بروكسيمول..كودائين
2009-04-30
هنا حيث يربي البشر أبنائهم على حبال الغسيل، وحيث الأمهات المصعوقات بمفاتيح ساعة الكهرباء؛ يحاولن عبثاً سرقة التيار بعد انتهاء الدوام الرسمي؛ يمكنكَ مشاهدة الأولاد عند عودتهم من المدارس يصعدون الطرق الموحلة إلى بيوتهم المنذرة بالهدم.. ولو خاطرت وذهبتَ معهم إلى تلك البيوت سترى بأمِّ عينكَ رجالاً يشكّون الخرز ويطرزون الملاحف،أو ربما يرتكبون الأمكنة جدراناً هائلة من "البلوك"؛ جدراناً بنيت ليلاًً على عجل بعد مخاطرة "بقلاب" رمل ومثله من "الشمينتو المهرّب".
هناك تماماً سترى بيوتهم الافتراضية بأبوابٍ حديدية صدئة، لايهم.. المهم أنهم يسكنون بيوتاً على تخوم العاصمة.
في هذه البيوت تنشاً الكوادر المستحيلة لكاميرتكَ الذكية، إذ لا نوافذ أو أبواب إضافية للساكنين الجدد، وحيث في الليالي الشتوية الباردة ستراهم يزقّون مواد البناء إلى الطوابق العليا، يعمّرون في اللحظة نفسها التي يسكنون فيها؛ ثم يتزوجون خوفاً من إشعارات الهدم ومخالفات البلدية، وقريباً جداً من أسرّة زوجاتهن يمددون أنابيب المياه والصرف الصحي، ويخترعون البيوت المائلة على بعضها كما في لوحات"وليد قارصلي".
يشربون المتة والنرجيلة على شرفاتهم المتلاصقة، ويحدقون بأحياء دمشق المنخفضة و"النظامية" يتصببون على أضواء أتوستراد المزة ليلاً وهم يكرعون"السيموكودائين" ثم يدخنون ويسألون أنفسهم: هل شوارع المالكي النظيفة هي أيضاً من أحياء المخالفات الأكثر عراقة؟..
هنا تنتظر ليلى القادمة من الريف السوري حبيبها أحمد، تُدخله ليلاً إلى غرفتها التي استأجرتها بثلاثة آلاف ليرة، تُسمعهُ فيروز وفريد الأطرش، وسعدون الجابر، وتسلق له البيض والبطاطا، ثم تطلب منه على استحياء أن يصعد إلى عمود الكهرباء المجاور ليسحب منه خطاً سرياً يغذي مدفأتها الكهربائية.
يصعد أحمد متجاسراً على العمود الحديدي الذي يغذي الحارة، يمسك بالكابل ذي النهايات النحاسية المتشعبة، ويغمدهُ لا على التعيين؛ بينما تراقبهُ ليلى من شباكها المكسور بعينين مقلوعتين، يخجل أحمد من ليلى فهو لم يتعامل يوماً مع الكهرباء، لكن وفي الوقت ذاته لا يريد أن يبدو رجلاً جباناً أمام مهمةٍ تافهةٍ كهذه.
يغمد أحمد الكابل الكهربائي في أحد المآخذ الرئيسة للتوتر العالي تلمع الكهرباء في غرفة ليلى ويلمع أحمد متوهجاً، يلمع أحمد مثبتاً إلى التوتر العالي، يلمع بينما تتساقط عليه أمطار كانون الثاني، تبتسم ليلى وتدير مدفأة الكهرباء ذات الثلاث شمعات، فيتسرب الدفء مع قلب أحمد المكهرب إلى غرفتها، بينما يكمل أحمد الدارة، ويفحّم قلبه العشريني مسحوباً بطاقة فولت أمبير نحو سماء المغفرة...
هنا أيضاً ثمة ألفةٌ غريبة تفرضها البيوت المتلاصقة بلا هوادة؛ لاسيما داخل تلك المنازل المخصصة للأجرة، حيث لا أسرار، ولا يمكن للجدران المشتركة بين الشقق المحشورة أن تخفي تفاصيل حياة الأزواج، وحيث بإمكان الفضوليين أن بستمعوا لآهات العريسين الجدد اللذين عادا مؤخراً من أسبوع العسل، أو ربما من ابتدائه بعد عرسٍ عابر على أسطوح البناية الرحب والمجاني، تحديداً عندما تحمّس أحد أقرباء العروس مطلقاً ثلاثة أعيرة نارية اخترق أحدها صدر البنت"الصف العاشر"، البنت التي كانت"تدبك على الأول" ليتحول العرس الأسطوحي إلى مأساة مدويّة لا يمكن لسوفوكليس أن يكتب مثلها، حتى وإن عاش ألف عام من الحروب الطروادية الأثنينية.
لقد اختلفت التراجيديا، تبدل أبطال المسرحية..
ثمة أيضاً غرف مناوئة تناسب المثقفين الصغار الذين قدموا مجدداً لدراسة الجامعة، واعتبروا سكنهم في هذه الأحياء ضرباً من المأساة الفريدة، فحفظوا أشعار"محمود درويش، ومظفر النواب، وألصقوا صور"غيفارا مات" ومارسيل خليفة على جدران البلوك الطازجة كافرين بالحظ وفرص العمل وشبح البطالة.
هناك كانوا يجتمعون كل ليلة بعد أن حوّلتهم المدينة إلى مندوبي مبيعات لشركات غذائية ومساحيق تجميل، يجتمعون كل يوم بعد أن ملوا جرعات"الريان" الرخيصة، تعرفوا على نوعٍ جديد من "تعمير الطاسة" نوع فريد ومخالف للأعراف، ومناسب جداً لحفلات سمر-من أجل خمسة حزيران- تعرفوا على السيموكودائين.
والسيموكودائين هذا دواء للسعال، شراب مسكن للأطفال، لكن مادة الكودائين التي تستعمل كمخدر للذبحات الصدرية الحادة أصبحت ملاذهم إلى النشوة، لاسيما أذا أخذوها مع ثلاث أو أربع حبات من "البركسيمول"، ولا ضير من شريط كاسيت للشيخ إمام يغني لهم"البحر بيضحك ليه" فالشيخ إمام ورفيق دربه "أحمد فؤاد نجم" أبرز الحرافيش الذين عاقروا أصنافاً عديدة من"الصنف والبتاع" ولذلك هم مشدودون إلى مناخات غرائبية يشعرون خلالها أنهم يبددون وحشة المدن الكبرى، وعسفها الإسمنتي، يذوون في الظل، في أقبية السكن العشوائي، بعيداً عن أعين زميلاتهم من الجامعيات صاحبات السيارات الفاخرة؛ اللاتي يسكنّ أحياءً"منظمة" ونظيفة في القصاع والمالكي والطلياني، أما هم الذين ينتظرون السيرفيس المبعوج لينحشروا مع المحشورين من التعساء وخائبي الحظ، فإنهم وبعد مشاويرٍ قصيرة على صيدليات العاصمة يأخذون بوصفاتٍ مزوّرة زجاجات الكودائين وظروف البركسيمول، ثم يتسلقون الدروب الموحلة ذاتها إلى غرفٍ على سفح قاسيون أشبه بزرائب الحيوان، يشربون ويغنون ثم يدخنون وينامون عقباً لرأس.
صباحاً في صحيفة الحياة اللبنانية كتبت الصحفية "ل.ع" مقالاً أفردت له الجريدة صفحةً كاملة تحت عنوان"الشباب السوري يتعاطى الكودائين"، لكن مالذي حدث؟ ظل هؤلاء الشباب يجوبون شوارع العاصمة بحثاً عن الصيدليات المناوبة، رغم كل التحذيرات ثمة من يدبر لهم من أمرهم رشدا، حتى عندما ضُيّق الخناق عليهم، وأصبح الصيدلاني يطلب الوصفة مع الهوية لجأ هؤلاء إلى صيدليات المحافظات؛ سافروا إلى بلدات بعيدة للحصول على الكودائين والبانتان والبركسيمول أو حتى ما يعادلها..
هكذا تربي العشوائيات حول مدينةٍ بحجم دمشق أحزمةً من الفقراء الذين يتعاطون أي شيء من أجل النسيان والهروب، يتعاطون السبيرتو وحبوب منع الحمل، مضادات الإقياء والتشنج والإسهال وشتى أصناف المهدئات، لا يفكرون في شيء سوى أن يستمروا في حالةٍ من الإغماء المتواصل؛ ربما ليتسنى لهم نسيان تلك المحلات الفاخرة بحسناواتها ورجالها الأثرياء المتنفذين، وهم يجلسون خلف زجاج مطاعم أبي رمانة، يشربون البيرة ويدخنون السيجار الكوبي، بينما هم سكان الهوامش الأصليون؛ يقفون كجيشٍ متأهب من النُدّل المخلصين؛ يسكبون لهم شوربة البصل، ويمددون لهم عجينة البيتزا...
هكذا وبهدوء يستمر النص البابلي القديم؛ القصيدة التي لا تهترئ"حوارية السيد والعبد"، حوارية الهامش والمتن، حوارية البشر الذين يعيشون بين أنابيب الصرف الصحي، والموعودين ككل موعودي الأرض ببيوت بلاستيكية لتربية دودة الأمل الوحيدة...
سامر محمد إسماعيل
SAMERISMAEL
08-أيار-2021
16-حزيران-2018 | |
30-نيسان-2016 | |
07-كانون الأول-2015 | |
19-كانون الثاني-2015 | |
19-كانون الثاني-2010 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |