الثقافة العشبية: هجنة المعرفة وإبداعات الملونين
2009-03-30
كان منح الهندي الشاب: "أرافيند أديغا" جائزة بوكر للكتاب باللغة الإنكليزية للعام 2008 عن روايته الأولى: "النمر الأبيض" حدثاً إضافياً يؤكد الأثر العميق الذي راحت تحفره الثقافات الملونة في المشهد الثقافي الأبيض، إن صح التعبير. وهذا الروائي الشاب هو الهندي الرابع بعد "سلمان رشدي" و"أرونداتي روي" و"كيران ديساي" يفوز بجائزة بوكر التي تم الإعلان الأول عنها في العام 1969.
تتحدث الرواية عن حياة رجل هندي ينتقل من قريته الفقيرة ليصبح من أهم رجال الأعمال فينيودلهي. وقد اختيرت للجائزة لأنها، وبحسب ما صرح رئيس لجنة التحكيم"مايكل بورتيو": (تصدم وتسلّي بالدرجة نفسها)، أي أنها تؤديالمهمة بالغة الصعوبة التي تقتضي الفوز بتعاطف القارئ والمحافظة عليه، حسب تعبيره أيضاً.
بهذا ينضاف "أرافيند أديغا" إلى قائمة الكتاب الملونين الذين راحوا يهزّون عروش الكتابة البيضاء حين اختاروا الكتابة بلغة الغرب، ولكن بتفردٍ معرفي إبداعي دون الوقوع في الاستلاب لثقافته وقيمه، متحدّين بذلك الثقافة البيضاء في عقر دارها، والأمثلة على هذا كثيرة من "لاهومبا لاهيري"، "توني موريسون"، "إدوارد سعيد"، إلى "أمين معلوف" و"فاطمة المرنيسي" وغيرهم الكثير. هؤلاء يشكلون البقعة السوداء التي راحت تنوجد بشكل حقيقي في المخيال الأبيض، ولنقل إنهم يشكلون الزونات الملونة التي تطلق سؤال الثقافة الحقيقي، كما يرى "هومي بابا" في كتابه: موقع الثقافة. حيث موقع الثقافة هو، باختصار، الفضاء الزماني- المكاني الذي يخلقه المحرومون، المنفيون، قاطنو أطراف المدن، المقتلعون، المستَعمرون، المضطهدون، وباقي المهمشين بسبب العرق أو الجنس أو الطبقة.
والهجنة التي تستطيع الكتابة الملونة لهؤلاء أن تخلقها في قلب الكتابة البيضاء، وبالتالي تقوّض مركزيتها وتصلبها، هي اللون الثقافي الذي يصعب على "هومي بابا"، وربما على التيار مابعد الكولونيالي برمته، تقبل سواه. ووظيفتها التي تقوم بها على أكمل وجه، ويوماً بعد يوم، هي تقويض المركزية الإبداعية الغربية وتفتيتها إلى مركزيات ملونة بتلون الثقافات المبدعة فيها، وبتلون الأعراق والأمزجة الشخصية والخلفيات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والمناطقية وهلمجرا. هؤلاء جميعاً ينقلون فنون ثقافاتهم ويلوثون بها البياض الغربي، وهؤلاء أيضاً هم الذين يشكلون ما يمكن أن نطلق عليه: الثقافة العشبية. حيث العشب، بالاستعارة من "هنري ميللر"، لا يوجد إلا بين مجالين واسعين غير مزروعين. إنه يملأ الفجوات. إنه ينمو بين- وسط الأشياء الأخرى. فالوردة جميلة، والكرنب نافع، والخشخاش شديد الإثارة، غير أن العشب عبارة عن طفح، إنه درس في الأخلاق.
ونستطيع أن نتذكر أن "جيل دولوز" و"فيليكس غاتاري" لطالما انحازا في كتابتهما المشتركة إلى العشب الذي لا ينمو وفق مخطط مسبق، بل ينمو على شكل طفح. وبالتالي فالثقافة العشبية لا تخضع لقوانين المركزية ولا لرؤيتها، على الرغم من أنها تعيش (بينها) أو تستخدم أدواتها، ومن أهم هذه الأدوات، وأخطرها بالتأكيد، هي اللغة التي راحت الإبداعات الملونة تشرعها في وجه أصحابها الأصليين لتصرعهم بها.
بيد أن مصطلح العشبية ليس منوطاً بالثقافة الملونة التي تقتحم الثقافة الغربية البيضاء فحسب، إنه منوط كذلك بالعشب الذي ينمو في الثقافة الواحدة، فالكتابة الجديدة في سورية مثلاً لم تكن لتحدث لولا ما تحدثت عنه من ثقافة الهجنة، ليست الهجنة العرقية فحسب بل الهجنة الجيلية بالدرجة الأولى، والتي ساهمت في تلوين الرؤية الإبداعية بمجيء أجيال محملة برؤى جديدة تتناسب مع تغيير جذري في المجتمع خلال العقود الماضية اختلفت أسبابه وتباينت. ومن ثم الهجنة المناطقية التي كان لها كبير الأثر أيضاً في تقديم كتابات تنتمي إلى مرجعيات وفضاءات مناطقية وطبقية وطائفية وثقافية وحتى قومية متباينة، حيث صعدت أجيال جديدة عملت على حقن السائد الإبداعي بتجارب مختلفة وغير معروفة سابقاً، بعد أن كانت الكتابة مقتصرة على طبقات مدينية معينة، تنتمي إلى نسق أحادي متماثل، وبالتالي تمتلك رؤى ثقافية وخلفيات إبداعية محددة ومحصورة. الأمر الذي جعل مواضيع الكتابة تختلف كما اختلف شكلها، وراح رفض التابويات وخلخلات اللغة يبدو واضحاً في المنجز الإبداعي يوماً بعد يوم.
الهجنة الثقافية هذه، التي تأتت من اختلاف الأثنيات والمناطق والأجيال والأديان والطوائف ودخولها في المشهد الثقافي، أدت إلى ظهور وجهات نظر خاصة ومتفردة لكل كاتب وكاتبة، بعد أن اقتنع عدد لا بأس به من الكتاب والكاتبات الجدد، وإن عملياً في معظمهم وليس نظرياً، بأن الخصوصية والاختلاف الندي صنو للإبداع والتفرد، وليس بالضرورة أن يحتمي المبدع أو المبدعة بمظلة السائد والمكرس والمعروف كي يحصل على المباركة الإبداعية ويكون في (مأمن)!! فراحت الأصوات (الملونة) تظهر في النصوص، كما ظهرت الخصوصيات اللغوية والتقنية. فلو كان فرسان اللغة الملونين، الذين انتزعوا اعتراف قراء الغرب وجوائزه، قد كتبوا في فيء المظلة الثقافية الدارجة لما أبدعوا شيئاً.
نهاية، وبما أن الشيء بالشيء يذكر، فقد سبق وتنبأت "باسكال كازانوفا" في كتابها: "الجمهورية العالمية للأدب" بأن البلاد المحيطية، أو بلاد الأطراف حسب تعبيرها، قد تعمل على إثبات أحقيتها بالأدب، وأن دول المركز أو إمبراطوريات الإبداع المهيمنة، كما هي الإمبراطوريات السياسية الكبرى عبر التاريخ، ستُخترق مع الزمن من خلال إبداع المضطهدين والعبيد والملونين...إلخ. ربما كان للكلام حسبما أرى معنى عميقاً لكن ما أضحى حقيقياً وخارج التنبؤات ربما أن اللون الإبداعي الواحد لم يعد يمت للإبداع الجديد بصلة، بل تحول إلى تقليعة قديمة عفا عنها الزمان، واليوم هو زمن الثقافة الملونة والمتباينة والمختلفة والهجينة، إنه باختصار زمن الثقافة العشبية.
استعنت لكتابة هذا المقال بالكتب التالية:
- ما بعد الكتابة: نقد إيديولوجيا اللغة، خضر الآغا، دار النايا، ط1، دمشق 2008
- موقع الثقافة، هومي بابا، ت: ثائر ديب، المجلس الأعلى للثقافة، ط1، القاهرة 2004
- نشرت هذه المادة في جريدة الخبر السورية
- عدد 37 الأحد 1 شباط 2009
-
08-أيار-2021
09-تشرين الثاني-2019 | |
15-كانون الثاني-2013 | |
07-تشرين الأول-2012 | |
04-تشرين الأول-2012 | |
28-آب-2012 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |