شعراء "احتفالية دمشق عاصمة الثقافة العربية" الشباب
2009-02-07
أصوات نديّة تطلع من خارج المألوف الشعري ورتابته
تنطوي قراءة المجموعات الشعرية التي ضمّتها سلسلة إصدارات "الأمانة العامة لاحتفالية دمشق عاصمة الثقافة العربية" على متعة من نوع خاص بالنظر إلى "بكارة" خاصة وتحمل الكثير من القدرة على الإدهاش ، وبالنظر أيضا إلى الزخم الشعري الذي تغري به مجموعات السلسلة (12مجموعة) ، والتي تضم شاعرتين (هنادي زرقة وفيوليت محمد) والثانية منهما تشارك بإصدارها المطبوع الأول 0
قيس مصطفى ، تمّام تلاوي ، مناف محمد ، غياث المدهون ، محمد ديبو ، محمد أبو لبن ، فيوليت محمد ، جولان حاجي ، هنادي زرقة ، رائد وحش ، سامر محمد إسماعيل ، ومعاذ اللّحام هم أصحاب المجموعات الشعرية التي فازت في مسابقة "الأمانة العامة للاحتفالية" بإشراف الروائي خليل صويلح ولجنة تحكيم ضمّت الشعراء عادل محمود ، حازم العظمة ، ورشا عمران0 بعضهم صدرت له من قبل مجموعة شعرية أو أكثر فيما كلهم ينضوون تحت شرط المسابقة الأهم ، وهو أنهم تحت سن الخامسة والثلاثين من العمر0
بداية لا بد من الإشارة إلى تنوع المستويات الفنية بين شعراء هذه السلسلة حيث يمكننا الحديث عن ثلاثة طوابق تسكنها المجموعات ، وهي تعكس – وإلى حد ما – المواهب من جهة ، والخبرة من جهة أخرى ، فبعض شعراء هذه السلسلة يمكن وصفهم بالمكرّسين تبعا لانتشارهم وتجاربهم الشعرية الطويلة نسبيا ، فيما البعض الآخر لا يزال يبحث عن موطئ قدم لتجربته0
نشير هنا إلى أن الطابع الذي يغلب على تجارب السلسلة هو قصيدة النثر ، فيما يجمع تمّام تلّاوي قصائده التفعيلية ببعض تجارب قصيدة النثر ويفعل الشيء ذاته غياث المدهون ما يشي بصدور مجموعتيهما في لحظة تحوّل إلى طلاقة قصيدة النثر وأسلوبها0
رائد وحش : لا أحد يحلم كأحد
بين الفانتازيا والحلم يتجول رائد وحش دون أن يبتعد خلال تجوّله عن الواقع مكانا ومصيرا فنراه يكتب باحتفالية خاصة بالعالم والوجود من خلال رؤية تفاصيلهما بحدقة تعيد تشكيلهما على هواها0
هو شاعر المشهد الفانتازي وشبه السوريالي ، نقول شبه السوريالي لأننا نجده في سياقات جمله الشعرية المنفلتة من "عقلانية" الكتابة الواقعية يحرص أن يضعنا كل مرة في قلب الواقع كي نرى حجم الخراب الذي يعصف بالأرواح وينهك الأحلام البسيطة 0
في قصيدة افتتاحية بعنوان "سأتزوج إنجيلينا جولي" نقرأ :
"سأقطع المحيط سباحة
وكلّي ثقة أن الحب موصلي إليك
وحين أتعب سيمشيني على الماء"0
في سياق شعرية كهذه يمكن ملاحظة شغف رائد وحش بكتابة شعرية من قلب الحلم ولكن في مفارقته الساخرة للواقع ، فهو يذهب بكلية قصيدته نحو تحميل حلمه الفانتازي كل ما يراه مفقودا وغائبا ، وهو في ذلك يضع الفقد تحت أنوار كاشفة :
"عليك اللعنة يا حبيبتي!!
منذ أرادتك نفسي
وأنت تتبنّين زنوجا
وتتركيني أقلّ من يتيم0
وتتزوجين داخل الشاشة وخارجها ،
جاعلة مني ديكا يبيض عزوبية"0
في الكتاب لافتة هي الموضوعات ، ولافت أكثر اللغة التي تناوشها التي توجّه صور رائد وتمنحه نوافذ للكتابة الشعرية مختلفة وتستحق الإنتباه0
كتاب رائد وحش "لا أحد يحلم كأحد" ، تجربة تستحق القراءة بغنى عوالمها ، وتنوع زوايا نظر الشاعر والتفاتاته ، خصوصا وأن وحش يكتب محتفلا بالحياة حتى في تلك القصائد التي تقطر أسى ولوعة0
قيس مصطفى : أبحث عنك على Google
من لغة أخرى ، ومناخات مختلفة تأتي قصائد قيس مصطفى في مجموعته الأولى وفيها نقع على قصيدة نثرية تنشغل برسم مشاهد لها وقع الضربة الخاطفة 0 قيس مصطفى يتجول بين "خواطره" وبالأدق هواجسه الشعرية والإنسانية بولع من يرغب في محاكمة المخيلة وزجها بشدة في أتون فوضاه الجميلة0 هي قصائد وحشة خاصة تنبني على ترويض التناقض وجعله ممكنا وقابلا للاستدراج :
"ستجيئين
وستعرفين أنك خسرت كثيرا
كل تلك الأشياء
التي أظن أنك ستربحينها
ستجيئين
وسأعرف أني ربحت كثيرا
كل تلك الأشياء
التي لم يعد لها قيمة"0
في قصائد قيس مصطفى قيم تشكيلية تنجح في تجاوز الكثير من عثرات البدايات الأولى ، وبالذات في تلك القصائد التي تحمل شجنا حارا وتمتلك في الوقت ذاته جاذبيتها الفنية وألقها المشغول بعناية واحتراف ، وهو في القصائد كلها يبدو مشغولا بفكرة كتابة شعرية تتأسّس على "سردية" من نوع خاص ، سردية تحسن معها الأنا "الراوية" البوح بأشجانها في سلاسة وجمالية0
"كنت أصب لك الشاي
فلا يعجبني السكر المنثور على الطاولة
يثير بي إحساسا بالنمل ينهش عيني اليسرى
لا أحد هنا
ولست شايا
لكني أشعر بالنمل يأكل قلبي"0
أمام قصائد مجموعة قيس مصطفى أجدني متفائلا بتجربة شعرية ستنضج أكثر فتعطي 0
تمّام تلاوي : تفسير جسمك في المعاجم
هي فيما أظن المجموعة الشعرية الثالثة للشاعر تمّام تلاوي الذي يصفه البعض ب"ملك الجوائز" ، فهذا الشاعر الشاب اقتحم الحياة الشعرية السورية بقوة خلال السنوات القليلة الفائتة0 هو لا يزال في فضاء قصيدة التفعيلة عموما ، وإن كان يقدم بعض التجارب في قصيدة النثر هي الأولى له بالتأكيد 0
في المجموعة التي ين أيدينا لا نجد اختلافا بيّنا عن مجموعاته الشعرية السّابقة ، فتمّام كعادته نجده مشغولا بنسيج لغوي يمزج التجريب اللغوي بفضاءات الصور الشعرية والأفكار0
هو يكتب من مساحة تقارب النشيد ولكنها لا تتطابق معه ، إذ تفلت كغزالة من براثن شباكه0
تمّام تلاوي "يغني" ، ولكنه في غنائه يشبه نايا وحيدا منعزلا يطلق أحزان حبه :
"الحافظين فروجهم
والحافظات
ندموا على ما فاتهم
من ذكريات"0
"بيني وبين أصابعي
أسرار كل نهودهنّ
وعلى فمي
وفمي رسول شفاههنّ
على فمي أخبارهنّ
من شاء منكم أن يشاهد عريهنّ
إذن ليفتح دفتري
وليدخلنّ"0
مع ذلك كله يبدو تمّام في تجاربه "النثرية" القليلة في المجموعة وقد أطلّ بوجه آخر أكثر لياقة لكتابة شعرية تنفلت من أية ضوابط وتبشر بجمالية أعلى ، هو الذي يمتلك ناصية الشعر ويعرف ببراعة كيف يعيد تشكيل عالمه الشعري0
فيوليت محمد : بعد ذلك ستعرف
الشاعرة فيوليت محمد لم نقرأ لها من قبل في الصحف الورقية ، أو حتى في المواقع الالكترونية ، ومجموعتها "بعد ذلك ستعرف" هي كتابها الشعري الأول0
في قصائد فيوليت بوح أنثوي عفوي ، بسيط وبالغ المباشرة ، فهي تذهب مباشرة إلى مناجاة حبيب غائب لكنه يحضر في كل الأشياء التي تحيط بها والشاعرة تراه بلوعة الفقد الذي نجده طاغيا0
هي قصائد الأسى على حكايات حب لا تعود ، لفتاة في مقتبل العمر ترى العالم من حدقتين يرهقهما التذكّر :
"أرسل لنفسي الرّسائل
سعيدة جدا عندما
أعرف أن أحدا
يفهمني كما تفعل أناي"0
أمام قصائد فيوليت محمد نتأمّل تجربة تحتاج أن تختمر أكثر ، أن تنضج أرغفتها كي تأتي مائدة الشعر أشهى 0هي تكتب قصيدة تبتغي الصدق أكثر من سعيها وراء حبكة أو صياغة جملة أو اصطياد صورة ، بل إنها تنجح حين تنجح بالاتكاء على تلك البساطة التي تجانب القصدية وتتنكب عنها0
مع ذلك يمكن التيقن من قصائد ومقطوعات كثيرة في المجموعة نجحت في القبض على جمرة الشعر ، وأطلقت هتافها فتردد عميقا في أرواحنا ، ولعلّها بالذات تلك القصائد التي كتبتها فيوليت بروح الشعر الصافي ، البسيط والمؤسس من كلمات ذات علاقة وشيجة بالصورة والمشهد اللذين يأتيان من حياتها وواقعها في علاقتهما بمخيلتها الطازجة والمسكونة بالحب0
أهم ما في كتاب فيوليت محمد الشعري الأول هو بالتأكيد تلك اللّمسة الأنثوية الطالعة من بداهات بسيطة تشتعل فيها اللّغة الموحية الممزوجة بسردية أليفة :
"دخل عينيها بقوة
ولم يعتذر عن الظلام
لم تحزن00وكان سعيدا
لأنها زرعته هناك
في الأعلى
في عروة الفستان"0
هنادي زرقة : زائد عن حاجتي
من مقام آخر تطلع قصائد مجموعة هنادي زرقة "زائد عن حاجتي" ، الشاعرة التي نشرت من قبل أكثر من مجموعة ، وامتلكت خبرة الكتابة وتميزت في زحام من يكتبون اليوم قصيدة النثر من خلال موهبة واضحة تضيف إليها هنادي اليوم خبرة وحرفية لا يعيبان الشعر بل يمنحانه الجدّة0
"زائد عن حاجتي" يصح أن نقول أنها قصائد وحشة في غياب الحب ، مثلما هي قصائد وجد المرأة بذاتها الأنثوية التي تفيض على أيامها فتدفعها إلى رؤية كل الأشياء بحدقة مسكونة بالصورة0
الصورة ذاتها نراها تتلألأ في قصائد هنادي زرقة وتنسج سردياتها بحركية تعبث بالساكن وتدفعه إلى تشكيل نفسه0
نتأمّل قصائد المجموعة الجديدة فنعثر على حرفية أعلى في سبك الجملة الشعرية ، وترويضها على الدخول في عوالم وفضاءات تزدحم بالرؤى كما بالحكايات الصغيرة ، الحكايات نصف المباح بها ، والمشتعلة بضوء الخيال وجموح الروح الفردية في بحثها عن نفسها وعن تفاصيل محيطها ، والأهم في بلاغة تعبيرها عن ذلك كله :
"شمعة
شمعة
أضع سنّي على قالب الحلوى
أفكّر
هل بإمكاني
أن
أبدأ
من الشمعة الأولى"0
في "زائد عن حاجتي" ثمة خروج من "نثرية" قصيدة النثر ، نعني بهذا التخلّص من لا إنتقائية الكتابة النثرية ، والعثور بمهارة على تلك الجملة التي تجمع الرّشاقة إلى الكلمات الموحية إلى تآلف الكلمات واقتدارها على تكثيف المشهد ومنحه شاعريته ، خصوصا وأنها تكتب لوحات حيّة تندلع من منبعين هامين ، الذاكرة والمخيلة ، على ما في استدراجهما إلى عالم الشعر من متطلبات الموهبة والرّهافة0
هنادي زرقة تكتب شغوفة بلعبة صعبة المراس : أن تغرس البساطة في عمق المشاهد المركّبة0 هي لعبة الشعر إذ تتنامي أصابعه وتحسن حياكة الكلام0
في مقطع من قصيدة بعنوان "جسد" نقرأ :
"هو جسدي
أنظر إليه
كل يوم
أعجب به
وأقول :
تستحق أن تكون جسدا
لامرأة مثلي
حين تعب جسدي
كم تمنيت
لو أنه لامرأة أخرى"0
"زائد عن حاجتي" تجربة جديدة لشاعرة حققت حضورا من قبل ، وها هي تتابع صعودها بجمالية وحميمية تضعها بين أهم من يكتبن القصيدة الجديدة في سوريا اليوم0
محمد أبو لبن : مفارقة العابر
أعتقد دون جزم ، أنها المجموعة الأولى للشاعر محمد أبو لبن0
هي قصائد حميمة ، بل إنها تطلع من الأمكنة الأكثر علاقة بالروح والحياة لأنها تنشغل بكتابة الحياة ذاتها وتقديمها في سطور شعرية عاصفة وذات صخب يليق بالمعاني التي تناوشها ، والتي تبدو أكثر الأحيان وثيقة الصلة بشبيه في الواقع ، شبيه تتجاوزه إلى تشكيلية أخرى وتعبيرية مغايرة0
محمد أبو لبن يكتب أحزانه الفردية كفلسطيني وكشاعر يعرف كيف يغادر لغة الخطابة وينهل من لغة شجيّة تحترف التعبير عن الاغتراب والقهر اليومي وتحسن رسم الأحلام الصغيرة والهتافات الخافتة ، إذ يستفيد من تجربة الشعر الفلسطيني في نماذجه الأكثر جمالية وفنيّة فيؤسس لنفسه حيوية لا تتكئ على نبل الموضوعات والقضايا الكبرى ، قدر التوغل في شقوق الرّوح وإدراك أن الشعر هو قبل أي شيء آخر جماليات فنية وإمكانات تعبيرية :
"عليك أن تنضو عن النهار
الغمام
كسل الحلم ،
تكسُر ضوئه على شبابيك موصدة000
وتترك فيه ، لتوجس الرؤيا ،
مسحة من ضباب"0
اللافت في تجربة أبو لبن الشعرية هذه انحياز شاعرها لرغبته في مخاطبة روحه بألفة ، واستحضار لغة الحلم بانتشالها من التفاصيل العادية والجزئيات اليومية العابرة وبالغة الرّتابة0 إنه يصنع شاعريته بمزيج من العفوية والحرفية المدروسة والتي تجعل القصائد أقرب إلى تكوينات تشكيلية عالية الصخب رغم همس كلماتها :
"ضع يدك على مقعد دراستنا القديم
وتحسّس
أعمارا مرّت من هنا
تركت في نفسها أثرا ،ذكرى لاسم ، أو رسما000
خطوط تتلامس وتتداخل ، تتباعد وتنحني ،
تغور في الخشب أو تطفو000
بلا معنى
إن هي إلا زلات قلم عن دفتر
أو ظلال ساعات يملؤها حضور مدرّس واحد
كتاب واحد
لباس مدرسي واحد000
وشكل حياة موحّد"0
في قصائد أبو لبن انتباه لافت لكل ما يجعل العادي مشتعلا وطافحا بالبريق0 إنها الجملة الشعرية التي "تقص" باقتضاب ، وتعرف كيف تقشّر من سطورها الزوائد والثرثرات كي تأتي خفيفة ومكتملة بالمعاني0
هي مجموعة أولى تعد بالكثير وتقدم شاعرها في زي شعري أنيق0
جولان حاجي : ثمة من يراك وحشا
ليست هي تجربته الأولى ، فجولان حاجي سبق أن صدرت له غير مجموعة شعرية ، كما سبق له النشر كثيرا في الصحف الورقية والمواقع الالكترونية0 هو يكتب من ركن قصي ، هادئ وقليل الضوء ، ومن ذلك الركن بالذات يواصل تأمّل كل ما يمر به ويحيطه من حوادث وناس يمرون وتختفي صورهم تاركة له خطوطها وبعض تفاصيلها تسكن ذاكرته فيستعيدها في سطور القصائد0
جولان حاجي في قصائد هذه المجموعة يكتب شهادات روحية يثقلها الفقد وتعصف بها الوحدة وحمّى الاعتراف بفساد العالم وفوضاه0
نتأمّل قصائده فتأخذنا "حكايات" حياة تنزف رغبة واشتهاء لصور أخرى0 إنه يحترف قراءة الوجد الذي يتأسس في التفاصيل الصغيرة التي تروي دون كلل وبالصور الشعرية التي تشكل صلب شاعرية جولان وأهم أدواته الفنية ، هو الذي يطمح لرسم صور الكلام واستنطاق الرسوم في قصائد تنبض بحياة لا تشبه كثيرا أصولها الواقعية :
"أنصتُ طويلا
حتى ما عدت وحيدا
ما عدت أطيق هذا الصمت
بين أقدام الضباب الزرقاء0
زرت المنسيّ ، عبدت المنتحر0
حوصرت لأتوسّل
الظلال التي اقتصّت
مثرثرة : استجر بمن تشاء"0
هي واحدة من أجمل وأهم مجموعات السلسلة كلها ، بما امتلكته من حرفية عالية في سبك الجملة الشعرية وصياغتها بأكثر الأشكال رشاقة وجمالية فنية0 الشاعر هنا يعيد تأثيث القصيدة بالكلمات المزدحمة بتعبيريتها والمحمّلة بكثافة المعنى دون إرهاق0 إنه يكتب من حضور واقعي طافح يعرف كيف يروّضه ليدخل القصيدة ويكتب نفسه ، ومن يقرأ قصائد "ثمة من يراك وحشا" يتوقف طويلا أمام الحضور البهي لمشاهد وحالات ومواقف إنسانية نراها تحضر متشحة بإزار الشعر دون اختلال بل بكثير من الانتباه للعلاقة الخفية بين الكلمات والصور وما يمكن أن نسميه هنا المناخ الشعري الذي نظن أنه يأتي مفعما بالحرارة ومفتوحا على رؤية وتأمّل طويلين :
"ككلمة وحيدة
تئنُ وتركض في البياض
من ورقة إلى أخرى
شعلة في قبضة إله أعمى
ثم ،
فوق صمت السرير
صليب يتورّد"0
تحيلنا قصائد جولان حاجي الجديدة إلى رؤية المشهد الشعري السوري الشاب خصوصا في فضاءات قصيدة النثر التي يكتبها كثر هذه الأيام فنرى كتابته من بين أكثر التجارب "تماسكا" وقدرة على الدفاع عن هذا اللون الجديد الذي تحترفه الشعرية وتنتمي إليه وتحمل إلى عوالمه أحزان وهموم الأجيال الجديدة ، وهو الذي يعرف كيف يبني قصائده بمعمار شعري بالغ الحرفية ومنفتح على الجدّة0
في التجارب الشعرية الأخرى سنبتعد عن الحديث عن مجموعة غياث المدهون الشعرية الثانية "كلما اتسعت المدينة ضاقت غرفتي" لأسباب موضوعية ، لنتناول "لو يخون الصديق" لمحمد ديبو ، "متسوّل الضوء" لسامر محمد إسماعيل ، "خذ ما شئت" لمناف محمد و"من أطلق النار أولا" لمعاذ اللحام0
محمد ديبو : لو يخون الصديق
تبدو مخيلة محمد ديبو الشعرية مشغولة كأكثر ما تكون بأسئلة الفكر وهمومه ، فهذا الشاعر الذي يكتب القصة القصيرة أيضا يوظف قصائده لاستدراج "موضوعات" هي غالبا ذات وشائج متينة بالحياة الواقعية0 إنه يفعل ذلك برغبة واضحة في إنجاز نص شعري ذا غاية ، نص يمكن زجّه في حمأة التطورات العاصفة واستنطاقه بصورتها0
"لو يخون الصديق" ليست هذا فقط ، فهي إلى جانبه تعكس روحا قلقة وتوترا إنسانيا يشغل حيز الشعر ودروبه ، والشاعر خلالها يجتهد كي يرسم لوحات مؤطرة بالأسود غالب الأحيان ، لوحات تكشف بعض ملامحه الداخلية وما يعتمل فيها من قلق :
"يتربّص بي كظل قديم
أضيَع عمري هربا
من مسارب صمته0
وفيٌ كحمل كاذب
رقيق كإله وثني
صديقي الوحيد
الوفي
الذي لا يخون"0
في كثير من قصائد المجوعة الأخرى نجد أنفسنا في حمأة جدل غير إيجابي بين عاملي الفكر وأسئلته واللغة الشعرية المتباطئة في التعبير عن نفسها بانسيابية0 أحسست في قصائد متعدّدة بأهمية الخروج الصحّي من معادلة الالتزام بالمعنى التقليدي الذي غرقت فيه قصيدة التفعيلة سابقا ، وهي حالة يمكن الوقوف على شيء كثير منها في قصائد محمد ديبو "لو يخون الصديق"0
أعتقد أن ديبو يكتب الأجمل حين يتخلص من هذا المناخ ، وهو ما نراه في قصيدة كهذه :
"من يدرك السرّ الذي
يجعلنا نتململ
حين يطول الحديث
مع رجل عاقل
ويجعلنا سعداء
نثرثر دون تململ
مع امرأة عابرة"0
سامر محمد إسماعيل : متسوّل الضوء
سامر محمد إسماعيل حالة شعرية خاصة0
إنه يجمع حطب الأفكار البسيطة واليومية ويشعل حرائق كثيرة ، حرائق نراه خلالها مشتعلا هو نفسه بالضوء0
قصائد مجموعته "متسوّل الضوء" تنتبه كثيرا إلى أفكارها ، صورها ، وتنتبه بالذات إلى خلق عالمها الشعري المنغمس بكليته في رسم مشاهد الحياة في حركتها الدائبة ، وفي حضور صورها كما تتبدى من حدقة الشاعر ومخيلته على السواء0 ذلك يقودنا بالتأكيد للإشارة إلى جماليات فنية تحدّ منها في حالات كثيرة حالة غياب التماسك وافتقاد القصائد إلى جملة شعرية متوازنة :
" لم نتحرر بعد
لم نتوحد عند شهوة غيمتين
الشمعة تخبو00
تذوب عند آخر المشهد
00
لم أدركك
لم تعرفيني00
كم أنت بعيدة00
تفلتين من ظلّي
ثم تفتحين النافذة لزائر غريب00
صباح الخير00"0
كتاب سامر إسماعيل "متسوّل الضوء" يبشّر بالقادم أكثر من تقديمه شعرا راهنا ، وهي بشارة نقع عليها في بعض قصائد المجموعة المكتوبة بحرفية أعلى ، والتي تنم عن موهبة قادمة0
مناف محمد : خذ ما شئت
كتاب مناف محمد الشعري يقترب كثيرا من كل ما هو خاص ، شخصي وبالغ الحميمية0 إنه يمزج اليومي بالهاجس والحلم ، وصورة الواقع في المخيلة بأفكار واقعية ، وكأنه يرغب أن تكون قصيدته مرآة مخيلته التي تحكي 0
هي تجربة أولى تعتني بإطلاق جمل شعرية في سياقات بسيطة السبك ، بل لعلّها تذهب إلى تكوينها النهائي بأدوات متقشفة ، بالمعنى الإيجابي ، الذي يسمح للجملة الشعرية أن ترسم اللوحة التي تريد بيسر أكبر ولياقة فنية تناسب:
" المنتظرون بقلق ،
أناسا تأخروا00
والمختبئون ،
من أناس يدخلون ،
وكثيرون00
كثيرون ،يمرّون من هناك ،
يمرّون من هنا00
وأنت جالس في بيتك ،
تفكر في الكرسي
الذي تجلس عليه عادة00
وفي وجوه تختبئ ،
وفي عيون ترقب00"
قصائد مناف محمد "خذ ما شئت" ، كما هي تجارب الشعراء الأولى ، تحمل هنات كان يمكن لنضج لاحق أن يتجاوزها ، ولكنها مع ذلك تحمل الكثير من جماليات الشعر وفنيّاته خصوصا وأن شاعرها ينتبه للعلاقة الوشيجة بين القصيدة الحديثة وبين تجوّلها الحر في العوالم الإنسانية ، الذاتية وذات الصلة بالروح0 إنه ينتبه لذلك وينغمس في محاولة التعبير عنه :
" على مقربة
من منعطف الثلاثين00
أكون قد أهديت آلاف النجمات إلى00
النساء اللواتي أحببت0
بعده00أو الآ أنت فقط00
أهديت القلادة المرصّعة
بكل النجوم ،
وسأستريح في حضن الريح00
إلى الأبد"0
معاذ اللحام : من أطلق الرّصاص أولا
هي أيضا المجموعة الأولى لشاعرها0
معاذ اللّحام يكتب من فضاء العلاقة بالمرأة ، التي تحضر في القصائد كنسغ حقيقي0 إنه يذهب إلى استحضار المرأة الحبيبة غاليا00 استحضار صورها ، كلامها , من غياب نراه طافحا في القصائد0
شعرية معاذ اللّحام تسكن المشاهد التي تروي تفاصيل حياة ، وهي تفعل ذلك باعتناء ملحوظ برشاقة الجملة ، التي تأتي خفيفة ، زاهية رغم الطابع الحزين لكثير من قصائد المجموعة :
"كانت تحب العنب
وكان وحيدا
أمسك بحبة عن صغيرة وردية شفافة
مسها بباطن كفه
بأصابعه الخمسين تباعا
مررها على شفاهه ببطء
على محيط فمه
على عنقه
ومن جديد على محيط فمه
ثمّ أعادها إلى الصحن
كان الآن مقتنعا تماما
أنها حبّة عنب وردية صغيرة شفافة
وليست حلمة"
تستحق تجربة معاذ اللّحام الأولى هي أيضا أن تختمر أكثر ، سواء في علاقتها باللّغة ، أو حتى بالعام المحيط وبفن الشعر ، فهي تجربة أولى تحمل البشارة وتهتف للآتي بجمال0
راسم المدهون
08-أيار-2021
06-حزيران-2020 | |
16-شباط-2011 | |
"كثيرة أنت" للشاعرة السورية سوزان ابراهيم وحيدة ولي ما لـيس لهنّ |
27-تموز-2010 |
23-تموز-2010 | |
09-أيار-2010 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |