لو كان أدائي تيب توب تضحك عليّ وتتركني، خلونا في الجد إذن، ما عندها رجل إتركوها عليّ وشوفوا العجب. صدِّقني، ساح قلب الشابة، قالت يجب تبني إقتراحه، هذا الرجل يمكنه تغيير العالم بشنبه. بدون أن يهتز لي جفن أو شنب قلت بكل أدب: ماذا لو جربتي مفعوله كاملا إذن، ها، شايف النجاحات! إبتسمت الموظفة، قالت: سوف أرفع إقتراحك. بعد حين جاءنا الجواب: إقتراحك ثوري، حاليا يحكم بلديتنا المحافظون، حين يفوز الديمقراطيون بالإنتخابات القادمة نعمم إقتراحك. شفت إحترام الرأي والرأي المضاد هنا؟ الآن أنت متأكد أيضا من طول باعي في قضايا الغرام، وتسألني لماذا أعشق السويد؟ بابا، بلد حتى الحمير فيه محترمة، كيف لا أعشقه؟ أنظر إلى ما جرى.
طلعت من مترو داندي ريد شوكهوس، على السلم العريض شبه الخالي إلتقيتها عن مبعدة، وجها لوجه، عينين بعينين، شفتين بشفتين، أعجوبة سماوية. صعد الدم في وجهي، عدت شابا في العشرين، إبتسمت هي، بلي، لي لا لغيري، هكذا الحب، صعقة على اليافوخ، رفسة على المؤخرة، صحوت وإذا هي تسحب حقيبة، إلى أعلى السلم. من بعيد سألتها، بصوت سمعه المئات: أساعدك؟ أومأت برأسها نعم. إنتقلت عبر الحاجز الحديدي وتناولت الحقيبة، وجهها المبتسم يعيد خلقي، جعلني أومن البشر أخوة قبل أن يكونوا عشاق أو قطاع طرق، صعدنا سوية إلى أعلى السلم، العينان بالعينين، الشفتان تحنان للشفتين، عناق صامت، عميق، ولا عناق بفايفر والبطل، قلت لنفسي حدثت المعجزة، لكن..
على السلم عرفتُ إنني أبحث عن نفسي، لا عن إمرأة، عن قيمة نفسي الحقيقية، لرفعها. لا تحقيق نفسي، بأي ثمن، يهون لو ما تعزز بنبل، معلوم لكل منا حكايته، لكن فقط حين يعرف الواحد موضوعها، بإجتهاد، بمصادفة، يغيّره، يرفعه أو يخفضه حسب تصريفه الموضوع، الخفض تفاهة ننساها، الرفعة للذاكرة نافعة، لذلك تروى وتصبح حكاية، لا لتخلد النفس، لا ليتعلم غيرك، بل لقيمتها في ذاتها.
تغيّر نوعي حصل على السلم، يا لعجب ما حدث مع تلك السويدية بنت الناس، إنبهار وذوبان أغرق الأرض، لحظات غيرت الأمة، توجب المزاح، أو غيره، أطلب موعدا منها، ولكن..
عن نبل ونزاهة تطوعت لمساعدتها، هكذا الباطن والظاهر، لا لإستغلال الموقف، ولا لحشر نفسي في طريقها، توجب أثبات هذا لها، لنفسي، حتى لو شجعتني على التمادي في حلمي. لأكون نفسي الجديدة السامية، لو فعلتُ العكس وطلبتُ الموعد غرقتُ في وضاعة، نعم، لأخسرها إمرأة باهرة، لكن أمامي فرصة أكون رجلا محترما، بعينيّ وعينيها، هكذا أيضا أعيش مرتاحا، أصبحتُ مخلوقا جديدا، أدافع عن نفسي ضد نفسي، تخلصت من نظرتها الساحرة، كنت أحتاجها، وقعت في هواها، وأكثر.. في العزة. أوصلك إلى الباص؟ إخترقتني، إبتسامتها فيلم غرامي يبكي البشرية. ردت: ما ألطفك، من هنا سهل سحب الحقيبة على عجلاتها، شكرا للمساعدة. خفضت رأسي، وسامتي ورجولتي أضاءت حتما، إنسحبتُ في أدب إلى الكشك القريب، لأبتاع بطاقة تلفون، ولم يكن هنا كل الموضوع.
لحقني شاب، معه سجل وقلم، إستأذن مني للكلام. تفضل.. تنحينا. قال: نرصد كم يمرون، كم يأبهون للآخر، لعلاج المجتمع أفضل، ساعدتَ تلك الفتاة، لماذا؟
دهشتُ، قلتُ: لأنها إحتاجت مساعدة!
أضاف مبتسما: لو كانت رجلا هل ساعدته أيضا؟
ـ نعم، إذا إحتاج مساعدة!
ـ ما دافعك للمساعدة؟
أجبت في دهشتي: المجتمع تعاون أفراد.
تطلع الشاب في عيني: لا تَزْعلْ رجاء، التي ساعدتها، ممثلة، من فريقنا، حزينة هناك، لا أدري ما حصل، تشكرك من قلبها حقا.
قلتُ مكلوما: اعتبرني نسيتُ الموضوع.
سألني: عندك مانع لو عرضنا المشهد بالتلفزيون؟
أجبت ملوعا: لا يهمني، ما عندي جهاز على أي حال.
وفي شقتي مساء طوقتني عينا الممثلة، إبتسامتها، طويلا.. البحر أمام النافذة بعيد. كلانا صامت. رأسي صاخب. العالم وراء البحر غير مبال تماما، هنا يرصدون مَن يأبه، وكيف يحفزون الطيبة..
وحزني إزداد، لأني وحيد، ولأن بغداد لا تأبه لأحد..
رن جرس الشقة فجأة... إستغربت...
جارتي بيدها زهرة: مشهد التلفزيون أبكاني... هل تقبل إعتذاري يا جاري!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* عن مجلة (الهلال) المصرية ـ نوفمبر 2008
08-أيار-2021
05-تموز-2019 | |
17-شباط-2018 | |
17-تشرين الثاني-2014 | |
08-آذار-2009 | |
06-كانون الأول-2008 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |