أسطـــورة إرَّا وإيشـــــوم إله الطاعون يجتاح العالم
2007-03-20
خاص ألف
يعود زمن تدوين هذا النص إلى الفترة الواقعة بين عام 800 ق.م وعام 612 ق.م، ولكنه يحتوي على عناصر أقدم من ذلك بكثير. وقد تم جمع ألواحه البالغ عددها خمسة ألواح من عدد من المواقع الآشورية والبابلية. ويتخذ اللوح الرئيسي من النسخة الآشورية شكل تعويذة. وكما هو الحال في ملحمة أتراحاسيس التي قدمناها سابقاً، فإن هذا النص يتحدث أيضاً عن هلاك معظم سكان سومر وأكاد بعدد من الكوارث الطبيعية والمفتعلة، جراء حملات يقودها إرَّا إله الطاعون والأوبئة الفتاكة ضد البشر. أما السبب في ذلك فيشبه جزئياً ما ورد في ملحمة أتراحاسيس من زيادة تعداد البشر وكثرة ضوضائهم التي أزعجت الآلهة، ولكنه يزيد عليه عنصراً أخلاقياً؛ فالبشر «صاروا يزدرون كلام الآلهة ويفعلون وفق أهوائهم»، وفق تعبير النص. من هنا، فإن الصخب والضجيج في هذا النص يتخذ بعداً جديداً يدل على التمرد والفوضى العارمة وعدم أداء فروض العبادة للآلهة. وقد تصدى الإله إرَّا لتأديب البشر بعد أنعجز كبير الآلهة مردوخ عن ذلك لما ناله من ضعف وخوَر، فأقنعه إرَّا بأن يتنحى عن عرش الآلهة فترة من الزمن يتمكن من خلالها إرَّا من الحكم وتأديب الناس عن طريق إعطائهم درساً لن ينسوه أبداً.
لم يتفق الباحثون على تحديد الأحداث التاريخية التي كانت وراء نظم هذه القصيدة المطولة، ولا على زمن هذه الأحداث. ولكن نظرية الباحث الألماني فون صودن (1971) تبدو الآن للكثيرين الأكثر قرباً إلى الواقع. فهو يخلص إلى القول بأن الأحداث الموصوفة في الملحمة تعود إلى فترة حكم الملك إريبا مردوخ في بابل، أي من عام 770 إلى عام 760 ق.م. فلقد شهدت هذه الفترة أزمات اقتصادية واضطرابات وانتشار وباء الطاعون، وحدوث كسوف الشمس الشهير في التاريخ الرافديني. وللرد على بعض معارضيه الذين وضعوا أحداث هذه الملحمة في القرن التاسع ق.م، أو قبل ذلك، فقد أورد فون صودن قرائن لغوية من النص تؤكد أنه لم يدون قبل القرن الثامن ق.م.
الشخصيات الرئيسية في الملحمة أربع هي: 1- مردوخ كبير آلهة بابل، الذي ارتفع إلى مقام رئيس مجمع الآلهة البابلية في مطلع الألف الثاني قبل الميلاد، ولاسيما خلال عصر أسرة الملك حمورابي. 2- إرَّا، الذي كان إلهاً رئيسياً في المجمع الرافديني منذ الألف الثالث قبل الميلاد، ومسؤولاً عن الحرب والدمار والطاعون وكل أنواع الأمراض السارية. كان زوجاً للإلهة مامي (أو ننتو)، إحدى الشخصيات الرئيسة في ملحمة أتراحيسس. وعندما تمت المطابقة بينه وبين نرجال إله العالم الأسفل، خلال الألف الأول ق.م، صار زوجاً لأريشكيجال إلهة العالم الأسفل. 3- إيشوم: وهو الابن البكر للإله إنليل، ووزير الإله إرَّا ومساعده. وقد ورد ذكره في المنقوشات الكتابية منذ الألف الثالث قبل الميلاد. وقد كان يسير في مقدمة حملات إرَّا الحربية ويفتح له الدروب إلى ساحة المعركة. 4- الآلهة السبعة: وترد دوماً بصيغة الجمع «سبتو» إي سبعة، وهي تعمل مشتركة مع بعضها بعضاً دون تمييز واحد عن الآخر. وقد وُلدت في الأزمان البدئية من اقتران كبير الآلهة آن بالأرض. وقد رسم لها الوالد منذ البداية مهمة السير إلى جانب إرَّا وأن تكون أسلحته التي يستخدمها للفتك والتدمير.
يُفتتح النص بالمقدمة التالية التي تثني على كل من مردوخ ملك كل الديار وإيشوم وتشرح وضع إرَّا المتردد في شن الحرب، وقد وهنت عزيمته وفضل البقاء في أحضان زوجته على ساح الوغى:
إني أغني بحمد ملك كل الديار، خالق العالم،
وبحمد خندور سنجا (إيشوم)، الابن البكر لإنليل،
رائد ذوي الرؤوس السود، وراعي البشر،
إيشوم، الفاتك القدير، الماهر في حمل الأسلحة الفتاكة.
أما إرَّا بطل الآلهة فكان يروح جيئة وذهاباً في بيته،
يحفزه قلبه على شن الحرب.
قال لأسلحته: ادهني نفسك بالسم الزعاف؛
قال للسبعة، المحاربين الأشداء، تمنطقوا بأسلحتكم؛
وقال لك (يا إيشوم) سأخرج إلى ساح الوغى،
ستكون مشعلي، وسيرى البشر نورك.
ستسير في المقدمة، يتبعك الآلهة.
أنت السيف العريض الفاتك.
ولكن ذلك كله لم يكن إلا من قبيل تشجيع نفسه الواهنة، وتحفيز همته التي فترت منذ وقت طويل لم يلعب خلاله دوراً بارزاً على مسرح الأحداث:
كان إرَّا مثل رجل ناعس،
يحدث نفسه قائلاً: هل علي النهوض أم أبقى راقداً؟
قال لأسلحته: الزمي الخزائن والزوايا،
وللآلهة السبعة، المحاربين الأفذاذ: عودوا إلى بيوتكم؛
حتى أيقظْتَه أنت (يا إيشوم)، كان نائماً في فراشه،
يمتع نفسه في أحضان قرينته مامي.
وهاهو إيشوم يحفز سيده على نفض كسله ويذكره بأسلحته السبعة التي تقف في انتظار أوامره:
عندما ضاجع «آن»، ملك الآلهة، الأرض،
أنجبت له سبعة آلهة دعاهم بالاسم سبعة.
أعطاهم لإرَّا بطل الآلهة قائلاً: دعهم يمشون إلى جانبك،
حتى إذا غدا صخب سكان الديار مؤلماً لك،
إذا حفزك قلبك إلى إفنائهم،
إلى إبادة ذوي الرؤوس السود ومحق قطعان الإله شكّان،
سيكونون أسلحتك الضارية التي تسير إلى جانبك.
وهاهم هائجون ينتضون أسلحتهم
وينادون إرَّا: «انهض، قم يا إرَّا.
لماذا تمكث في المدينة مثل عجوز واهن؟
كيف تلزم البيت مثل طفل عاجز؟
هل نبقى نأكل خبز النساء كالمتخلفين عن ساح القتال؟
هل نبقى في خوف وارتعاش كمن لم يعرف الحرب قط؟
إن الانطلاق إلى ساح المعركة مثل انطلاق الفتية للاحتفالات.
إن من يبقى في المدينة، ولو كان أميراً، لن يشبع من الخبز قط؛
تلوك الألسنة سمعته وتنال من قدره.
إن خبز المدينة مهما كان ممتعاً لا يعادل خبز الجمر.
وأفضل البيرة مهما كان حلواً لا يعادل ماء القِرَب.
والقصر العالي لا يُقارن بكوخ الرعاة.
أخرج إلى ساح القتال يا إرَّا ودع أسلحتك تقعقع.
أسمِع جلبتك العالية ليرتعش من في الأعلى وفي الأسفل.
سوف تسمع آلهة الإيجيجي وتعظم اسمك.
سوف تسمع آلهة الأنوناكي وترهب كلمتك.
سوف تسمع الآلهة وتخضع لنيرك.
سوف يسمع الملوك ويركعون أمامك.
سوف تسمع البلدان وتُحضر جزيتها إليك.
سوف تسمع العفاريت وتبتعد عن طريقك.
سوف يسمع كل جبار وتنحط قواه.
سوف تسمع ذرى الجبال وتحني رؤوسها في فزع.
سوف تسمع البحار المائجة فتهتاج وتنضب خيراتها.
سوف يسمع البشر ويُخفضون من ضوضائهم.
سوف تسمع قطعان الماشية وتعود إلى الطين.
سوف يسمع الآلهة آباؤك ويمجدون بطولتك.
لقد نسج العنكبوت خيوطه على معداتنا الحربية،
وقسيُنا الموثوقة تمردت وغدت أكثرة قسوة من طاقتنا،
وسهامنا الحادة تثلمت رؤوسها،
وسيوفنا علاها الصدأ لأنها نسيت القطع».
أصغى إليهم البطل إرَّا.
راق له كلام الآلهة السبعة كما الزيت الصافي،
ففتح فمه قائلاً لإيشوم:
«كيف تبقى ساكناً بعد سماعك ذلك؟
افتح لي الطريق فاتخذن سبيلي،
ولأعيّن الآلهة السبعة المحاربين الأفذاذ... ...،
فأجعلهم يحفون بي كأسلحتي الضارية.
أما أنت يا إيشوم فسر أمامي، سر خلفي».
إيشوم الذي كان أول من نبه الإله إرَّا من غفوته يتردد الآن ويغدو مشفقاً على ما سيحل بالبشر:
«سيدي إرَّا، لماذا انتويت الشر للآلهة؟
هل نويت على سحق الديار وإهلاك أهلها؟ ألن تعدل عن قرارك؟»
ففتح إرَّا فمه مخاطباً إيشوم:
«صمتاً يا إيشوم، انصت لما أقول.
بخصوص سكان الديار الذين تطلب لهم الصفح.
في السماء أنا ثور وحشي وفي الأرض أنا الأسد؛
في البلاد أنا الملك وبين الآلهة أنا الغضب؛
لحقول القصب أنا النار، وللغاب أنا الفأس.
كالريح أعصف، وكالإعصار أدوّي؛
كالشمس أرقب محيط الأرض كلها.
إن الآلهة الأخرى يخشون النزال،
والناس، ذوو الرؤوس السود، باتوا يستخفون بهم.
ولأنهم لم يعودوا يخشون اسمي ولا اسم الأمير مردوخ،
ازدروا كلامه وصاروا يفعلون ما ترغب به قلوبهم،
فإني سوف أُغضب الأمير مردوخ وأُبعده عن عرشه وأسحق البشر».
ثم اتجه البطل إرَّا إلى «شوأنّا» مدينة ملك الآلهة؛
دخل إلى الإيزاجيلا هيكل السماء والأرض قائلاً له:
«زينتك الفياضة والمفعمة بالضياء مثل نجوم السماء؛
زينتك رمز سيادتك؛ قد خبا لونها،
وتاج سيادتك الذي ينير معبد «إخل آن كي» بات داكناً.
لم يكن مردوخ في وضع يسمح له بالدخول في نزاع مع إرَّا، فهو متعب ويرغب في الاستجمام واستعادة قواه في منتجع بعيد حيث يُطهر «جيرا» إله النار ثيابه. لقد بدا له اقتراح إرَّا في أن يحل محله، لوهلة قصيرة، جذاباً من حيث المبدأ، ولكنه يخشى إن هو ترك الإيزاجيلا، مركز الكون في بابل، أن يعود العالم إلى حالة العماء والشواش السابقة على التكوين، وتطغى الفوضى الكونية التي تُلجمها قوة مردوخ. ولكن إرَّا يطمئنه ويؤكد له بأنه سيأخذ عنه المسؤولية كاملةً إلى حين عودته. فيترك مردوخ قصره ويمضي مطمئناً إلى منتجعه الذي يقع في أعماق الأرض. وما أن يغيب كبير الآلهة، حتى يستدعي إرَّا وزيره إيشوم ويقول له:
أوسعوا لي فإنني سأقتحم الدروب.
لقد حان اليوم وأزفت الساعة.
سأهيب بالشمس فتُخمد ضوءها،
وأحجب وجه القمر في منتصف الليل.
إلى مردوخ وإلى إيا أُعلن:
سأقول للإله أداد (هدد) أن يُنضب ينابيعه،
وأن يُبعد غيومه ويقطع مطره وثلجه.
فمن ولدته أمه في زمن الرخاء ستدفنه في زمن مسغبة.
ومن مضى في طريق مروية، سيعود في طريق غبار ورمال.
سأقول للإله مردوخ: ستجلس في الإيزاجيلا،
ولسوف يعملون وفق مشيئتك، وينفذون أوامرك بالتمام؛
فإذا استغاث بك ذوو الرؤوس السود فلا تستمع لتوسلاتهم.
سوف أمحو كل الديار وأحيلها ركاماً؛
سوف أدمِّر البلدان وأحيلها أرضاً يباباً؛
سوف أخرب الجبال وأبيد قطعانها الوحشية؛
سأهيج البحار وأقضي على خيراتها؛
سأقتلع الأشجار وغيضات القصب وأُضرم فيها النار؛
سأمحق البشر ولن أُبقي على الكائنات الحية،
لن أُبقي على أي من قطعان الإله شكَّان، ولا على الحيوانات البرية؛
لن يسأل الابن عن سلامة أبيه ولا الأب عن ابنه؛
سأترك البرابرة يدخلون إلى حُرم الآلهة حيث لا يصل الشر؛
سأُسكن الحقير في بيت الأمير؛
سأدع الحيوانات البرية تسرح في مراكز العبادة؛
وأدع الحيوانات البرية تمرح في الساحات العامة؛
سأدع العفريت «داعم الشر» يقتحم مساكن الآلهة المحظورة؛
سأقوض القصر الملكي وأجعله أطلالاً؛
سأقطع صخب البشر وأسرق سعادتهم؛
سأغير قلوب الناس فلا يصغي الأب إلى الابن،
والابنة تتحدث مع أمها بوقاحة؛
سأجعل كلامهم سيئاً وينسون آلهتهم،
ويتحدثون بوقاحة بالغة إلى إلهاتهم؛
سأنشر اللصوص وأقطع الطرق،
وفي وسط المدينة سينهب الناس ممتلكات بعضهم؛
سأحرم المرضعة من صراخ الطفل والرضيع؛
سأمزق الأثواب عن أجساد الرجال،
وأجعل الفتى يسير عارياً في الأسواق،
وسأُنزل الفتى إلى العالم الأسفل بلا أكفان.
يفعل إرَّا هذا كله وأكثر حتى أن الآلهة نفسها اشمأزت من رؤية الدماء وتركت معابدها مهجورة. وهنا يشعر إيشوم وزير إرَّا بالشفقة على البشر ويتصدى لإرَّا قائلاً:
«كيف نويت الشر للآلهة والبشر؟
ومع أنك نويت الشر على ذوي الرؤوس السود، ألن تتراجع؟»
فتح إرَّا فمه وقال لوزيره إيشوم الذي يسير أمامه:
«لماذا تتحدث كما يتحدث الجُهّال؟
تنصحني وكأنك لا تعرف ما قاله لي مردوخ!
لقد تخلى مردوخ ملك الآلهة عن عرشه،
فكيف تبقى أحوال الديار مستقرة؟
لقد نضى عن رأسه تاج سيادته،
فنسي الملك والأمراء، مثل العبيد، فرائضهم؛
لقد فك مردوخ ملك الآلهة حزامه،
فانحل رباط الإله والإنسان ولا سبيل إلى إيثاقه».
فتح إيشوم فمه وقال للبطل إرَّا:
«أيها المحارب إرَّا، إنك تمسك السماء بخزَّامة،
وتقبض بيدك على تقاليد الأرض كلها وتحكم الديار؛
تزلزل البحار وتحيط بالجبال.
أنت قائد الناس وراعي القطعان.
معبد الإيشارا تحت تصرفك، ومعبد إنجورا بين يديك؛
تحفظ مبعد شوأنا، وتدير معبد الإيزاجيلا.
أنت الذي يقود الشعائر كلها والآلهة تُجلك؛
آلهة الإيجيجي توقرك، وآلهة الأنوناكي ترهبك؛
عندما تقطع برأي يصغي إليك الإله آنو،
وحتى إنليل يوافقك الرأي. هل من خصومة تجري دون علمك؟
وهل من حرب تُقاد إلا بك؟
دروع الحرب لك وحدك،
ومع ذلك رحت تقول لنفسك: إنهم يرذلونني.
أي إرَّا المحارب. أنت الذي لم ترهب اسم الأمير مردوخ؛
أنت الذي حللت رباط بابل، مدينة ملك الآلهة؛
بدلت طبيعتك الإلهية ومثلت دور الإنسان؛
تمنطقت بأسلحتك وجُلت في أرجائها،
وأبناء بابل الذين لا راعي لهم تجمعوا حولك كأجمة القصب.
الذي لم يكن يعرف السلاح انتضى سيفه؛
الذي لم يعرف القوس شد قوسه،
أخذوا يجدفون أمام القائمين على معابدهم؛
بأيديهم أغلقوا بوابة بابل شريان خيراتها؛
أشعلوا النيران في معابد بابل مثل غزاة البلاد؛
وأنت الذي يسير في مقدمتهم ويقودهم،
ورحت تصوب السهام على سور بابل الداخلي حتى تأوه قلبي؛
وطرحت الإله مخرا حارس بوابتها بين دماء الشباب والعذارى،
صرت صياد سكان بابل وهم العصافير أمامك».
رأى الرب مردوخ ذلك فانقبض قلبه وتأوه:
«ويلي على بابل التي جعلتُها سامقة مثل نخلة، ولكن الريح تعصفها؛
ويلي على بابل التي ملأتُها بالبذور مثل كوز الصنوبر ولكني لم أرع نموها؛
ويلي على بابل التي زرعتها بستاناً وافراً، ولكني لم أذُق من ثمرها؛
ويلي على بابل التي علقتها مثل عقد ماس على جيد السماء؛
ويلي على بابل التي أمسكتها بيدي مثل لوح القدر، ولم أكن لأتخلى عنها».
بعد ذلك يصف إيشوم تولي إرَّا عن بابل وتوجهه إلى مدن المنطقة الأخرى، كما يصف كيف عاث الأعداء السوتيون الذين جاؤوا من الخارج بمقدرات البلاد بمباركة الإله إرَّا. ثم ينتهي إلى القول:
أيها البطل إرَّا، لقد سقيت التقي الردى،
مثلما سقيت الضال الردى،
لقد سقيت الردى الذي أخطأ في حقك،
مثلما سقيت الردى من لم يخطئ في حقك؛
لقد سلبت حياة من رفع الأضاحي للآلهة،
وسلبت حاشية الملوك ورجالهم؛
أهلكت الرجل العجوز على عتبة الباب،
وأهلكت الفتيات الشابات في سريرهن،
ومع ذلك لم يهدأ لك بال،
وكنت تقول في نفسك: لقد رذلوني».
لدى سماعه خطاب إيشوم يهدأ غضب إرَّا. ويبدو أن هذا الخطاب قد جاء في وقت استنفذ إرَّا فيه قوته وحقق مراده، فيقرر العفو عن أهل سومر وأكاد ويعيد بناء مدنهم، ولكنه يوجه وزيره إيشوم لشن الحملات على أعدائهم من سوتيين وعيلاميين وكاشيين وآشوريين وغيرهم، لينهض بعد ذلك الأكاديون ويتغلبوا عليهم جميعاً:
راق لإرَّا كلام إيشوم مثل الزيت الصافي، وقال له:
«لن يعفو سوبارتي عن سوبارتياً، ولا آشوري عن آشوري،
ولا سوتي عن سوتي، ولا كوتي عن كوتي،
ولا عيلامي عن عيلامي، ولا كاشي عن كاشي،
ولا لولوبي عن لولوبي، ولا بلاد عن بلاد، ولا مدينة عن مدينة،
ولن تعفو قبيلة عن قبيلة، ولا رجل عن رجل،
ولا أخ عن أخيه، بل سيقتلون بعضهم بعضاً.
بعد ذلك سينهض الأكادي ويصرعهم ويتسلط عليهم.
ثم يستقر إرَّا في مسكنه ويجتمع الآلهة كلهم عنده وهم شاخصون ببصرهم إليه في رهبة، ويبدأ في بسط بركته على البلاد:
ستنقلب القلة الباقية في الأرض إلى كثرة،
ويسرح فيها الناس على هواهم بين كبير وصغير.
ليصرع الأكادي الضعيف السوتي القوي،
فيحمل كل منهم سبعة كما تُحمل الخرفان.
ستحولون مدنهم إلى خراب وجبالهم آكاماً،
وتعودون منها بالغنائم الكثيرة إلى بابل،
وتجعلون آلهة الديار الغضبى ترجع إلى مساكنها راضية.
سوف ينزل الإله شكَّان والآلهة نيسابا إلى البلاد،
يجعلان الجبل يخرج محصوله والبحر خيراته،
والحقول التي تخربت ستحمل الغلة؛
وليحضر حكام جميع المدن جرايتهم إلى بابل.
لترفع المعابد التي تهدمت رؤوسها بعلو الشمس؛
ليرسل دجلة والفرات مياههما بغزارة؛
ولسنوات لا تحصى ستنشد مدائح الرب العظيم نرجال والبطل إيشوم،
وكيف غضب إرَّا وقرر سحق الديار وإهلاك سكانها،
ولكن مستشاره إيشوم هدَّأه فترك منهم بقية».
يلي ذلك مباشرةً التذييل الذي ختم به كاتب الملحمة نصه والذي يقول فيه:
الذي وضع هذا التأليف هو كبتي إيلاني مردوخ ابن دابيبي،
وقد تلقاه وحياً في منتصف الليل،
وعندما أفاق تلاه بعد اليقظة، لم يُسقط منه كلمة واحدة.
لقد سمعه إرَّا ونال رضاه،
وسُرَّ به إيشوم الذي يمشي أمامه،
وأثنى عليه كل الآلهة،
وقال البطل إرَّا ما يلي:
«سوف تتكدس الثروة في حُرم الإله الذي يبارك هذه الأغنية،
وعسى ألا يشم قربان البخور من يستخف بها.
الملك الذي يُعظِّم اسمي سوف يحكم العالم،
والأمير الذي يقول مديحاً في بطولتي لن يلقى نداً أبداً،
والمغني الذي ينشدها لن يموت من الوباء،
وتلقى كلماتها استحسان الملوك والأمراء.
الكاتب الذي يحفظها سينجو في بلاد العدو، وفي بلاده يُحترم.
في البيت الذي يعلَّق فيه هذا الرقيم،
حتى وإن غضب إرَّا وعصفت الآلهة السبعة،
لن يناله سيف الوباء، وإنما يحل عليه السلام.
لتبق هذه الأغنية خالدة، ولتدم إلى الأبد.
لتسمعها جميع البلدان وتثنِ على بطولتي،
ليشهد سكان الديار ويعظموا اسمي».
يلي ذلك تذييل آخر أمر الملك آشور بانيبال بكتابته على النسخة الآشورية التي حُفظت في مكتبته الشهيرة:
(نهاية) اللوح الخامس من «سلسلة إرَّا.
أنا آشور بانيبال، الملك العظيم، الملك الجبار، ملك العالم، ملك آشور؛
ابن الملك أسرحادون ملك آشور، ابن سنحاريب ملك آشور؛
قد نسخت ودققت وقارنت هذا الرقيم بمعونة الكَتَبَة،
وفق الرقم الفخارية والمنقوشات على الألواح الخشبية،
التي جيء بها من بلاد آشور وسومر وأكاد،
ووضعتها في قصري لغرض القراءة الملكية.
من يمحو اسمي المكتوب عليها ويضع اسمه،
ليمح الإله نابو سيد الكتبة اسمه.
إن أول ما يطالعنا ونحن نقرأ هذا النص هو شبهه العام بملحمة أتراحاسيس التي قدمناها سابقاً. فهنالك قرار إلهي بتدمير الحياة البشرية والحيوانية والطبيعية، وهناك إله مسؤول بالدرجة الأولى عن قيادة وتنفيذ عملية التدمير. والسبب في كلا النصين واحد، وهو ضوضاء البشر وصخبهم. ولكن الفارق بين النصين كبير؛ ففي ملحمة أتراحاسيس يصدر قرار من مجمع الآلهة، بتحريض من إنليل، بإفناء البشرية، أما في أسطورة إرَّا فإن انقلاباً يحدث في السماء يتقلد من خلاله إرَّا السلطة المؤقتة بعد تنحيته كبير الآلهة مردوخ والجلوس مكانه على عرش الكون. و إرَّا هو الذي يتخذ قرار التدمير بتحريض من وزيره إيشوم وأسلحته السبعة التي باتت تشكو من الصدأ لقلة الاستعمال، ولكن إيشوم يعدل عن موقفه السابق بعد أن رأى هول الكارثة ويأخذ بتوجيه النصح لسيده عله يوقف حملته الكاسحة، ثم يفلح أخيراً في مسعاه. وإذا كان السبب وراء إفناء البشر في ملحمة أتراحاسيس هو صخب البشر وضجيجهم، فإن هذا السبب يبدو هنا أكثر مشروعية عندما يُفسر هذا الصخب على أنه نوع من الفوضى الاجتماعية، وتحلل الناس من الشرائع والقوانين، وقيام كل فرد بالعمل وفق أهوائه الخاصة، وفي تجاهل تام للآلهة وللنظام الديني والاجتماعي المؤسس منذ القدم. وإذا كانت ملحمة أتراحاسيس تسبح في أجواء الأزمان الأولى السابقة للطوفان الكبير، فإن أسطورة إرَّا، على ما يبدو، تقص عن أحداث وقعت في زمن قريب يذكره الناس. ومن المرجح أنها تحاول وصف حالة من الفوضى العارمة التي سادت المجتمع البابلي نتيجة لشح المحاصيل لعدة سنوات متتالية وازدياد الفقر وانتشار المجاعة والأمراض، الأمر الذي شجع القبائل السوتية البدوية على غزو البلاد وزيادة حالتها سوءاً؛ فهُجرت المعابد وانقطعت الطقوس الدينية وضعفت النوازع الأخلاقية. الأمر الذي حفز إرَّا على القيام بانقلابه ضد كبير الآلهة الذي بات عاجزاً عن ضبط الأمور وباتت الحاجة ماسة إلى عمل جذري يقوم به إله شاب متحمس يعيد الأمور إلى نصابها عن طريق التدمير الشامل ومن ثم إعادة البناء. على هذه الخلفية بإمكاننا أن نعتبر نص إرَّا نوعاً من الملحمة التاريخية المصاغة بأسلوب ديني، رغم أننا لا نستطيع اليوم أن نحدد بدقة تلك الفترة التي يصفها النص، وآراء الاختصاصيين ما زالت متضاربة بهذا الخصوص.
كما ويظهر في هذا النص عنصر جديد غير معهود في أدب الشرق القديم، وهو توكيد كاتب النص على أنه أوحي أليه بحرفيته، وعندما حرك به لسانه بعد أن أفاق من النوم لم ينسَ منه كلمة واحدة، وأنه استظهره بعد ذلك على الإله إرَّا فنال إعجابه واستحسانه، وأمر بتعليقه في البيوت ليكون بمثابة تعويذة ضد الأوبئة والأمراض السارية.
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
01-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
13-شباط-2021 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |