قصتان قصيرتان
2009-02-19
ضربات موفّقة
خاص ألف
قالت الأولى:
كان دائماً يطيح بي أرضاً، أعرف أنّه يفوقني قوّة جسديّة، لكن كنت أشعر بالقهر الذي تعقبه متعة، متعة المشاكسة.
أعود للتحرّش به، أخلع قبّعته عن رأسه، وأطوّح بها في الهواء، مع ركلة موجّهة من قدمي إلى خاصرته، فيركض خلفي على الشاطئ، أهرب، وأمنح وثباته فرصة للحاق بي، يلتقطني، ثمّ يطيح بي أرضاً. كنت في السابعة وكان في التاسعة.
مرّ صيف، وصيف، وصيف، وظلّ يطيح بي أرضاً...
ثمّ مرّ عشرون صيفاً، ولم يمرّ على الشاطئ، لم يقل حتّى وداعاً!
وعاد ذات صيف، وعلى خصره صبيّة، لم يقل شيئاً، لم يشاكسني، لم أشاكسه، ولم نتعارك، فقط أطاح
بي أرضاً!
قالت الثانية:
أمّا أنا، فكان يعلّمني الرسم، يمسك يدي بحنوّ، يجوب بها على الورق الأبيض، نستبدل الألوان، والخطوط، والأشكال، ثمّ يجتاحني عبث الطفولة، فأدفع يده، تضطرب الورقة، والخطوط، وتنسكب الألوان، فيدخل في طور استفزاز، يمسك يدي بقسوة، أصرخ، يزداد قسوة، أسحب، فيسحب، فتدمي كفّي ساعته، خاتمه، حافّة الريشة المعدنيّة...
كنت في السابعة ربّما أيضاً، حينما حصلت على ندبة في ظاهر كفّي...
الوقت الطويل الذي مرّ، حثّه على أن يلتقطني بخفّة، فيمسكني بشدّة، هصرني بين ذراعيه حتّى أفقدني السيطرة على جسدي، بقواي المتبقّية دفعته، فدخل في طور استفزاز، أفلتني، وأخذ كفّي رهينة، ضغط عليها بقسوة، صرخت، ازداد قسوة، حاولت التفلّت، فأدمت كفّي ساعته، خاتمه...
صار في ظاهر كفّي ندبتان بينهما عشرون سنة!
فلسفة
في ذلك الصباح، دخلت المعلّمة الصفّ، وفجأتني بقولٍ باردٍ تلتهُ كما تتلو علينا الوظائف اليوميّة:
" يا أطفال: لقد غرقَ زميلكم صالح في النهر! "
"صالح"، صديقي! رجّ الخبرُ جمجمتي، ولم يبقَ منّي سوى عصبٍ واحدٍ يسمعُ قول المعلّمة :
" أرأيتُم نهاية العبث! لقد عبثَ "صالح" منذُ مدّة بسور المدرسة، حطّم بعض أجزائه، وخرج ليلعب عند النهر، الذي عاقبهُ، وابتلعهُ. هذا هو جزاء المفسدين، لابدّ من أن يبتلعهم النهر، فخذوا حذركم يا أطفال وكونوا طيّبين!".
"صالح"، صديقي! لكنّهُ كان طيّباً، ثمّ إنّهُ لم يُحطّم سور المدرسة عن قصد، ولم يكن وحدهُ، كان يلعبُ مع الرّفاق، آه يا إلهي لماذا" صالح"! واللّه إنّهُ طيّب، إنّهُ صديقي. وانزويتُ في مقعدي أبكي"صالح"، وقلبي يختنقُ غضباً، وحقداً على النهر، وعلى المعلّمة. لم تُقنعني فلسفتُها، شعرتُ أنّ هناك خللاً ما، لأنّني أعرفُ نوايا" صالح" تماماً .
منذ ذلكَ اليوم، أذهبُ كلّ عصرٍ إلى النهر، فأرى "صالح" يضربُ سطح الماء بيديهِ، ورجليهِ ثمّ يغطُّ، يغطُّ إلى تحت، ويستكين، أراهُ تحت الماء مفتوح العينين يراقبُ اخضرار التّموّجات واصفرارها، وينتظرُ شيئاً، ينتظرُ أحداً، وهو يقرأ" المعوّذات"، ثمّ يقرأُ "والضُّحى"،
ويختنقُ بالأمل، ويشرقُ بنَفَسهِ، بالماء، يدورُ، يدورُ، يُحاولُ، يضربُ، يغطُّ، يختنقُ، صالح، صالح، ارحمهُ يا ربّ!
وتأتي الرّحمة، ويسكنُ"صالح"، ويسكنُ النهر، فيضربُ الحقدُ قلبي، وأجمعُ أحجاري لأضربَ النهر، ورغبتي تأكلني، رغبتي في أن أضربَ المعلّمة، لأنّها كانت.. كانت .. لا تقول الحقيقة...
لقد عشتُ كلّ عمري مخدوعةً بفلسفتها، عشتُ كلّ عمري أُحلّلُ الحياة على طريقتها:" إذا أفسدتَ شيئاً، فلا بدّ من أن يبتلعكَ النهر".
كلّ عصر، حين أذهبُ إلى النهر، أراهُ يغصُّ بالجثث: بحثتُ عن جثّة رئيس البلديّة الذي أفسد سور المدينة الأثريّ أمس، وهدمهُ. بحثتُ عن جثّة ذلك الرجل الذي يعيشُ في حارة " السّرايا"، لقد أفسد قلب الفتاة التي أحبّتهُ. بحثتُ عن جثثِ مديرين، ورؤساء، وموظّفين، وتجّار، وعسكر، أفسدوا ضمائر، وأجساداً وعقولاً، وسرقوا فرصاً، وأعماراً.
كم أشعر بالسكينة حينما أرى جثثهم في النهر! ولكن، عندما أعود إلى المدينة في المساء، كنتُ أرى قاماتهم جميعاً منتصبةً تمشي في الشّوارع، يُحيّيها الناسُ، تبيعُ، وتشتري، وتعيش! عشرون، ثلاثون عاماً وما يزالُ النهرُ يخدعني، وما أزالُ أحلمُ، وآملُ، وأرتطمُ، وألعنُ فلسفة المعلّمة. رحمة اللّه عليك يا "صالح"، يا صديقي!
شهلا العجيلي
08-أيار-2021
04-كانون الأول-2011 | |
31-تموز-2009 | |
12-تموز-2009 | |
08-تموز-2009 | |
30-حزيران-2009 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |