من منا لا يحب الهدوء والسكينة؟ هل هناك أجمل من ان يجلس الإنسان في بيته وينعم بلحظات من راحة البال لا يسمع فيها ضجيجاً ولا إزعاج؟ خصوصا اذا كان كاتبا واديبا؟
هذا ما كان يفكر به صاحبنا سعيد الكاتب الروائي الخمسيني الاعزب عندما قرر أن ينقل سكنه من شقته التي تقع في وسط البلد المزدحم الذي لا ينقطع فيه الضجيج ليلاً ونهاراً الى بيت يقع في الريف على أطراف المدينة حيث الهدوء والسكينة طوال اليوم وأعلى صوت يمكن ان تسمعه هو زقزقة العصافير وذلك على اثر الحالة العصبية التي اصابته بسبب الضجيج وادت الى تدهور صحته وتبخر ابداعه وعدم تمكنه من كتابة اي شيئ منذ شهور .
دفع سعيد ايجار 6 اشهر غير قابلة للاسترداد مقدما وهو شرط السمسار الذي اعلمه بان صاحب البيت لايتنازل عن هذا الشرط ولان سعيد كان في وضع لايحسد عليه وكذلك البيت كان جميلا وافق سعيد دون تردد .
في اليوم الموعود وصل الأثاث الى البيت الجديد وإنهمك العمال بتنزيله وتركيبه ثم جاء دور التنظيف وإنصرف بعدها الجميع ليهنا سعيد بنومة هادئة لأول مرة منذ سنين لا ضجيج سيارات ولا منبهاتها ولا صراخ الأطفال.
في الصباح الباكر نهض سعيد وحمل قلمه وبدأ كتابة أول سطر على الورقة عندما رن جرس الباب نهض ممتعضا وفتح الباب فوجد فتى في العاشرة من عمره يقف على عتبة الباب ويقول:
- صباح الخير يا عم ازيك؟
- أهلاً يا بني عاوز حاجة؟
- أنا أحمد ,قالها الصبي بثقة وكأنه أحمد عرابي مثلاً ويجب أن يعرفه الجميع!!
- أهلاً يا أحمد بيه.
- أنا باوزع الجرايد كل يوم الصبح على البلد تحب أجيب لك الجرنال كل يوم؟ تحب تقرا ايه؟ أهرام؟ جمهورية؟ الأخبار؟
- لا يا أحمد أنا جاي هنا علشان أبقى بعيد عن كل حاجة ومش عاوز جرايد ولا أخبار ولا أسمع بالمصايب اللي بتحصل كل يوم .
- طيب
إنصرف الصبي وهو مكسور الخاطر بعد أن فشل في الحصول على زبون جديد. رجع سعيد الى مكتبه وأمسك القلم وبدأ بكتابة أول سطر عندما رنّ الجرس مرة ثانية. نهض متثاقلاً الى الباب وفتحه فوجد سيدة بملابسها الريفية تقف على العتبة وبادرته بلهجة الارياف العذبة:
- صباح الخير يا سيدي ازاي حضرتك؟
- أنا لاسيدك ولا سيد نفسي حتى, اتفضلي يا هانم أي خدمة؟
- اني هانم؟!! ربنا يجبر بخاطرك يا بيه يا أمير , أني خدامتك أم أحمد
- اتفضلي يا أم أحمد أي خدمة؟
- ده أنا اللي خدامتك يا بيه يا أمير يا بن.... هو إسم أمك ايه يا بيه؟
- اللهم طولك يا روح أمي إسمها فاطمة يا ستي.
- ربنا يخليك يا ابن فاطمة.
- يا ستي خلصيني عايزة إيه؟
- أني يا بيه باعمل أحلى فطير مشلتت في الناحية دي كلها تحب أجيب لك فطير مشلتت كل يوم يا بيه؟
- يا ستي أنا عندي السكر والضغط حااكل فطير مشلتت كل يوم ؟ ما تجيبي مسدس وتضربيني به أحسن لو عاوزة تموتيني.
- لالا أموتك ده إيه يا بيه بعد الشر، بس هي فكرة برضك يا بيه و يحطوا صورتك في الجرايد اللي يوزعها ابني أحمد.
- هو أحمد يبقى إبنك؟
- امال أبويا!! أنا أم أحمد !!
- يا ستي حصل لنا الشرف مع السلامة
أغلق سعيد الباب وعاد الى طاولته وأخذ يكتب حتى إنتهى من أول صفحة وهو يشعر بالنشاط والرغبة في الكتابة دون توقف حتى إنتهاء الكتاب أمسك الورقة الثانية ولم يكد يضع القلم عليها حتى رن جرس الباب عض سعيد على شفتيه ونهض ليفتح الباب فوجد رجلاً قروياً يقف على الباب ويبتسم إبتسامة عريضة إختفى نصفها تحت شاربه الغليظ:
- سلام عليكم يا باشا!!
- باشا مرة واحدة. أنا قبل ساعة كنت بيه دلوقتي باشا باين قبل النهار ما يخلص حابقى صاحب الفخامة!!! افندم أي خدمة؟
- اني أبو أحمد يا باشا
- ما تقولش؟ أبو أحمد شخصياً؟ اوع تقول, أكيد أنت أبو أحمد بتاع الجرايد وجوز أم أحمد بتاعة الفطير المشلتت!!
- عليك نور يا باشا
- تشرفنا يا سيد أبو أحمد أي أوامر؟
- أني يا باشا أحسن واحد يغسل عربيات في المنطقة دي كلها تحب أجي أغسل عربيتك كل يوم؟ حتبقى زي الفل وعشرة.
- أنت شايف عربية واقفة قدام الباب؟
- لا
- يبقى ده معناه يا بني آدم انه ما عنديش عربية.
- هو فيه باشا من غير عربية؟
- يا دي النهار اللي مش فايت باشا مين ده يا حبيبي؟ شايفني با تكلم تركي؟ ما عنديش عربية وحتى لو كان عندي عربية مش عاوز حد يغسلها.
- خلاص ما تفورش دمك. سلام.
رجع سعيد الى مكتبه وقد بدأت أعصابه تتوتر تدريجيا, سخن إبريق الشاي وشرب قدحاً من الشاي الثقيل كي يريح أعصابه بعد أن ترك التدخين بسبب أوامر الطبيب.
وبعد نصف ساعة أمسك الورقة وبدأ يكتب وما إن أنهى السطر الأول حتى رنّ جرس الباب غضب سعيد وبدأ يزمجر ويصك أسنانه بعصبية وفتح الباب فوجد صبية شابة بملابسها الريفية تضع وشاحاً على رأسها سلّمت عليه بإستحياء وقالت:
- العوافي يا أستاذ!!
- أهلاً أي خدمة يا آنسة؟
- عانسة؟ اني عانسة؟ ليه؟ شايفني وحشة وإلا وحشة؟ ده أنا ألف من يتمنى يتجوزني بس أنا اللي ما ليش مزاج أتجوز دلوقتي.
- يا ستي هو أنا قلت عانسة؟ أنا قلت آنسة مادموزيل يعني
- اني مادموزيل؟ تشكر يا بيه أنا إسمي حميدة أخت أحمد
- يا دى أحمد وعيلته اللي ما بتخلصش ايوه يا ستي عايزة ايه؟
- اني يا بيه أحسن وحدة بتغسل هدوم وبتكويها في المديرية دي كلها تحب أجي آخد هدومك أغسلها؟
- متشكر يا ستي أنا عندي غسالة
- عندك غسالة يعني ايه؟ مين دي؟ اوع تكون البت هوانم أصلها دايماً بتسرق زبايني
- يا ستي أولاً أنا مش زبون عندك ثانياً أنا عندي غسالة على الكهرباء متشكرين ومع السلامة!
- على راحتك هي غسالة الكهرباء تبقى زي ايدين حميدة
- باقولك ايه, انت عندك أخوات كمان؟
- لا
- الحمد لله قربت تفرج
إنصرفت الفتاة وجلس سعيد على الكرسي بعد أن تشتت أفكاره تماماً فقرر أن يأخذ دوش بارداً يساعده على تهدئة اعصابه.
خرج سعيد من الحمام واحس بالراحة ونسى أحمد وعائلته واخذ يكتب حتى وصل الى نصف الصفحة فإذا بصوت نهيق حمار ينزل عليه كالصاعقة بشكل متواصل ودون إنقطاع.
وبعد دقائق من سماع سمفونية الحمار!! خرج سعيد ليرى من أين يأتي النهيق. فوجد رجلاً يقف في الشارع جنب النافذة يمسك بحمار توجه إليه سعيد غاضباً:
- انت يا بني آدم واقف هنا ليه؟
-و انت ما لك يا حضرت؟ هو اني واقف في بيتك؟ أني واقف في ملك الحكومة.
- ايوه بس حمارك بيزعجني وانت واقف جنب شباك بيتي !!
- وأنا أعملك ايه؟حمار وصوته كده, أركب له كاتم صوت يعني؟
- انت أساساً واقف هنا ليه؟ مستني حد؟
- ايوه الحمار ده بتاع خالي أبو أحمد وأنا مستني علشان يجي ياخده مني !!وكمان بعد كده ابن عمتي جاي بعد ساعة علشان يجيب الجاموسة وخالي يجي مرة واحدة ياخذ الاثنين واحنا بنعمل كده مرتين في اليوم مرة الصبح ومرة العصر, فهمت ياحضرت ؟
- ربنا ياخدك وياخد أبو أحمد وياخد الحمار ده وياخد الجاموسة وياخدني انا كمان . انتو ناويين تجننوني ايه ده؟ أنا... هربت من القاهرة علشان الدوشة وجيت الأرياف علشان الهدوء ومن الصبح جرايد وفطير وعربية وغسيل هدوم ودلوقتي الحمار وجاموسة.
أنا اعمل فيكم ايه؟ احسن حاجة أنا أمشي من هنا وربنا يعوضني بإيجار الست أشهر اللي دفعتهم مقدماً ربنا يوريني فيكم يوم. حسبي الله ونعم الوكيل.
جمع سعيد أغراضه على عجل وترك البيت عائداً الى القاهرة .
جلس أبو أحمد وزوجته وإبنه وإبنته وإبن أخته وهم يضحكون من كل قلبهم وقال أبو أحمد:
- شفتي يا وليه اهو ده ثالث واحد بيجي هنا علشان الهدوء ونخليه يدفع 6 أشهر مقدم ويطفش من أول يوم بعد ما نكون طلعنا عينه من كثر الازعاج .بكره الصبح أخلي عم حنفي السمسار يشوف لنا زبون جديد نلهف منه القرشين وقال ايه؟ كاتب وعاوز هدوء !!!!.