من الذي يدعي امتلاكها؟ الحقيقة: قطعة الحلوى المقسمة
2009-03-21
لطالما اعتبر الرأي في تاريخ الفكر الإنساني بمثابة حثالة الفكر وفضلاته، باعتباره، أي الرأي، خاضعاً للأهواء الشخصية وللأمزجة ولتباينات الدواخل الإنسانية وتبدلاتها. الأمر الذي جعل اليونانيين، ممثلين في أفلاطون وأتباعه، يعتبرون الرأي (doxa) عنصراً حقيراً ثانوياً مقابل الحقيقة الجليلة. والحقيقة، بالطبع، هي التي كانت النخبة العارفة تمتلكها، والتي وحدها كان لها الحق في الاستئثار بالحقيقة بمقابل الجموع البعيدة كل البعد عن المعرفة.
اليوم يبدو أن الأمر برمته اختلف في المجتمع المعاصر، فأخذ سبر الآراء حجماً ما زالت قيمته تتزايد يوماً بعد يوم، وصار بإمكان الرأي، في المجتمعات الديمقراطية بالتأكيد، أن يغير حكومات وسلطات، أن يخلق نجوماً ويخفت ضياء أخرى، وأن يصنع مبدعين ويطمر مبدعين. وثمة نزوع، لا يمكن التكهن بنهايته، أن يسند للرأي الحقيقة بأكملها. وعلى حد تعبير "كارلو فريشيرو" ففي المجتمعات القائمة على مفهوم الحقيقة نجد المعرفة حكراً على فئة قليلة تبقى محصورة بها، وبها فحسب تتغير وتتطور هذه الحقيقة، أما في مجتمعات (السبر- ديمقراطية) فتصادف السلطة والمعرفة الأغلبية وتنطبق عليها.
بناء على هذه التغييرات الجوهرية صار تناول الحقيقة يجري بمعايير كمية غير نوعية، فالقاعدة المتبعة هي المعدل الإحصائي، وبهذا تخلت المعارف التقليدية عن مكانها لفائدة السبر والتسويق، ولم تعد العناية موجهة إلى النخبة العارفة بل العناية، كل العناية، تتركز على رأي الشارع، ولنقل على رأي المتفرج والقارئ والمستهلك، العناية تتوجه إلى الجموع لكسب رأيها الإيجابي (وربما السلبي في وضع مغاير) في منتج أو حكومة أو نص أو سلعة أو قانون أو ما على ذلك. فالمنفعة المتبادلة أضحت بين السلطات والعامة وليس بين النخبة، أية نخبة كانت، والسلطات المختلفة.
لنقل إن القوة اليوم هي للأكثر، بدل أن تكون للأعرف، القوة أضحت في العدد وليست في المعرفة. هذا التغير الجذري الذي راح يثبت أقدامه مع الزمن ينطبق بامتياز في النظر إلى العقل كما ينطبق على التمييز بين الرأي والحقيقة، أو بعبارة أخرى ينطبق على التمييز بين العقلانية واللاعقلانية، بل إن الاختلاف في المفهوم اللاعقلاني يعود أصلاً إلى الاختلاف على مفهوم العقل، وخضوعه للنسبية التاريخية. فلا وجود لإجماع على مفهوم العقل في تاريخ الفلسفة، لأن ما كان لاعقلانياً في وقته أصبح عقلانياً في وقت آخر والعكس صحيح، كما الحقيقة إذاً، فمن كان يملك الحقيقة والمعرفة في زمن ما سيغدو في زمن آخر متجرداً منهما تماماً لصالح من جرّد منها قبلاً!!.
ربما أمكننا أن نسحب الأمر برمته، ودون تعديل يذكر، على فكرة القراءة والتأويل. فبعد أن كان قصد المؤلف هو الأساس في عملية الكتابة والقراءة، والقارئ ما هو إلا مستقبل سلبي لرأي المؤلف وإيديولوجياته، وفي أحسن الأحوال مجرد مستكشف لما يرميه المؤلف أمامه، راحت مدارس النقد الحديثة ترفع من قيمة القارئ يوماً بعد يوم، حتى صار القارئ مؤلفاً ثانياً (إن لم نقل: مؤلفاً أولياً)، وقراءته للنص ما هي إلا إعادة كتابة له من جديد، حتى أن الكثير من الفلسفات النقدية في القرن العشرين، منها ما أطلق عليها مدرسة الشك والارتياب في التأويل والتي مثلها كل من نيتشه وماركس وفرويد، أضحى النص بالنسبة إليها مجرد قشرة مزيفة للحقيقي الذي يختبئ وراءه، والقارئ (الناقد) هو الوحيد الذي يزيح هذه القشرة، أو يمزقها، للدخول إلى الواقعي المادي، حسب ماركس، أو للدخول إلى الأصل، حسب نيتشه، أو لكشف اللاشعوري والكامن حسب فرويد. حتى أن السيميولوجي الإيطالي أمبيرتو إيكو رأى أن النص ما هو إلا آلة ساكنة تحتاج إلى تفعيل، وهذا التفعيل يقوم بوساطة قارئ متعاضد ينجز تحريك النص.
لكن علينا أن نعترف أن التطرف والاعتدال في التأويل لا يفسران باعتبار علاقتهما بالنص المحدود فحسب، أو بما يقال في النص أو حوله، بل يجب البحث عن تفسير لهما فيما هو أعمق وأشمل من ذلك وبما يتعلق بموقف الإنسان من العالم، والله، والحقيقة، والمعرفة، وبناء الحضارات، وتأسيس المدن، وتعيين العواصم، وتخوم الإمبراطوريات، وتعدد اللغات والثقافات. على هذا فالرأي العام المبني على السبر عامة يتعلق أيضاً بموقف الإنسان تجاه كل شيء، وليس تجاه سلعة محددة أو حكومة بعينها أو نص أو قانون أو غير ذلك من دواعي الاستفتاءات. والقارئ (الرأي) هو إنسان في النهاية، ووجهة نظره تجاه النص توازي وجهة نظره في مختلف جوانب الحياة، وبالتالي سيغدو الأمر غير محصور بالعنصر المستفتى عنه بل يتعلق بكل ما للمجتمع من سمات تتمثل في أفراده المختلفين. ومنهج التأويل (اللامتناهي) في قراءة النصوص والذي يعني أن كل التأويلات للنص صحيحة، حتى ولو تناقضت، ما يعني أن كل الأفكار صحيحة حتى لو تناقضت، يمكن ببساطة أن يترجم فيما يخص الرأي اليوم، وبالتالي تغدو كل الآراء صحيحة حتى لو تناقضت، ويبقى الحكم في النهاية للكم، للعدد، في لعبة الصراع الجديدة.
وباعتبار أن التأويل اللامتناهي للنصوص لا يبتغي الوصول على غاية بعينها بل هو أقرب إلى فكرة التأويل (المتاهي) الذي يجد لذته في لعبة المتاهة والفعل المتاهي، فلربما كان الرأي والسبر لامتناهياً أيضاً، والأمر برمته يكمن في لذة إبداء الرأي، في لعب دور أساسي في الحكم، في إثبات وجود مهم عبر إطلاق الرأي، أو وهب الصوت بطريقة ما، بالنسبة إلى شعوب الإنسانية التي مرت عليها أزمان طويلة، متفاوتة المدة والأثر، لم تترجم فيها أصواتها (آراؤها) إلا عبر ترددات مبعثرة تتبدد في الفضاء.
استعنت لكتابة المقال ببعض المراجع منها:
- لعبة المتاهة في التأويل (ومقالات أخرى)، د. بشرى موسى صالح، دار أزمنة، عمان 2009
- مقالة بعنوان: (مرور 24 سنة على وفاة ميشيل فوكو/ المعرفة والسلطة في زمن الفيديو). بقلم: كارلو فريشيرو، منشورة في موقع الأوان الإلكتروني www.alawan.com
- نشرت في جريدة الخبر السورية
- شباط 2009
-
08-أيار-2021
09-تشرين الثاني-2019 | |
15-كانون الثاني-2013 | |
07-تشرين الأول-2012 | |
04-تشرين الأول-2012 | |
28-آب-2012 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |