الطـــب النبــوي.. معرفـــة وعلــم .. وليس عجائب وأسراراً
2009-03-11
لم أكن أتصور أننا سندخل القرن الحادي والعشرين في ظل ازدهار الشعوذة والتنجيم والسحر الذي تخصص له اليوم قنوات فضائية بحالها، تحترف صناعة الأسرار وتتاجر بأوهام الناس تبيع وتشتري،
ويدفع العربي المسكين دم قلبه على شكل اتصالات ومتابعات حتى يتيسر له الحصول على الوهم الموعود، واستقبال نفخات ونفحات خاصة من حضرة صاحب القناة الذي يطل بطلعته الصبوحة من الصباح إلى المساء على الشاشة الكئيبة.
ومع أن غاية المقال واضحة ولكنني سأزيد في الإيضاح فالمقصود هنا هو تلك المحاولات المستمرة لاكتشاف العجائب (المذهلة) في الطب القديم، وما استودع من الأسرار في حبة البركة والباذنجان والإثمد والحجامة وغيرها، وإلقاء صفة القداسة على هذا اللون من التداوي على أساس أنه أكبر إنجازات الرسالة المعصومة التي بشر بها الرسول الكريم، وبالتالي تقديم علاجات وعقاقير لعلاج الصداع والإسهال والأورام والشوزفرانيا والقرحات المعدية والإنتانية باسم الشريعة.
بداية لا يمكن تجاوز حقيقة هامة في تاريخ الإسلام وهي اهتمام الرسول الكريم بالصحة والعافية، إنها جانب من مسؤوليته في رعاية الأمة والحرص عليها، وهي صورة لاهتمامه وتحصيله في معرفة النافع والضار من الأغذية والأمزجة الطبيعية والمركبة.
ولكن الأمة ابتليت في جملة ما ابتليت به من تقديس الماضي بتحنيط تاريخها وخبراتها والوقوف عند لحظة من الماضي، وهو سلوك رفضه النبي الكريم عندما واجه الجاهلية القرشية التي كانت تزعم الانتماء إلى الماضي المقدس: ملة إبراهيم، وكانت ترفع راية إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون، مع أن القرآن أوضح أن إبراهيم نفسه نادى قومه: أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم؟ قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون.
الطب النبوي ليس أسراراً مقدسة جاء بها فريق طبي ملائكي، يحمل عقاقير سماوية، مذيلة بحجاب معصوم، إنه بكل بساطة جزء من كفاح الإنسان في سبيل المعرفة، وجانب من مسؤولية النبي الكريم في حماية المجتمع وتأمبن الصحة والعافية بالخبرات المتاحة، وهي معرفة تم تطويرها وتجديدها عدة مرات في حياة النبي الكريم نفسه، واستمر تطويرها بعد رحيله على يد خبرات طبية كبيرة من المسلمين والمسيحيين، وقدمت معرفة طبية مذهلة في زمانها، وقد تطورت على يد مدارس طبية شهيرة كآل يوحنا بن ماسويه وآل قسطا بن لوقا وآل حنين بن إسحق وآل الرازي وآل ابن زهر، ولكنها وللأسف تجمدت فيما بعد عند لحظة من انطفاء العقل وانصرفت تبحث خلفاً، وذهبنا نلتمس الإعجاز في خبر الغابرين بدل أن نبني كما كانت أوائلنا تبني ونصنع مثلما صنعوا.
النبي الكريم حجم واحتجم، ولكن الحجامة التي مارسها الرسول لم تكن إلا طباً عربياً شائعاً، ثبت بالتجربة أنه ينشط الدورة الدموية ويساعد الإنسان على التخلص من بعض فضلاته، ومن هنا فقد مارسها الرسول، وانتفع بها، وليس في الحجامة أسرار مقدسة أو عجائب ميتافيزيقية، ولا هي في صلب رسالته، ومن غير المنطقي اليوم أن نسلط الضوء على عجائب الحجامة ونختصر العلم النبوي والطب النبوي بهذا العلاج الشعبي العربي القديم، بحيث يقال إن الغرب أنشأ المدن الطبية في كليفلاند وهامبورغ وليفربول، وطور التصوير الطبقي والمحوري والرنين المغناطيسي وتمكن من زرع الكبد والقلب والعين والأعضاء، وفتت الحصى بالليزر، ونحن حققنا الحجامة!!
بدون أدنى شك فإن النبي الكريم لو أدرك زماننا فإنه لن يقر أبداً ما يمارسه الحلاقون والحائكون والطباخون وفاضو الأشغال في القرن الحادي والعشرين حيث يحملون طناجرهم وكاساتهم وشناتيهم ويهرولون مع مطلع الربيع من دار إلى دار لإحياء السنة النبوية بكاسات الهوا!!
الطب النبوي من وجهة نظري ليس الحجامة والكي والتداوي بحبة البركة ودبس الرمان والدهن بالعسل، فهذه الأنواع من الطب الشعبي كانت أفضل ما عرفه العرب في الحجاز في القرن السابع الميلادي، ولكن العالم اكتسب بعد ذلك خبرات عظيمة، وأسهم فيها علماء عرب ومسلمون وتطور الأداء الطبي خلال القرون تطوراً مذهلاً، وتمكن علماء الإسلام ابن سينا والرازي وابن زهر وابن النفيس من استلام طب أبقراط وجالينوس وتطوير الطب النبوي للرسول الكريم وأسلموه بكفاءة واقتدار إلى روجر بيكون ولويس باستور وليستر وتمكنوا من استخراج عقار العافية من سم الأفعى القاتل، وانطلق الطب في ازدهار متسارع وتمكن من رسم الخريطة الجينية وبشر بعالم جديد يمكن فيه استئصال أوبئة بحالها عبر فهم الخريطة الجينية للإنسان، وبالتالي عبر حملات طبية وقائية منظمة للقضاء على الوباء.
السواك سنة نبوية كريمة وهي تعبير عن رغبة النبي الكريم بتربية المسلم على النظافة والطهارة، وكان يأمر بالسواك عند كل وضوء وعند كل صلاة وعند كل لقاء للناس، ولا شك أن ذلك يعكس حرص الإسلام على النظافة والطهارة وصحة الفم.
ولكن السواك ليس إلا وسيلة للطهارة والنظافة، ولم يكن أمر النبي الكريم بالاستياك بسبب عروق مقدسة في عود الأراك، ولا بسبب ارتباط غرقدي بين الأراك والأمة المنصورة، لقد كانت مسألة بحث عن النظافة والطهارة وكان السواك هو الآلة المتوفرة آنذاك للتطهير والتعقيم.
وحين تتوفر وسائل حديثة من التعقيم والتطهير فمن المنطقي أن يأمر النبي الكريم بهذا الجديد، وليس لدي أدنى شك بأن النبي الكريم سيختار الفرشاة المعقمة بالفلورايد والمطيبة بنكهة التفاح لأنها ببساطة أكثر طهراً وأقل تعرضاً للأوبئة ولأنها حصيلة علم وتجربة وحكمة.
أخرج الإمام مالك بن أنس عن جذامة بنت وهب الأسدية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كنت قد هممت أن انهى عن الغيلة ثم علمت أن فارس والروم يصنعونه ولا يضرهم فافعلوه. والغيلة هي الجماع وقت الرضاع.
كان بالإمكان أن يمر نص كهذا دون تعليق، ولكنني أعتقد أن هذا النص النبوي يلهمنا منطق الرسول في التعاطي مع المعرفة.
وبعيداً عن شرح أشهب لموطأ مالك وشرح ابن حجر لصحيح البخاري فإنني سأستعير عبارات معاصرة لشرح هذا الخبر النبوي الحكيم: خلال متابعة النبي الكريم للواقع الصحي في المدينة قدمت إليه تقارير من بعض مراقبي الصحة بأن هناك شكوكاً حول اختلاط ماء الرجل بحليب المرأة المرضع، ومن المحتمل أن يؤدي ذلك إلى مضاعفات سيئة في حليب الأطفال، وذيلت هذه التقارير باقتراح من وزير الصحة في الدولة المحمدية بمنع الغيلة.
أمر النبي الكريم بصفته قائداً زمنياً ورئيساً للدولة الناشئة بإعداد مشروع قانون لمنع الغيلة حفاظاً على الصحة الإنجابية.ولكن مستشاره لشؤون الصحة اقترح استقدام خبرات أجنبية أكثر متابعة لملف الغيلة، ولدى دراسة ما انتهوا إليه ثبت بالدليل القاطع أن هذا الأمر شائع لدى الأمم المتحضرة آنذاك الروم والفرس، وأنه لايؤدي إلى مضاعفات سيئة، ولا باس من اعتماده، وأن المحاذير التي خشيها الخبراء المحليون موهومة ولا داعي لاعتبارها.
بكل شجاعة يقف النبي الكريم أمام فريقه الإداري ويقول للعالم: لقد هممت أن أنهى عن الغيلة ولكنني علمت أن فارس والروم يصنعونه ولا يضرهم، وبناء على الخبرة العملية الموضوعية، فإنني آمر بوقف مشروع القانون إياه لانتفاء مبرراته.
بدون أدنى مبالغة فإن ثقافة كهذه لا بد أن تشجع كل تجديد علمي ونشاط معرفي، ولا بد أن تكون مع الجديد والمفيد من المعارف العلمية والطبية، وأن توفر للناس ما يحتاجونه من الحكمة والمعرفة.
السياق الطبيعي للتوجيه النبوي الخالد: يا عباد الله تداووا فإن الله ما أنزل داء إلا وأنزل له دواء يقتضي متابعة كل خبرة جديدة في الطب لتحقيق ذلك، وإلا فأين تجد في كتب الطب النبوي علاج الشوزفرانيا والباركنسون والسفلس والسيدا والشيخوخة المبكرة وترقق العظام وتليف الكبد والصمة الرئوية واضطرابات التخثر وتناذر غود باستور والاتهاب الغضروفي وداء تايتز والفتوق الشرسوفية والفتق السبيجلي وآلاف الأمراض والأوبئة التي لم تكن موصوفة أصلاً في عصر النبوة؟ وهل يمكن التماس أجوبة على ذلك من خلال ما دونه الأقدمون من الروايات؟
بكل احترام تابعت ما كتبه عبد اللطيف البغدادي وعمر بن خضر العطوفي وأبو نعيم الأصفهاني وابن قيم الجوزية حول الطب النبوي وهو ما جمعه أخيراً السيوطي في كتابه المنهل الروي في الطب النبوي، ولكنني أقول لك بثقة ويقين إن الطب النبوي يلتمس اليوم في معهد باستور في باريس والمدن الطبية في اليابان ومخابر جامعة بون أكثر مما يلتمس في هذه الكتب الكريمة، التي هي تدوين جامد للحظة من التجربة الإنسانية الطامحة حقها التأمل والاعتبار وليس التقليد والجمود.
ولا أشك أبداً لو أن الرسول الكريم كان بيننا اليوم لأمر بدراسة مناهج جامعة هارفارد الطبية وليس كتب العطوفي والأصفهاني، ولأرسل الحارث بن كلدة وزيد بن ثابت إلى جامعات كمبردج وأكسفورد وليس إلى مضارب بني شيبان وبطاح بني ظبيان.
دينودنيا
الجمعة 13-2-2009م
محمد حبش*
* عضو مجلسالشعب
08-أيار-2021
27-حزيران-2010 | |
21-حزيران-2010 | |
22-أيار-2010 | |
26-حزيران-2009 | |
على هامش مؤتمر الحوار الديني في معهد الفتح الإسلامي / الإسلام والغرب مرحى للحوار |
30-أيار-2009 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |