إلى زياد الرحباني و"العقل زينة"

كما فِعلُ فنجان القهوة الصباحي كفيلٌ بإيقاظ حواسِّك كافة..
كما لحظةُ الانتشاء بعد فسحة الخمر كفيلةٌ بإيقاد شَجَنِكَ إلى أقصى مدى..
كما نقرات ندى الأمطار على نافذتك كفيلةٌ بدفع روحك للرقص بعد جمود..
كذلك كان أثرُ لحنِ الكمان ذاك في مَسْمَعِك. قصيرٌ، ساحرٌ، يخترق الجدران التي تخنقك، ليتفجّر في أذنيك نافضاً ما حولك من تشويش. تدير رأسك بذهول، في كلّ الاتجاهات، راجياً تحديد مصدر اللحن. تغمضُ عينيك آملاً تركيز حواسّك لتستحيل أذُناً تُنصت فحسب، مبعداً أفكارك المبعثرة في تلافيف دماغك.
تتراءى لك صورة فتاةٍ تقبض على الكمان بشدة. خائفةٌ هي من أن تنزلق نغمةٌ تشذّ عن رفيقاتها. تتدرّب على عزف لحنٍ أبدي لا تعرف غيره. ترتدي الأزرق الفاتح الذي يليق بها كما لا يليق لون السّماء بسواها. تتطاير خصلات شعرها الفاحم مع حركات رأسها المتمايل مع النّغَم.
متأكّدٌ من أنها تستند إلى حافة إحدى النوافذ أو الشرفات المجاورة. تفتح عينيك، ثم تندفع بلهفةٍ إلى الشرفة، لتصدمك الشوارع بخوائها المقيت. بضع قططٍ شاردة تقف دون حراك، لكأنها تنصت هي الأخرى. شرفاتٌ مُغَلَّقة النوافذ، يتراءى لك من خلفها أطيافٌ تُشرع تلك النوافذ قليلاً، ثم لا تلبث أن توصدها بعنفٍ وَجِلْ.
فجأة ينقطع اللحن. تحسُّ حينها بأن أصوات الانفجارات قد تعالى دويها،وترى اندفاعَ القططِ المجنون، لتبدأ عراكاً دموياً فيما بينها.
تهزك أصوات الانفجارات بعنف، فتثب كالملسوع لتوصد باب الشرفة. تتفكّر بذلك اللحن، وترمق تأثيره العبثي عليك بحسرة.
تنازعك نفسك للنزول والسؤال عن مصدره. تبدأ بالارتعاش فَزَعاً حين تستقرُّ الفكرة في ذهنك. تسارع بدسّ بطاقتك الصحفية في جيب معطفك، فتبث شيئاً من الطمأنينة الكاذبة في نفسك.
ستهرع لسؤال أي عابر سبيل عما إذا كان حدّد جهة ذلك اللحن الخرافي. لعله سينظر إليك كما لو كنت هارباً من الجحيم " أي لحن يا مجنون؟!". لكنك ستهزّ كتفيك استخفافاً بضعف سمعه. متأكدٌ من أنك سمعت اللحن، حتى لو أجمع الجميع على أنك اختلَقْت ذلك، وستصرخ أمامهم: "هي كانت تعزف.. هي".
توارب باب الشقة متأبطاً كاميرتك وحقيبتك، وتخرج إلى الشارع الخاوي بحذر. تتسارع خطواتك، كما دقات قلبك، كلما دنوت من الشارع الرئيسي. تتعالى أصوات الانفجارات. وفجأة، يوقفها انسياب اللحن متموجاً متصاعداً. تبتسم بلهفة، وتبدأ الركض غير مبالٍ بالرصاص المتناثر حولك. تتوقف آنَ يتراءى طيف تلك الفتاة، تومي إليك من إحدى الشرفات، فيما ينداح رعبٌ مشوبٌ باللذة ليغطي كلَّ شيء.

يزن الحاج