ديوان الشعر الأمريكي الجديد : التطريز بخيوط الضوء
2009-03-10
السحر الشعري الذي يطبع أجواء كتاب(ديوان الشعر الأمريكي الجديد) يرتكز على تأسيس فني معاصر يرسم خصوصيته خلال تجارب شعرية متنوّعة طازجة،ومختلفة الرؤيا ،تستطيع إنعاش القصيدة الحديثة بمعطيات لغوية جديدة و تصاوير بنيوية مغايرة للسائد ،تميّز الحالات الحسيّة المتناولة بشفافيتها المعلنة سريّاً بين النص والعاطفة، لالتقاط أدق التفاصيل اليومية وقولبتها في امتدادات شعرية أكثر ما يؤثر بها حمّى المكان ، واللوغوات الهلامية للزمن .
ففي افتتاحية الديوان يتحدث المترجم عن أصناف الشعراء المختارين وسبب انتقائه لهم،ومدى تأثيرهم في المشهد الشعري الأمريكي ،محافظاً على التنوع والتباين واختلاف الأجيال، مما يجعل الديوان مشوق لمكاشفاته التي ستأخذ القارئ في رحلة شعريّة مميزة نحو(إفريقية،و أسيا والمكسيك وأوربة )، حيث جذور الشعراء الاثنين والعشرين المختارين الذين كتبوا في أمريكا قصائدهم ممثلةً بالجيل المولود ما بعد الحرب العالمية الثانية.
يتجه أول شعراء هذا الديوان ،الشاعر(ويليس بارنستون) صوب الدمج الفعال بين الخطاب الفلسفي والرؤيا الشعرية،وخلق تناغم سلس بين جدلية الفكر وجماليات المجاز،ما يترك حالة تأمل لوقت طويل،وانقياد تكرار الإمعان بهاجس الاكتشاف، بذاك النفس العالق بحنجرة السؤال الصعب، ترى لماذا قال ذلك ..؟ من يخاطب .. ؟،دهش جديدة تقودك في هذا المقطع : ( إنني أنهارُ / لأصيرَ سائساً للحلم./تحت الحلم سماءٌ بيضاء/هذه العزلة موحشة/ونحن فيها شعاع ضوء )ص20 .
وبين ألق الغنائية الدرامية، وانفلات السردية المتعددة الطاغية على قصائد الشاعرة (لويز إردريتش) تبدو القصيدة متأثرة بطقوس الرواية بوصف الشاعرة روائية أيضاً،ففي ذلك ما يمنح النص وله الحكاية ولعنة الإيحاء الشعري التي تمكن الشاعرة من تفكيك كل ما يقتنصه أدبها إلى ما يشبه القصة، وإيصاله إلى المتلقي بانسيابية البطء الشعري : ( عبر خطواتٍ راقصةٍ قبيحةٍ./لا أعواد تعزفُ.لقد أخرستُ الأعوادَ!/أتابعُ حراستي في الحديقة المقصوصة،المشنّجة./أحتاجُ لبعض الصمت كي أسمعً خطوات رسولي/تمشي في دماغي.ذلك لأنني(ملكُ طيورِ البوم)./حيث أخطُرُ،لا ظلال تسقطُ/لدي مجاعاتٌ كثيرة،تلك المجاعات الرهيبة ، التي لا تعرفونها./ سادتي،إني أشحذُ مخالبي فوق عظامِكم)ص 36 – 37 .
وإلى الطبيعة و مخلوقاتها من غير البشر تعمل الشاعرة (روبرتا هيل وايتمان) على موضوع القطيعة التي يعيشها الإنسان المعاصر تجاه تلك المخلوقات،أي المخلوقات الآيلة إلى الانقراض حالياً،تبحث في إيديولوجياتها النفسية بأسلوب شعري أقرب ما يكون إلى الرثاء، والإنذار بأحزانها ونتائجها على الطبيعة البشرية،مستخدمةً ترميز حسيّ يطرز بالضوء قصائدها الباهرة،وفي مقاربتها للماضي بمزيج الشعر تتمكن من تكوين نص مختلف وناطق بحواسها،وفي ضفة أخرى تتناول الشاعرة الهمّ الإنساني في التوجع الكامن في خفايا الحياة اليومية ضمن حالة قريبة كثيراً إلى البوح الخاص للغاية : ( نرسم خريطة القلب /ونطحن العظام العتيقة /متى يحين الوقت ؟ / الوقت هو ذاك الشحّاذ /الذي يعيش في القبو./يملي علينا/ متى نتحرك، وكيف نحلم ) ص 52،تلعب كثيراً لهجة هذه الشاعرة بوعي القارئ ونبّئ بما قد لا يتوقعه القلب ،محتفظةً بتوقيت التنفس على عداد الدهشة من المفاجئات .!
أمّا الشاعر (ألبرتو ريوس) فاهتمامه كان بالتفاصيل الغائبة عن الشعر في أكثر المعهود،ليرصد بخفة دمه الإبداعية تشكيلاً لوني كما لو أنه يرسم على قماش المرح بلا مساحات إلى ما لا نهاية،لعبة أفكار على رقعة تغلي شعراً، ما يفتح شهية التعلق في مكنونات الرؤية وإقفال المتعة على التخيل المعتقد الذي يطالبنا به الشاعر في اللاوعي بأن نكتشفه، هي تفاصيل أقرب إلى الفنتازيا تتزاوج مع معطيات الواقع المهملة لتخرج حالة شعرية ناطقة بما يذهل، مثلاً من قصيدة بعنوان (رجل توقف فجأةً عن الحركة ) يقول : ( الروسي العجوز يبصق خوخةً / لها صوت الحشرجة/كان قد أخفاها في حنجرته/طوال هذه السنوات الموحشة) ص98،وأيضاً : ( الروسي العجوز يضع أناه على إصبعِهِ/كأنها ببغاء صغير/ثم يجلسها على الرفّ/مع الصور)ص100.
لا يكفي أن نتحدث عن شاعرين أو ثلاثة من الشعراء المختارين في ذاك الديون، ولكن هذا مجرد ضوء يلقى على عمل ضخم ومهم ومحط تداول لما يحمله من متغيرات جديدة إلى المشهد الراهن .
إن التخاطر الروحي الذي ينشأ بين القارئ وبين شعر هذا الديوان المتنوع، سيقوده في مسيرة عبر التاريخ لينبش جليد الحياة، ويريق ندى الفرح بومضات مشعّة بقوة، ومجاراة حقيقية تراهن على اجتياح تلك القصيدة للشعر السوري،ومدى تأثّرها بالحداثة، بالرغم من العثور على مناخات كلاسيكية أحياناً في رواق تلك القصائد إلاّ أن الدقّة الحرفية كانت هوية تمتهنها قرائح الشعراء في تلك القارة الكبيرة والبعيدة الواقعة في الضفة الأخرى من العالم والحلم و المغامرة والقريبة من طموحات شعرائها بزلزلة الواقع وخلق حياة مختلفة .
غير أن براعة الشاعر و المترجم " عابد اسماعيل " كان لها صداها وتأثيرها على كل الديوان من حيث تقديمه لكل شاعر بشكل مجاز وكثيف متحدثاً بمصداقية شعرية صرف يوثقها الحدث والمناسبة والتفسير النفسي أحياناً للطرق التي اعتمدها الشعراء في بناء قصائدهم، وكونه قريب من معظم أولئك الشعراء فهو أشدّ حفاظاً على أمانتهم بين يديه ، ولا سيما في مختصر سير حياتهم وظروفهم القابعة بتأثيرها على شعرهم،كان للمترجم دوراً مهم في تنظيم هذا الديوان وعنونة مقدمات لكل شاعر بطريقة نثرية تحمل النفس الشعري،ما يؤجل لحظة الاصطدام لدى القارئ،ويضيف معرفياً ثقافة ضرورية تلقي الضوء على البيئة التي تنتج هذا الشعر .
القصائد مكتوبة بنزق وجنون ولهو وحزن ومجازفة وخطاب ذاتي ومحاكة للخيال، مكتوبة بلغة الحلم وأحبار النبيذ بهوس التفاصيل الصغيرة وطبول الريح التي تقرع وحيدةً في غابات أمريكا تقرع من أجل حياة جديدة ..
ديوان الشعر الأمريكي الجديد فيه الكثير من مفاجأة الحبّ، وموسيقاه مشكّلة بين جاز وراب وروك أند رول على إيقاع الشعر الحديث مع الحفاظ على الفنية المميزة للغة.
نقلة نوعية في المشهد الثقافي مقرنةً مع الترجمات الرديئة التي تصدر من هنا وهناك،لأن غاية المترجم وجهده الاختصاصي في الشعر هو الحرص على منحنا ثقة ومتعة ونحن نشتهي الغوص في قصائد جديدة تشبهنا وتغيّر حياتنا في عواصف كلماتها ومرح رقصها مع أرواحنا.
عمر الشيخ
[email protected]
الكتاب : ديوان الشعر الأمريكي الجديد – شعر
المترجم : د.عابد اسماعيل
الناشر : دار المدى – دمشق 2008
08-أيار-2021
23-كانون الثاني-2021 | |
28-آذار-2020 | |
28-آذار-2020 | |
02-شباط-2019 | |
رواية «لولو» لعبير اسبر في طبعة ثانية شهية السرد بتكنيك سينمائي |
06-أيار-2009 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |