قفـــزة فـــوق النـــار
2009-01-09
أحاول الكتابة منذ السبت لكن الكلمات تذهب بناحية ويذهب الدم أيضا بناحية. على الدم أن يكون اسمك ليسقط ويسفك ويجد شيئا ينظر إليه، وعلى أجسادنا أن تتعلم الحراك بعد الموت. قراءة الدم تختلف عن قراءة الكلام، قراءة الكلام أسرع من قراءة الدم، الدم صامت حين يجري وحين ينبثق وحين يسفك، لا انجح بجمع الدم والحبر على ذات الورقة، شكراً لكم فقد لوثتم ما تبقى من معاطفنا بالصمت.
بالزقاق المقدسي المؤدي لسوق العطارين تجمع العشرات أمام شاشة بلازما معلقة عالياً تطل من محل بيع أدوات كهربائية كانوا كلهم واقفين، لا واقفين على وشك السير، واقفين كلهم صامتين، أنظارهم لا تتبع السائحات ولا تحاول ألسنتهم جعلهن يشترين وشاحاً أو كوفية أو قميصاً كتب عليه »هناك من يحبني بالقدس«. السائح الذي أمامي وسع خطوته أكثر وأسرع متجاوزا كل من أمامه كما يتجاوز حيوان جسد الخطر بكل طريقة دون أن يلمس أحدا ودون أن يراه احد، شاب لا يغطي وجهه سكب البنزين على ارض الزقاق وأشعل النار فهمت أن طريق الخروج من باب يافا هو هذه القفزة فوق النار، قفزت قبل أن تشتعل النار ويعلو لهبها، تزحلقت وكنت على وشك الوقوع حين امتدت لي يد ورفعتني، لم ينظر صاحبها ليده وهي تمتد ولم ينظر إليَّ، تابع مشاهدة المناظر المتتالية دون رحمة، كأن نظرة إليَّ تعني انه لن يرى بما يكفي ولن يكفيه ما سيراه، خسارة مشهد تعني خسارة كل مشهد، التقطت اليد لأنها كانت اللغة الوحيدة التي فهمتها تلك اللحظة بين النار وبوابة الهرب. فهمت أن شيئا حدث لكني لم افهم لم علينا أن نحرق أنفسنا لمجرد أنهم يحرقوننا، لماذا تعادل احتمالات إحراقهم إيانا احتمالات إحراقنا أنفسنا؟ احتمال أي موت يساوي احتمال الانتحار خطأ، احتمال الوقوف هو نفسه احتمال تهشيم كل شيء، فهل نعتلي اللهب الذي أعدوه لنا؟ أم نقف ليتساوى الوقوف والغرق. قبل أن يعلو اللهب جازفت، قلت قفزة واحدة فقط، قفزت كانت هناك يد لا تعرفني ولا تعرف أي وجه املك وأي وجه أضعت ولا تعرف أي وجه أصبحت، الرعب الذي رأيته بأعين أصحاب المحال التجارية وهم يغلقون حوانيتهم بسرعة كان كافيا لرد البحر عن غزة لكنه لم يكن كافياً لرد النار وتمجيد الموت!
»رصاص مصبوب« و»عناقيد الغضب« و»الجدار الواقي«، »مطر أول«، »نشيد الصفصافة«، »سفينة نوح« كلها أسماء متعددة للخوذة لكنها نافعة، جميلة حين يقف الجنود المتباكين وينعون رفيقهم ويقولون سقط في »مطر أول« وغنينا له وقت »نشيد الصفصافة« وانتقمنا له »بالجدار الواقي« وانتقمنا له وقت »قوس قزح« وانتقمنا له وقت »السماء الزرقاء« واخترعنا أسماء متواضعة أخرى وأكملنا الانتقام. عناوين ما أن يمر عليها نهار واحد حتى تبدو ورقة داسها دم كثير وأقدام أكثر، عليَّ أن أقول إنكم أكثر شاعرية مما اعتقدت حين تتعلق الأسماء بالموت! بموت غيركم بدلاً منكم!
بعد عنب غضبكم قلنا لن يحدث أسوأ مما حدث،
وبعد نشيد الصفصافة قلنا لن يحدث ما هو أسوأ مما حدث،
وبعد الجدار الواقي وسفينة نوح قلنا لن يحدث،
لكن بعدما توعدني سائق سيارة أجرة انه سيقتلني بالمرة القادمة إذا علم أني انوي التظاهر ضد كيّ ذاكرتي بالنسيان والهزيمة عرفت انه سيحدث موت طويل وسيمر فوج الجنود الأول ويقولون قطعنا دابر الموت بالموت فسيروا وحدكم إلى بقعة الضوء ربما ينتشلكم طائر، وسيمر الفوج الثاني ليقول حدث هنا شيء ما دون قصد، وحين يمر الفوج الثالث سيقول الجنود نذكر أنّا كنا هنا لكننا لا نذكر ما فعلناه، وحين يمر الفوج الرابع لن يتذكر الجنود شيئا، سيقولون لم يحدث شيء لم يكن هنا شيء، السماء فقط كانت تعكس ناراً ما!
أثمن حياة في غزة هي حياة جلعاد شاليط الجندي الإسرائيلي، مفارقة موجعة، لا شك أن لجلعاد رغيف الخبز الأبيض والفتات لعصفور يسليه، وجرعة الماء الصافية لجلعاد، فالحياة بغزة مهمة حتى الموت، جلعاد شاليط الورقة الرابحة الوحيدة الآن في كم الأوراق الساقطة فهل نتكوم تحتها؟ بظل هذه الورقة لا ننجح بالتوحد لا حول صوت الرصاص ولا حول راية بيضاء!
غزة تحت الحصار
غزة تحت النار
غزة أيضا تحت التراب...
إنها تحت دائما... تحت شيء ما لا يعني أن هناك ما هو تحت غزة سوى محاولتنا إتقان شيء أو إنهاء شيء، للفلسطيني ثلاثة ادوار دون خيارات، لاجئ، لاجئ ميت، ومات لأنه لاجئ، ثلاثة ادوار المشترك بينها انه تسبقها دائما كلمة سقط، سقط وهو يتذكر، سقط وهو يحاول أن يتذكر، سقط لأنه يتذكر وهناك الواقفون الذين لا يسقطون لأنهم لا ينجحون بنسيان كلمة. إنهاء دور اللاجئ، يعني بداية دور الميت وفي بداية دور الميت أول رفسة بعمر القاتل، ما سنفعله حتى تسقط السماء هو أن نتدرب على دور الميت، دور الميت يحتاج إلى تمرين طويل لأن الطريق إلى الموت طويل، فأين الخيمة؟
يريدونني غريقاً يا أبي،
يحب العدو أن يصحو على صوت الغرق، أي غرق، وهو يحب الغرق الصامت، إنه مفتون بالصمت، لكنه لم يصح ليجد غزة تغرق وتصبح كابوس البحر، لكنه ابتكر لنا غرقاً آخر، غرقاً تحت التراب، لا تغرق غزة وتريحكم من خطيئة دمها!! غزة لا تغرق بدمها كلياً ولا تغرق بدمكم كليا... ليس إلى الحد الذي يجعل البحر يريحكم من دور البطولة، أيحبكم البحر لدرجة انه قد يخوننا!.
كم انتم ضالعون بدمنا، ضالعون بالصمت، ضالعون بدمنا لأنكم ضالعون بالخوف، ماذا يعني السقوط الآن؟ ازدياد عدد القتلى أم ازدياد عدد الجلادين؟ تعالوا نخبركم قليلاً عن حدود الوطن وحدود الموت. دعونا نحلم، نحلم كما بالسابق على رقعة الخيمة فقط إن لم توافقوا دعونا نحلم برقعة الموت، فإن لم توافقوا فدعوا لنا رقعة من السماء نتذكر تحتها، تطلقون النار وتبكون ونطلق النار ونموت. وأنتم تحبون الحياة ويجد القتال طريقه إليكم والموت طريقه إلينا.! ونحن نحب الحياة لكن ليس بالقدر الكافي، فنحن نعتمد على أن تحبنا هي.
الحرب تحتاج إلى لحم وإلى جزارين ومسلخ كبير عرضه السماوات والأرض. طيارو جنود جيش الدفاع القتلة المأجورون يداهنون العصافير والريح، حفنة دولارات تجعلهم يوسعون المسلخ، أوسع وأوسع ويعدون تفاصيله بدقة غيم عال وشمس خائفة خلف سحب رمادية رؤية واضحة بها يمكن أن يقرأ المأجور الماركة المسجلة على قميص الهدف، يختارونهم طوال عيونهم ملونة زرقاء الأزرق يعكس النار بالصور الأجمل... ويبتلع غيمه الدخان، أعطوهم بدل الوجوه خوذا وبدل الساق أجنحة، يصلهم بالبريد ملف وحقيبة مليئة بالدولارات، كل له أهدافه وله حصته من الموت يخبرونهم، كلما كان الموت اقرب أخذا بيد الضحية دون تبديد وقت على الإقناع فإن مقاعدهم محجوزة بالموت القادم. رجفة خفيفة بالجناح رجفة خفيفة وتسترخي الأرض تحت القنابل تحت النار كرجفة امرأة، يختفي الهدف عن شاشة المسلخ، هدف لمعطف فرو ثمين للزوجة، غرفة جديدة للطفلة، مفتاح بيت رابع ينضم لثلاثة آخرين، السيارة الجديدة ستنتظر الموت القادم، حتى ذلك الموت الرحلة طويلة بين ركام الحرب والنسيان. حين يترجل القتلة المأجورون تداعب الشمس شعورهم راضين عن السماء ينظرون بساعاتهم عليهم، أن يسرعوا لأخذ الأطفال من روضاتهم وسؤال الحاضنة هل أكلت الطفلة كل رغيفها؟ ام استغنت عنه اليوم لبرميل الزبالة؟. في الليل يقترب الطيار من امرأته يهمس فيها قصفتُ غزة لتسقط بيروت ميتة بين ذراعي. مقاعد الموت كلها محجوزة كمقاعد العيد بكنيسة القيامة، الدفع مسبقاً!، لم لا تؤخرون موتنا لموعد آخر ربما لموت اسمه أجمل؟
غزة التي إذا رميت بها حجرا مات عشرة أطفال، وإذا رميت قنبلة تموت حتى الوردة التي أطلقنا عليها اسم الشهيد، وإذا مددت يدك تداعب شعر طفلة سعت إلى كفك عشرة رؤوس يتيمة. إنهم يعبروننا الآن... يحاولون عبورنا دون جسور. وبسرعة اذا عبرونا بنجاح فهذا يعني أنهم تجاوزوكم منذ زمن. إنهم يكتبون خطاباً... نحن أو انتم، ويوقعون أسفله نحن أو نحن.
فبأي موت تكوون ذاكرتنا!
بأي نسيان!
كلما متنا اكثر كلما تذكرنا اكثر!
(القدس)
عن جريدة السفير بالاتفاق مع الكاتبة
08-أيار-2021
09-كانون الثاني-2009 | |
21-أيار-2008 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |