هل تكون الكتابة عن المعتقلات كنظرة أورفيوس عودة قاتلة إلى الوراء
2007-12-31
أمن الممكن أن يسعى الكاتب بقدميه لخوض تجربة الاعتقال؟!
يحدث الأمر بالتأكيد، فهذا ما حصل معي حين بدأت بتدوين جزء من ذاكرة السجينات السياسيات، إذ كان سعيي للتدوين وكتابة نص كالذي كتبته أشبه بخوض تجربة اعتقال حقيقية! ولم أكن وحدي التي شاركت المعتقلات تجربتهن، النص أيضاً كان أسيراً لتلك التجربة الاستثنائية، كأن الكتابة، التي يفترض بها أن تكون فعل حرية، تحولت أثناء عملي في تلك الرواية التوثيقية إلى فعل اعتقال.
لكنها ليست المرة الأولى بالتأكيد.
كنت أقول لنفسي حين بدأت بالعمل، فالكتابة عن المعتقلات قديمة قدم المعتقلات ذاتها، لكن جملة فريدة النقاش(1)، وهي أول من سجّل تجربة المعتقل بقلم امرأة عربية بعد فترة سجنها الطويل في عهد السادات، غدت تيمة أساسية أمامي، كما هي تيمة في بلاد الطغاة، كل الطغاة:
(لم يعمل أحد بالسياسة من أبناء جيلي ويفلت من تجربة السجن.. أصبح السجن إذاً جزءاً من الوجدان الوطني العام).
على الرغم من أن المشروع بدأ مجرد مناوشة لتجربة نسائية بين صفوف (المعارضة)!، أو مجرد محاولة لإجهار الصوت في زمن الصمت حين تتحوّل الأنوثة، بمعناها التاريخي النظري والمكرّس، لتصبح قادرة على الوقوف في وجه الطغيان وظلمة السجون. لكن مع الزمن راحت الأشياء تتبدل أمامي، وكلما خضت أعمق في الكتابة كانت الحجب تنكشف وعدد المعتقلات، اللواتي رحت أكتشفهن كل يوم، يزداد ويزداد حتى فاق المئات من كافة الأطياف الإيديولوجية. ثم رحت أصطدم، أثناء بحثي، بالرعب المعشش في قلوب الكثيرات من المعتقلات، خاصة الإسلاميات منهن، ما جعل تجربتهن تبدو، على الرغم من كل المحاولات للإحاطة بها، ناقصة، فأية واحدة قابلتها منهن لم تجرؤ على الكلام، عدا استثناءات قليلة جداً، وسط هيمنة الخوف القديم في دواخلها، وأعتقد أن هناك بحقّ ما يبرر ذلك الخوف. لذلك كان لابد من اتباع أساليب مختلفة لكشف بعض الجوانب المتفرقة في تجاربهن الغنية، وفي كشف الحقيقة الأكثر غنى، بمعناها الإنساني المؤلم، من كل التجارب الأخرى.
الذي حدث أن أكثر من صبية أغلقت الهاتف في وجهي مرتعبة حين أخبرتها، مواربة، برغبتي في لقائها. أو أنها واعدتني في مكان ما ولم تأتِ. وأكثر من واحدة انهارت باكية في منتصف المقابلة جاعلة إياي أدخل معها في نوبة مريرة من البكاء. وكم أعيدت المقابلات مرتين وثلاثا وأربعا.
ـ أنت تعيدين نبش الجرح من جديد.. أرجوك لم أعد قادرة على ذلك.
قالت لي سناء وهي إحدى المعتقلات التي غدت صديقتي فيما بعد.
لكن الذي حدث أيضاً أن الكثيرات منهن، خصوصاً اليساريات، عملن على تقديم كل الدعم لتنكشف التجربة التي سبق وأن دونتها أكثر من صبية منهن بطرق شتى (كرواية الشرنقة لحسيبة عبد الرحمن ورواية عينك على السفينة لمي الحافظ وخمس دقائق فحسب للمعتقلة الإسلامية هبة دباغ). كما أن بعضهن، وهن مذكورات في كتابي، ساعدنني بوهبي دفاتر مذكراتهن في الداخل أو رسائلهن، كما فعلت ناهد وهي تقدم لي دفاتر يومياتها في السجن قائلة: إن لم تكتبيها فلربما بقيت في الدرج.. خذيها كي ترى النور.
بعضهن، كما لينا وهند وضحى، سفحن ذاكرتهن الوضاءة أمامي بدون أية حواجز، وكنّ في الحقيقة هن الكاتبات الحقيقيات ولست أنا.
لكن العديد من التساؤلات كانت تناوشني وأنا أبدأ الكتابة:
لِمَ الكتابة عن السجن؟ هل سيحقق النص الجمال المطلوب؟ هل سيغدو القارئ بعد القراءة كما كان قبلها؟ هل ستغيره حقاً؟ ثم أن الأهم أن المدوِنة، التي هي أنا، لم تعش تجربة الاعتقال، وللأمر سلبياته بالتأكيد. لكن الشيء الوحيد الذي كنت متأكدة منه أننا في حاجة إلى حرفية اللغة ودلالاتها كي نستطيع التعبير عن ذاكرة السجون المعششة في أرواحنا! كما نحن في حاجة إلى تجربة السجن المغروزة عميقاً فينا كي نهب اللغة واقعيتها المؤلمة حد الإنهاك! كما كنت أعتقد، ومازلت على اعتقادي، أن على الذي سيكتب عن السجن أن يختار بين أمرين أساسيين: الوفاء للتجربة غير العادية، أو الوفاء للكتابة. أنا شخصياً اخترت الأخيرة لإيماني بألا تجربة تستمر إلا حين تدوّن، والضياع سيكتب على كل شيء لم ينقش في الحجر. والغاية هي إخراج كتاب ممتع إلى قارئ مفترض، كتاب يحاول أن ينقل، لذلك القارئ أيضاً، بعض الويلات والانتهاكات التي ارتكبت بحق النساء دون أن يعلم بها.
بيد أن الكتابة تتحوّل قزماً في مواجهة المعيش، لأن ما تلمسه أجسادنا وأرواحنا، لمس الحقيقة، لا يمكن للغة، مهما فاحت منها رائحة التجربة، أن تجسده بعمقه الجوّاني.
ـ هذا ما يحدث تماماً.. تتغير كل نظرتنا إلى الحياة بعد أن نخرج!
أعقبت لينا حديثها.
ثم راحت تحدثني عن رواية «أنت جريح»، حيث يترجى الكاتب التركي أوردال أوز جسده، بلسان بطل روايته، كي يساعده أثناء التحقيق على الاحتمال، يترجّاه أن يصمد ليحمله سالماً إلى (منطقة الأمان). حين ينتهي التعذيب يشكر معتقل أوز جسده لتبدأ حياة السجن المتطاولة الممتدة. أخبرتني أن كلماته وحدها التي كانت ترنّ في أذنها وهي تتلقى ضربات الكرباج اللاسعة على باطن قدميها. بلسانها كان بطل الرواية يترجى جسدها أن اصمد، وبروحها كانت الرواية تنكتب! حين انتهى التعذيب شكرت هي الأخرى جسدها كما فعل بطل الرواية تماماً. لكن ما قرأته لينا، وبدا شديد التأثير قبل اعتقالها وجعلها تشهق منتحبة لساعات، تحوّل إلى حكاية هزيلة ومجتزأة إذا ما قورنت بالذي عاشته داخل المعتقل خلال سنوات سجنها الطويلة!
الكتابة والتجربة
الكتابة كما بدا لي فيما بعد أقل استعاراً بكثير من التجربة، لكن لابد من الكتابة في كافة الأحوال خصوصاً أن ما تمضيه المعتقلة في السجن يبرمجها لنوع من التهديم الذاتي(2)! وعليها أن تحارب ضد هذا الشعور الذي يبقى معها حتى عندما تخرج من السجن.
لكن لمَ لا يكون مجرّد نبشها لممارسات القمع هو طريقة للخلاص منها، طريقة لمقاومة ذاك التهديم الذاتي يأكلها من جوانيتها؟!.
في نظرة أخرى تبدو نظرة المعتقلة إلى سنواتها المنقضية في هواء السجن الفاسد كنظرة أورفيوس(3) إلى حبيبته! أي أنها بمجرد إعادة الذاكرة، عبر كتابتها، تعيد كل الألم والخوف والعتمة المنتظرة في الداخل.
ـ لكننا نكتشف حين نخرج أننا لم نعد كما كنا، وأن هناك خراباً عميقاً في الداخل ليس من السهل أن نتابع الحياة معه.. تصير تفاصيل العيش بعد السجن مختلفة تماماً عما كانت قبله!!.
قالت إحداهن.
الحب غير الحب! والفرح غير الفرح! حتى للذة طعم مختلف.. كأن الروح استحالت إلى روح أخرى! أو كأن ثمة مناطق حرقت في أنفسنا!
لكن ربما كان أهم ما استطاعت المعتقلات فعله هو أن يبقين أناساً، بكل ما تعنيه الكلمة من حياة وفاعلية، أن تسرن أبعد من طعم الرماد الذي بقي في أفواههن.
لكن هل تبدّل الكتابة طعم الرماد؟!. هل الكتابة عن «الوراء» كافية لتعود الأحلام، التي استطاعت السجينة تلوينها بعد الخروج من المعتقل، إلى رمادية العالم السفلي كما أعادت نظرة أورفيوس حبيبته إليها؟ أم هي محاولة لنبش ما دفن هناك وقتله إلى الأبد باصطحابه معنا إلى النور؟!!
كانت محاولاتي للكتابة عن نساء عشن تجارب متنوعة في المعتقلات ينبغي أن يكون بعيداً عن الصبغة السياسية وعبء إيديولوجياتها كما اقتنعت، وكان السؤال الأهم: كيف سيكون هذا وأنا أتكلم عن معتقلات سياسيات كانت الإيديولوجيا هي السبب في اعتقالهن لسنوات؟. الجواب: لقد تحدثت عنهن كنساء.. عن تفاصيلهن الجوانية الداخلية، عن أمومتهن وعشقهن، عن تفاصيل تعذيبهن واعتقالهن، عن الزمن الذي راح يعرّش على أجسادهن الماضية في قبرها المجازي. ورحت أحوّر في مستويات الروي مرة إلى الخارج، بنظرة راوٍ كلي المعرفة، ومرة إلى الداخل بلسان كل واحدة من المعتقلات، هذا ما جعل ذاكرة الاعتقال تنكتب بألسنة أكثر من ست عشرة معتقلة سياسية.
بعضهن كان التعذيب يشكل ذاكرتهن الأكثر وضوحاً على الرغم من مرور سنوات طويلة على اعتقالهن، حتى أنني كنت أشعر بلسع الكهرباء والكرباج وحرق أعقاب السجائر على جلدي.
الرجل
أخريات تحدثن عن الأغاني بقوتها التي لا تستطيع أية سلطة تقويضها، بأجنحتها القادرة على هزيمة أية جدران مهما علت وبدت عصيّة على الاختراق. وكان صوت بثينة وحميدة يضج في ممرات دماغي كأني هناك أتكئ على أحد جدران المنفردات وأعيش ليل الاعتقال البهيم.
الكثيرات أيضاً تحدثن عن الزمن باعتباره الجلاد الأول في المعتقل أو لنقل العدو الأكبر! وكيف يتبدل ويتحوّر ليغدو فكرة مهيمنة، ليغدو كل شيء ولا شيء في وقت واحد، كأنه هيولى تغلّف الأرواح والأجساد، فيغدو الزمن، بماهيته المتبدلة الديناميكية، ستاتيكياً في المعتقل. لكن الأمر، كما بدا لي، يختلف بين معتقلة ومعتقل باعتبار أن سنوات الزمن الستاتيكية كانت أقل وطأة على المعتقلة منها على المعتقل، وذلك لاعتبارات مختلفة منها أن سنوات سجن المعتقلين، بكافة الأطياف الإيديولوجية، كانت أكثر عدداً، ولأن المعتقلات عموماً سُجنَّ إما في فروع الأمن، لسنوات أقصاها خمس، أو في السجون المدنية مع المتهمات بجرائم جنائية! وتلك السجون كانت بشكل من الأشكال مجرد فسحة مصغّرة عن العالم السفلي خارجاً، وكان للتجربة خصوصيتها كذلك.
في كل الحالات كان الزمن في المعتقل يعني: المطلق.
الكثيرات منهن تكلمن عن تجاربهن كأمهات في الداخل، وشعرت أن ابني يُخطف مني كما حدث معهن، وأن آلام المخاض داهمتني في عتمة المهاجع كما داهمت ضحى ورنا وغيرهما.
الفكرة الأكثر إثارة كانت حضور الرجل في حياة المعتقلة، ذلك الحضور المشفوع على الدوام بالرغبة والخوف خصوصاً أن حضور الرجل في حياة المعتقلات، على عكس المعتقلين، كان حضوراً فيزيائياً، والسجانة الذكور موجودون في كل دقيقة من دقائق النهار وفي صمت الليل وجوانبه الغامضة.
لا يعرف البعض، وقد يعرف، ما يفعله صوت سجان يتناهى في صمت الليل إلى امرأة معتقلة منذ سنوات!! أو كيف يغدو حذاء عامل الصحية، المتروك بباب المهجع وهو يصلح الحمام، قادراً على بلبلة المعتقلات لأيام في سجن النساء.
كانت القصص تتوالد أمامي على مدى سنتين من عملي على ذاكرة المعتقلات. كانت القصص تتناقل، تكبر، وتتكرر بسيناريوهات مختلفة متباينة، ولن يكون هناك فرق بين الثمانينيات والتسعينيات وحتى السبعينيات، لأن السجون واحدة، ولأن الإنسان، مهما اختلف، واحد.
في النهاية كان العمل مع ذاكرة الاعتقال مزيجا غريبا من الغواية والإثارة والخوف والترقب والألم والانكسار والدهشة. وفي النهاية توصلت إلى حقيقة أن الذاكرة المستترة بألف حجاب وألف اعتبار، وجدران المعتقل كذلك، هما وحدهما الشاهدان على الحقيقة في النهاية. الأهم أني بعد المعرفة لم أعد المرأة ذاتها التي كنتها قبلها، وربما لن يعود القارئ قبل القراءة هو ذاته بعدها، وهذه هي غاية الكتابة الأولى كما أراها.
عندما أنهيت روايتي «نيغاتيف» أحسست أني أمضيت فترة كتابتها كما لو كنت معتقلة، ولن أنسى فترة اعتقالي تلك كما لم تنسَ أية معتقلة تجربة اعتقالها، ذلك أني عدت، بعد انتهاء النص، من معتقل الكتابة إلى الكتابة
بمعناها الأرحب والأعم.
(كاتبة سورية)
هوامش
(1) فريدة النقاش، السجن.. الوطن، دار الكلمة ودار النديم، بيروت .1980
(2) هذا ما يراه الكاتب برايتين برايتنباغ المعتقل في سجون النظام الأبيض في جنوب أفريقيا، وذلك في مقالته: يعلمنا السجن أننا سجناء. المنشورة في مجلة الكرمل/ ع 15 سنة .1985
(3) أورفيوس هو عازف القيثارة الساحر في الأسطورة اليونانية نزل الى أقاليم الموتى لإنقاذ حبيبته يوريدس التي توفيت شابة. وكان الشرط ألا يلتفت إليها حتى يبلغا النور، لكن هاجس فقدانها من جديد جعل أورفيوس يلتفت الى الوراء ليلقي نظرة واحدة لا غير بالقرب من المخرج. هكذا خسرها الى الأبد.
نشر بالاتفاق مع الكاتبة عن جريدة السفير
08-أيار-2021
09-تشرين الثاني-2019 | |
15-كانون الثاني-2013 | |
07-تشرين الأول-2012 | |
04-تشرين الأول-2012 | |
28-آب-2012 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |