فهرس لحياة بيروت الليلية
2009-05-04
لم نُمس من رواد حانات السهر الليلي في مونو، في عزّ تألق الشارع اواسط التسعينات. كنا حينذاك قد أدمنّا السهر في حانة “شي اندريه” في شارع الحمراء، نحن مجموعة الشبان القادمين الى بيروت من قرى وبلدات جنوبية، حيث بدأنا فيها كتابة الشعر الحديث او ما اتفق على تسميته شعرا حديثا او نثريا، وكان بعضنا قد أصدر مجموعة شعرية اولى من الشعر المقفى او العمودي. في تلمّسنا الطريق نحو شارع الحمراء وتلك الحانة تحديدا، كنّا كمن يتتبع قدره الى حيث يقوده القدر. لم نكن نعرف من الحانة روادها ولا أصحابها، بل سمعنا عنها أحاديث يتناقلها الاصدقاء وقصصا تُروى بالتواتر هنا وهناك في مقاهي شارع الحمراء عن رواد تلك الحانة من شعراء ومثقفين ورسامين وسكارى عتاة، وعن زيارة ممثلين ومغنين عالميين لها من مثل ازنافور وجوني هوليداي، وعن سهر زياد رحباني مدة طويلة فيها، وكذا جورجينا رزق ملكة جمال الكون. حين زرنا “شي أندريه”، رأينا أن أرتور، صاحب الحانة، قد علّق صور هؤلاء جميعا على المرايا رافعين كؤوسهم له وللحاضرين من الساهرين، وقد تركوا تواقيعهم على صورهم تأكيدا لمرورهم. لم نصبح من الرواد الا بعد اعتيادنا الركون الى المقاهي، كأن الانتقال الى التسكع الليلي بين الحانات لا بد أن يمر بالتسكع النهاري في المقاهي. فشارع الحمراء اواخر التسعينات كان يقدّم الى رواده مختلف حاجات تسكعهم اليومي: المقاهي والمطاعم والحانات ومناقشات حامية سرعان ما تتحول مقالات تُنشر هنا وهناك.
في مقاهي الحمراء اجتمعنا نحن الوافدين الجدد اليه مع من كان قد أدمن الجلوس في المقاهي وتزجية نهاره هناك، وهؤلاء الشعراء الذين قرأنا لهم شعرا كثيرا وغنّى مارسيل خليفة أغاني من قصائدهم، وهم من الكتّاب في الصفحات الثقافية ومن الأساتذة المتخرجين من كلية التربية، وامتهنوا الثقافة اضافة الى مهنهم التي لا يعملون فيها، سواء في التعليم في المدارس الرسمية او كموظفين في إحدى الوزارات بلا دوام. ومنهم من حاول انتاج أعمال فنية في الشعر او الرسم، ثم اختفوا من الشارع كلٌٌّ الى مصير آخر، بعدما كانوا أصدقاء يجمعهم ارتياد المقاهي، او شباناً يساريين متسكعين في الشارع، أو شعراء محتملين وفنانين تشكيليين من أجيال مختلفة، وهؤلاء منهم من أخذته المغتربات أو أعاده الضجر واليأس الى أحيائه الأصلية وحياته السابقة على التسكع.
شعراء الحانات
مقاهي الشارع التي أفلت اليوم لتتحول مخازن لبيع الالبسة الجاهزة (مودكا، ويمبي، كافيه دو باري)، وحلت محلها مقاه أخرى تقدم أنواع القهوة السريعة (على وزن الطعام السريع) واستقطبت رواد الشارع على اختلافهم (كوستا، ستاربكس، ليناز…)، كانت السبب في الانتقال مساء الى الحانة. فالشعراء الجدد القادمون من الضواحي أو من القرى والبلدات البعيدة في الجنوب، عملوا في كتابة المقالات في الصحف الثقافية وخصوصاً في “ملحق النهار” الثقافي. وهذا عمل لا يتطلب وقتا طويلا، ويمنح الكاتب وقتا أطول للتسكع الذي كان من المفترض انه تمرين على تداول الافكار واكتسابها، لذا اعتبرناه تسكعا حميدا، سرعان ما صار جزءا اساسيا من حياتنا.
شعر في “شي أندريه”
لم يكن شارع الحمراء في اواسط التسعينات للسهر الليلي كما شارعا مونو والجميزة اليوم. علب الليل في تلك الاونة لم يتجاوز عددها في الحمراء الاربع او الخمس، وهي الى “شي أندريه”، “البارومتر” في آخر شارع عبد العزيز، و”شي داني” في أحد الزواريب المتفرعة من الشارع، و”مطعم ابو حسن” و”حانة ابو إيلي” في كاراكاس و”واتس آب” في شارع السادات، قبل ان يعيد الشاعر شبيب الامين إفتتاحها باسم “جدل بيزنطي” في كاراكاس اوائل القرن الحالي. كانت “شي اندريه” تتسع لعشرين شخصا على الاكثر يصطفّون على البار الخشبي في مواجهة المرآة الكبيرة، او على الكراسي المرصوفة قرب الزجاج المطل على باحة خارجية حيث يقف بعض الساهرين. هناك بعد لقاءات بين الشعراء، تكرست ليلة الجمعة لقراءة قصائد جديدة للشعراء الشباب. كنا مجموعة من الراغبين في إخراج قصائدنا من الأدراج وتبادل الافكار الشعرية. غسان جواد أخرج “تمرين على الاختفاء”، ناظم السيد “برتقالة مقشرة من الداخل” واحتفل بتوقيعها في باحة الحانة، محمد بركات “الارض في مكانها”، مازون معروف “كاميرا لا تلتقط عصافير”، زكي بيضون “جندي عائد من حرب البكالوريا”، رامي الامين قرأ قصائد “أنا شاعر كبير” في تلك الحانة قبل ان ينشرها في كتاب، محمد الأمين قرأ بعض قصائد “خطوط بيضاء نحو المنزل”. يوسف بزي ويحيى جابر اخذا على عاتقيهما دور مستمعَين الى الجديد الشعري. كانا يقرآن قصائدهما الجديدة أيضا وكأنهما يمتحنانها في ذائقة الشعراء الشباب. وكانت تلك المجموعات الشعرية تقرأ في الـ”شي أندريه” قبل ان تذهب الى المطبعة، وكانت الجماعة تتسع اسبوعا بعد أسبوع. وحين أقفلت الحانة انتقلت السهرة الى “الريغوستو” الذي افتتحه ارتور على مبعدة عشرات الامتار. كان سهرنا في المكان الجديد يتمحور حول الشعر وقراءته، كما في الـ”شي أندريه” قبله. ثم بعد أشهر تمأسست هذه السهرة الشعرية في “جدل بيزنطي” فأفردت الحانة للقاءات الشعرية، ودعونا شعراء من كل مكان، وديع سعادة أتى من استراليا، لقمان ديركي من سوريا، باسم فرات من اليابان، وأدونيس شارك في إحدى السهرات، وكذا شوقي أبي شقرا، وعباس بيضون، وغيرهم كثر، ما أعطى هذه السهرة الاسبوعية شهرة واسعة وتم تداول أخبارها في أرجاء العواصم والمدن العربية، قبل ان تصل حرب تموز 2006، وتلقي بسمومها على حياتنا البيروتية، فتتوقف السهرة الى رجعات خجولة لم تعدها الى حياتها السابقة.
الجرأة على السهر
شارع مونو كان في عزّ صعوده اواخر التسعينات من القرن الماضي وبدايات القرن الجديد. بعضنا تجرأ على الخروج من شارع الحمراء الى شارع مونو للسهر الفعلي. سهرنا في الأول لم نكن نعدّه سهرا قدر ما هو روتين يومي ينهي النهار الذي كان بدأ في الشارع نفسه. في مونو نسهر لأننا نختلط بالساهرين الذين يقيمون للسهر طقوسا تتعلق باللباس والمظهر الخارجي والضحك والتسلية والكلام المتناقل بين الساهرين في مجموعات، والتي يبدو أفرادها من غير الساهرين اليوميين، بل من ساهري نهاية الاسبوع للاستراحة من عمل الايام الماضية. هناك كنا نسهر فنبدو كأننا نتعرف الى السهر والكحول في واحدة من حانات مونو المرتّبة والجديدة كروادها، والمضاءة بطرق مبتكرة تتناسب وأجواء السهر الليلي وحيث تصدح موسيقى مختلفة عن أغاني زياد رحباني وفيروز وأم كلثوم التي تتكرر في سهرات الـ”شي أندريه” و”الريغوستو” من بعده. الخروج من الحمراء الى مونو أقدم عليه مَن شعر انه أكتمل جنينا في رحم شارع الحمراء. ومن لم يخرج حينها لا يزال حتى اليوم جنينا يتمتع بدفء رحم الشارع. الا من قرر ترك الحمراء الى الابد بعد حوادث 7 أيار 2008 التي بدت كأنها عملية طرد عنيفة للأجنّة. حانات شارع المكحول أقفل بعضها وافتتح غيرها. مونو في عزه في نهايات الاسبوع. يستقبل الساهرين من الشباب الذين يعملون أعمالاً جديدة ازدهرت في بيروت في سنوات السلم وجذب الاستثمارات. مونو صعد مع صعود منطقة “الداون تاون”. فسحة صغيرة الى جانب ساحة الشهداء للساهرين الشباب والسياح العرب والاجانب. وتكررت سيرة شارع الجميزة تماما كسيرة مونو. حانة اولى تلقى اقبالا، تليها حانة ثانية، ثم لا تلبث أن تنتشر الحانات هنا وهناك ساحبةً الساهرين من الشوارع البعيدة، من الكسليك مثلاً، وساسين في الاشرفية، والحمراء في بيروت الغربية.
يسارية ثقافوية
ساهرو مونو كانوا جددا كما الهواتف الخليوية والاعلانات على شاشات الفضائيات الجديدة في تلك الآونة. شباناً وفتيات كانوا الصورة الجديدة للبنان الجديد الخارج من مستنقعات الحروب الاهلية المديدة والمتناسلة. يشبهون الشبان والفتيات في الافلام الاميركية المصنّفة للمراهقين، في ملابسهم وكلامهم وحركاتهم وابتدائهم السهر في سبيل “الرقص الاجتماعي”، على وصف ميلان كونديرا. كانوا يبدون وكأنهم قد اختبأوا طويلا في خزائنهم في انتظار لحظة خروجهم الى الحياة. كانت عدوى السهر الجديد تنتقل الينا في شارع الحمراء، نحن يساريي التظاهرات والافكار والثقافة المتشاوفة على كل ما هو جديد ومبتكر وما اتفق على تسميته “عولمة”. كنا نسهر على وقع أغان ثورية او رحبانية و”أم كلثومية” اردناها تعبيراً عن رفضنا ما اعتبرناه ابتذالا موسيقيا راح ينتشر في تلك الفترة. لكنْ، كان علينا ان نتخلى عن السهر الروتيني ذاك الذي يمدد يومياتنا في الحمراء، لا ان نتخلى عن سهرنا اليومي، بل عن ضجره الذي يحيله سهرا روتينيا. كانت الحياة التي تدب في مونو وفي وسط المدينة، تنتقل الينا بالعدوى، شئنا أم أبينا، اعترضنا ام استنكفنا عن مواكبة بيروت العصرية. صرنا نقدّم الشعر الى الوافدين الجدد من السهر الجديد وكأنه مخلوق عجيب ربّيناه بحرص وهدوء، وهم راحوا يقدّمون الينا أسلوب عيش وسهر جديدين. صورة مغايرة للعشق الغيفاري، ذاك القائم على المشاعر النضالية في كل شيء: الكتابة والتسكع وكرع الكحول والتدخين الشره، وفي العلاقات بالفتيات الجميلات اللواتي طالما ظلمناهن بـ”غيفاريتنا”، وفي العلاقات مع الاصدقاء وفي التظاهر والاعتراض الذي كان مبدأ قبل موضوعه، على طريقة “حماية السلاح بالسلاح”، وفي انتظار نجاح واكيم ليلقي خطابا او يجري مقابلة تلفزيونية، وفي انتظار جملة ما من زياد رحباني يطلقها عبر أثير إذاعة “صوت الشعب” فنروح نرددها بصوته وطريقته، فيما الحياة الجديدة تجري الى جانبنا ولا نريد الخوض فيها. فنحن يساريي الحمراء نكره الجدة كما نكره العولمة ومقاهي الامركة ومطاعم الاكل السريع والفتيات المتبرجات والحانات المخصصة للرقص. كان علينا ان نبدو جددا اذا أردنا ان نسهر يوميا، كي لا نشعر بالغربة حين ندخل الى شارع مونو ونختلط بساهريه. كان علينا ان نكفّ عن الافتراض بأن كتابتنا الشعر تجعلنا في منزلة أعلى، وبأن شعرنا مكتظ بهموم حياة الجماعة والبشر جميعاً، وبأن القضايا جميعها قضايانا ومستعدون للنوم على الرصيف اعتصاما من أجلها. كان علينا ان نصدّق في تلك الآونة من نهاية القرن الماضي ان العدسة المكبّرة التي ننظر عبرها الى الامور قد تحرق عيوننا حين يدخل فيها بعض ضوء، وان الشعر الذي نكتبه يجب أن يعبّر فقط عن فرديتنا وانانا الداخلية وعيشنا في المدينة التي نكاد نحوّلها الى قرية على غرار قرانا التي غادرناها. وكان علينا ان نعرف ان الساهرين في مونو ليسوا تافهين ولا سطحيين، بل هم يعيشون حياة لا نريد الخروج من هامشها. استقبلت حانات الحمراء أفرادا جددا من خارج عائلتها وتلوّنت بهم بعدما كانت رمادية بنا، وصرنا ندور على الحانات المختلفة في كل مكان جديد تُفتَح فيه حتى صرنا من ساهري الليل البيروتي العميم حتى لو بدونا في البداية كتلامذة يذهبون الى المدرسة للمرة الأولى.
فورة الجميزة
شارع الجميزة البيروتي العريق، ذو المنازل التراثية والدكاكين والمحال التجارية العائلية، راح يتحول الى هذا المزاج الجديد نفسه. الا انه فرض تنوعا جديدا عما كان عليه مونو، الذي لا محل فيه للساهرين اليوميين او المداومين على السهر، لأن السهر فيه لا يزيد على اليومين في آخر الاسبوع، فيما تمكنت حانات الجميزة المتنوعة والمختلفة من تكريس نوعين من السهر، أي السهر اليومي والسهر الاسبوعي. في بادىء الامر افتتح “بار لوي” في وسط الجميزة، ثم “تورينو” قربه ثم حانة “ليلى” في الجهة المقابلة، ثم “كيان” قرب التباريس ثم “بيبا” في النصف الاخير من الشارع، وكرّت السبحة، حانة تلو أخرى، وبعضها مطعم في حانة، او حانة في مطعم. كان شارع الجميزة في السنوات الاولى من القرن الحالي مجرد شارع بيروتي يحاول نفض صفة خط التماس عنه ليعود الى خضم الحياة الطبيعية للمدينة. وفي سنوات السلم المستجدة بات صلة الوصل بين بيروت الشرقية وبيروت الغربية عبر ساحة الشهداء من جهة ومنطقة الرميل من جهة ثانية. وكان الشارع الموازي له جهة المرفأ تجاريا وصناعيا بامتياز، تكثر فيه محال بيع الادوات والالات المختلفة في أسفل البنايات التي يسكنها مسنّون تركهم أولادهم الى أحياء ومناطق سكنية جديدة بعد الزواج، او ارتحلوا عنهم الى المغتربات، تاركين بلادهم بهمة عالية لا تتوّجها حتى نظرة وداعية الى الخلف. شارع الجميزة سكّانه من المسنّين أيضا. فتيان الدكاكين يوصلون الاغراض الى البيوت، وجلّها من الخضر. ملابس المسنّين تباع في محال ضيقة وصغيرة تنتشر في جنبات الشارع. بضعة أفران موزعة هنا وهناك تؤمّن قوتا لعمال الورش الذين يعملون في الشارع الموازي. السكان لا يخرجون الا نادرا للتمشي او لزيارة جيران في مبان قريبة. السيارات التي تمر في الشارع قليلة، تقتصر على تلك التي يقصد ركابها الذهاب الى ما بعد الشارع في اتجاه المرفأ. هدوء ما بعده هدوء كان يعمّ في الشارع البيروتي العريق الذي صنّفته وزارة الثقافة شارعاً “ذا طابع تراثي”. كان هدوء الشارع يشبه هدوء سكّانه المسنّين الذي ينتظرون الموت حتى يصل ليأخذهم بهدوء. هدوء اريستوقراطي، عتيق وغارب، ذاك الذي كان يعمّ في شارع الجميزة الذي لا يبدو ان الحرب مرّت فيه، ولا يبدو سكانه كمن عايشوا حربا. لكن هذا الهدوء رحل مع وصول حانات السهر الليلي في بدايات القرن الحالي. في البداية كانت الحانة تبدو خجولة ونافرة قرب الدكاكين ومحال الالبسة وبين الافران. لكن سرعان ما راحت هذه تخلي الشارع مفسحة المجال أمام حانات السهر الليلي كي تحتله. لم يكن احتلالا بالاكراه، إذ يقال ان الاموال التي يدفعها صاحب الحانة لإخلاء محل صغير يمكنها ان تعيل صاحب المحل وعائلته سنوات طويلة. في شهية مفتوحة استقبل الساهرون تحول شارع الجميزة الى مكان للسهر، فانتشرت فيه الحانات من أوله قرب مطعم “شي بول” حتى نهايته قرب شركة الكهرباء. وبعضها توزع في الشوارع الموازية، والعشرات منها في الزواريب الصاعدة نحو حي سرسق او النازلة من جهة التباريس، او الصاعدة نحو مبنى “صوفيل” في اتجاه وزارة الخارجية. الحانات كلّها أنشئت بطرق هندسية مبتكرة، وكان لديكورها دور رئيسي في ارتقائها من دكاكين تبيع البضائع للمسنّين الى حانات يفور فيها الشبان والشابات فوراناً.
رقص و fashion
لا تخطئ وزارة السياحة في اعلانها الذي تبثّه عبر موقعها على شبكة الانترنت عن شارعي مونو والجميزة في الأشرفية حين تصفهما بأنهما موقعان “ساخنان” للنوادي الليلية والحانات والمطاعم الجديدة والعصرية. فالشارعان هما موقعان “ساخنان” أي “hot”، كما السهرات التي تعرضها قناة الازياء العالمية “fashion tv” عند منتصف كل ليلة في برنامج midnight hot على مدى ساعة تظهر فيه أجساد عارضات جلّهن من اوروبا الشرقية عاريات او نصف عاريات يرتدين ملابس السباحة واللانجيري. القناة التلفزيونية هذه رائجة على شاشات تلفزيونات الحانات في الجميزة ومونو، وهي الاقرب الى قلب روادها ورائداتها الذين يرون في “فاشن تي في” الصورة المجردة لواقع الرفاه والعصرنة. قناة الأزياء صورة من صور تماهي الشباب مع الحداثة والعصر، كما هو نوع السيارة والهاتف المحمول والكمبيوتر المحمول والعطر والزينة والماكياج ولون الشعر وتصفيفه والنحافة والمطاعم والحانات التي يقصدونها وانواع الطعام الذي يطلبونه، ومحال الملابس التي يشترون ملابسهم منها، ونوع السيجارة التي يدخنونها، والاعمال التي يعملون او يريدون العمل فيها. تعرض قناة الازياء العالمية مشاهد من حفلات راقصة أو سهرات تجري في مدن من مختلف القارات، ومنها سهرات نقلت من بيروت من حانة “بودا بار” في “الداون تاون” او من الـ”B018″ في الدكوانة، ومرات من احتفالات حانة “فاشن تي في” التي افتتحت أسفل مبنى صحيفة “النهار” قبل ان تقفل بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري وتدهور الاوضاع الامنية في البلاد. في هذه السهرات المنقولة من حانات تنتشر في مدن العالم، يطفو حس “الفاشن تي في”، الذي يفترض أن صورة الشباب عن أنفسهم وفي عيون الآخرين هي صورة التحرر والانطلاق والمرح والتسلية من غير حزن أو قلق على امور الحياة. إنها الصورة التي تروّجها اعلانات الشامبو عن فتاة أو شاب يمشي في مكان مديني فيما شعره أو شعرها يتطاير في عالم مليء بالترف والأبنية العالية ورجال الأعمال والسيارات الفارهة والساحات النظيفة والسماء الزرقاء والنسائم العليلة. وهي نفسها الصورة التي تروّجها إعلانات الكحول لأشخاص تساهم المشروبات الروحية في انطلاقتهم في الحياة نحو النجومية أو جمع المال والثراء. على هذا المقياس يمكن أي وزارة للسياحة في أي دولة من دول العالم، من دون استثناء، أن تعلن على موقعها الإلكتروني عن “سهر ساخن” في شارع أو شارعين يشبهان شارعي مونو والجميزة من بيروت. فهذا النوع من الشوارع والحانات بات موجوداً في كل مكان. حتى في دمشق وعمان وقطر، يمكن ايجاد هذا النوع من الحانات، التي يكون الواقفون فيها أكثر من الجالسين وجميعهم يرقصون على وقع موسيقى صاخبة حديثة ويرتدون من الأزياء أحدثها، تلك التي تعرض على “فاشن تي في” وتصل الى لبنان كما تصل الى أي بلد من بلدان العالم، وجميعهم يشربون “الفودكا” المخلوط بالمشروب المنشط و”الموهيتو” المصنوع من “الباكاردي”. فشباب السهر الحديث يريدون السكر من الكحول شرط ان يبقوا نشيطين. الحانات الجديدة والحديثة والتي تشبه في ديكورها وإضاءتها ونوع موسيقاها تلك التي تعرض سهراتها على “فاشن تي في”، تمتلئ بالرواد ليلتي الجمعة والسبت وجلّهم من الشبان والشابات العاملين في مهن حديثة ومكتبية. ويداوم هؤلاء على العمل من الصباح حتى الخامسة او السادسة من بعد الظهر في مهنهم. وتمتلئ الطرق بسياراتهم الجديدة في ساعات الذروة عند الخامسة والسادسة مساء. وأكثرهم يشتري سيارته بالتقسيط من الشركات التي تقدّم عروضها الى الموظفين. غالبيتهم تخرج للسهر مع صديق وصديقة. فموظفو الأعمال المكتبية في البنوك والشركات المختلفة (المعولمة) يصنعون حياة متكاملة، خارج حياة السهر، عدّتها الأساسية الملابس الحديثة والسيارة والحبيب او الحبيبة التي هي على الأرجح زوجة المستقبل. وهؤلاء يشربون أنواعاً معينة من المشروب “الحديث” والأشهر بينها “موهيتو” المصنوع من “الباكاردي” والنعناع، والفودكا المخلوط بالـ”رد بول”. هذان المشروبان تعلنهما شركات المشروب في اعلانات يكون أبطالها على شاكلة ساهري حانات الجميزة الحديثة. ففي اعلانات الفودكا أو “رد بول” لا يتوقف الساهرون عن الرقص شباناً وفتيات متلاصقين مثارين بسبب النشاط الذي يمنحهم إياه المشروبان. أما في إعلان “الباكاردي” فإن الراقصين يتمايلون على أنغام طرطقة “مدقة” الساقي الخشبية في الكأس، عاجناً النعناع وصابّاً المشروب الكحولي. وفي لحظة انقطاع الطرطقة وسكونها، يتجمد الراقصون في أماكنهم. وتظهر جملة في نهاية الإعلان: “لا موهيتو… لا رقص”. فكأن رواد الحانات العصرية في الجميزة يتماهون مع الإعلان، أو هو يتماهى معهم. هم مع ذلك لا يشربون حتى الثمالة، ويتركون الحانات بعد منتصف الليل بقليل. فالسهر للرقص وتمضية الوقت مع الأصحاب، وعندما يتحقق الأمران تنتهي السهرة.
السهر اليومي
في الجميزة حانات يمكن وصفها بـ”العائلية”، وهي من حانات الجميزة الأولى. صغيرة، لا تتسع لأكثر من عشرين أو ثلاثين ساهراً. يعمل فيها مالكوها كلاعبي موسيقى أو سقاة “بار مان”. على مر السنوات الأربع الماضية استطاعت هذه الحانات تصفية زبائنها لتحصرهم برواد السهر اليومي. وهؤلاء من العاملين في مهن الـ”فري لان ” التي لا تتطلب دواماً او حضوراً مكتبياً كالكتابة في الصحف ومراسلتها او العمل مع جمعيات غير حكومية عند الطلب، ومن العاملين في التلفزيون وهم كثر، وممن يعملون في أعمال فنية كالرسم والتصوير والرقص والمسرح والأفلام القصيرة وغيرها، يخالطهم أجانب استقروا في لبنان او يعملون فيه لمدة معينة. وهؤلاء من مراسلي الصحف الأجنبية ومن العاملين في الصحف المحلية الصادرة بلغة أجنبية، والعاملين في المؤسسات غير الحكومية التي نشطت في لبنان بعد حرب تموز 2006. جلّ هؤلاء ممن لا يملكون السيارات أو هم يملكون سيارات قديمة، يرتدون ملابس “بسيطة” كالجينز و”التي شيرت” للشباب والفتيات، وفساتين بتصاميم بسيطة. وصف ازيائهم هذا، يمكن تعميمه عليهم جميعاً، مع استثناءات محدودة. فلابس الملابس “على الموضة” يبدو نافراً بين هذه الجماعة. وغالبيتهم أكبر سناً من رواد الحانات الأخرى. فإذا اعتبرنا أن الأخيرين هم جيل بدايات هذا القرن، فإن أولئك هم جيل التسعينات من القرن المنصرم. يتنقل رواد السهر اليومي بين الحانات في الجميزة والحمراء (بارومتر، ريغوستو، دانيز، دوبراغ، تاء مربوطة…) فيلتقون فيها من دون اتفاق مسبق. إذ إنّ الاتفاق المسبق والضمني هو السهر اليومي في حانات محددة. ومن لا تلتقيه اليوم في تلك الحانة تلتقي غيره، وستلتقيه غداً في الحانة الأخرى. مصادقة صاحب الحانة تخولهم الحصول على كؤوس مجانية، وهي غالباً من الويسكي. فقلة من رواد السهر اليومي يشربون “الكوكتيل” او كؤوس الكحول المخلوطة بالعصائر والتي يعتبرونها ترفاً و”غنجاً”. الويسكي هو مشروب رواد السهر اليومي. وتحتل البيرة المرتبة الأولى في حالات “الطفر”. اذا كانت موسيقى حانات السهر “العصرية” تقتصر على “التكنو” أو “الراب” أو “الهيب هوب”، فإن موسيقى حانات السهر اليومي تضم إلى أنواع الموسيقى هذه “الروك” و”الهارد روك” و”الروك إند رول” و”الفانك” و”السول” و”الجاز”. وتعلن هذه الحانات أسماء لاعبي الموسيقى (DJ) الذين يلعبون في كل ليلة. فيحضر محبّو النوع الموسيقي إلى الحانة التي يريدون الاستماع إلى موسيقاها، ومنهم من يتنقل بين الحانات من أجل الاستماع إلى الموسيقى. فمونيك حوراني التي تلعب نهار الأربعاء في “كيان”، باتت تجمع جمهوراً للاستماع الى موسيقاها، وكذلك علي سلمان الذي يلعب نهار الخميس. اندرياس صاحب “تورينو” يلعب الإثنين والثلثاء في محله، ويلعب أصدقاء له في الايام الأخرى. وكل هذه الموسيقى ليست راقصة حتى لو كانت ايقاعية احياناً، لأن حجم المحال ونوع ديكورها لا يسمحان بالرقص فيها، وكذلك أنواع الساهرين الذين يحضرون إليها من دون أن يكون في نيتهم الرقص. في حانات السهر اليومي يملأ الكحول الساهرين المداومين بمشاعر جميعها تتمحور حول “فنيتهم” او “إبداعيتهم” INNOVATIOn. فرائد السهر اليومي، منذ أرسى السهر نمطاً في حياته، يكون قد انفصل عن عائلته، أي الرابطة الاجتماعية الصغرى التي تبقيه على صلة بمجتمع أوسع هو العائلة الكبيرة او الحي او الطائفة، ويكون قد اختار او تمكن من اختيار نوع من الأعمال يبقيه بعيداً عن سلطة المؤسسة وتراتبيتها وتسلسلها الهرمي. هذه الأعمال غالباً ما تتطلب جهداً فكرياً أكبر بكثير من الجهد اليدوي. هذان النوعان من التحرر (العائلة، العمل)، يدفعان صاحبهما إلى تشكيل صورة عن نفسه هي صورة المبدع والفنان الحر، وتتناسب حياة السهر المنفلتة والحرة مع “إبداعيته” التي يدأب الرسام مازن كرباج على السخرية منها في كاريكاتوره الذي ينشر نهار الجمعة في صحيفة “الأخبار” (من دون أن يبدو هو نفسه أنه ليس من هذا النوع). الساهر اليومي السكير يشعر أن حياة السهر التي يحياها هي الداخل، وكل ما عداها هو الخارج، كما هو شعوره بأن ما يجري داخل رأسه هو المشهد الحقيقي والمشاهد الأخرى في الخارج زائفة. لا يلتقي رواد السهر اليومي في الجميزة مع أقرانهم من رواد السهر الأسبوعي على رغم أنهم يسيرون في الشارع نفسه. الأولون لا يرون الآخرين، ويعتبرونهم طارئين على السهر واصحاب ذوق سيئ في الموسيقى والملابس، وتجري سهراتهم منفصلة وكأن حاناتهم تقع في أمكنة مختلفة.
مرايا الحانات
المرايا في حانات الجميزة الليلية، سيدة المكان. فهي ما يمنح الحانة اتساعها. وحجم المرايا، كبر أم صغر، يعطي الحانة رونقاً وعظمة وفخامة. الحانات ذات المرايا الكبيرة والنظيفة والمرتفعة فوق البار وعلى امتداده تشي بأن أصحاب الحانات يتقنون عملهم ويعرفون خباياه، وربما كانوا من الساهرين قبل ان يصيروا من أصحابها. والمرايا تنقل صورة السهرة الى الضفة الأخرى. فإذا كانت السهرة التي تدور خارج المرآة “واقعية” أو “هاذية”، فالسهرة التي في المرآة هي كذلك، مع فارق واحد بسيط هو ان سهرة المرآة تُري الشارب والساهر السكران نفسه بعينيه، بينما السهرة التي تدور خارج المرآة تريه نفسه في عيون الآخرين، وتري الآخرين أنفسهم في عينيه. أحد الأصدقاء المداومين على السهر وصف المرآة في حانة “كيان” القريبة من التباريس بأنها “آلهة المكان”. فهي تمنحه أبهته وتُضاعف مساحته. ولولاها لبدا “كيان” زاروباً في حي الحرامية الذي تقع فيه الحانة. وهي تُدخل الشارع المحاذي الى المحل فتضاعف مساحته، وتُدخل السيارات النازلة على مهل نحو شارع الجميزة، والساهرين القادمين من حانات أخرى حين يمرون على الرصيف المحاذي، فيصير الداخل والخارج مكاناً مشتركاً. ولئن كان مرور السيارات والساهرين يحدث في لحظات، فتكراره طوال السهرة يحوّل المرآة الى ما يشبه شاشة سينما، لكن في صالة مضاءة روادها ثرثارون ومدخنون، ولا يترك القلق الممزوج بمحاولات طمأنينة سحناتهم. فالقلق سمة من سمات الساهرين المياومين والمداومين من اللبنانيين، او هذا ما يبدو منذ تدهور الأوضاع الأمنية في البلاد واغتيال الرئيس رفيق الحريري، ثم حرب تموز 2006 الساحقة والمدمرة، إلى احتلال ساحتي رياض الصلح والشهداء و”غزوة بيروت” في أيار الماضي، وأخيراً الخوف من انتقال المعارك من غزة إلى لبنان. وأحسب ان الساهر اليومي والمداوم قلق في طبعه، وخصوصاً إذا عدّ نفسه “فناناً” أو عدّه أصدقاؤه كذلك. وكثرٌ هم رواد “كيان” الفرادى الذين يرفضون الجلوس على كراس والى طاولات بعيدة عن المرآة، وكأنهم يخافون الشعور بالوحدة، وخسارة صورتهم الأخرى في المرآة التي تتولى كسر وحدتهم.
رسّام الكحول والمرايا والأصولي شاعر السهر
تنقل المرآة الى الساهر اليومي صورته التي ينكرها. صورة سكره البادي في عينيه وملابسه وشعره وكيفية إحتسائه مشروبه. صورة عميقة ودفينة ولا يمكنه إخراجها الا بواسطة “فنّه” الذي ليس في مستطاع الجميع “فهمه”. وهذا دأب الرسام الذي يصل يومياً من البقاع الى حانات بيروت، ومنها “كيان”، فينهي سهرته نائماً لدى أحد أصدقائه في بيروت قبل ان يعود في صباح اليوم التالي الى بلدته. وهو رسام لا يثق برسمه، ولا تعجبه لوحاته التي لم يبع منها إلا عدداً قليلاً من أصدقائه بأسعار متهاودة. وعلى الرغم من سنه والزمن الطويل الذي أمضاه رساماً، تراه يهرب من وحدته في بلدته البقاعية الى وحدته في حانات الجميزة، ومن شعوره بفشله رساماً الى الكحول والمرايا. وهذا دأب الشاب الذي نشر كتاباً عن تجربته في الحياة التي كان فيها أصوليا متزمتا، ظانّاً ان تلك التجربة خميرة حياة كاملة لا تقارعها تجربة أخرى ولا تضاهيها أهمية، فيستمتع بشعوره هذا مستزيداً من الكحول توكيداً لانصرافه عن زمنه الماضي، ومحاولاً الانخراط في اجتماع السهر الليلي في الجميزة. وهذا دأب الشاعر الشاب الذي أصدر إلى اليوم مجموعتين شعريتين، وباع من الأخيرة ما يقارب العشرين نسخة في توقيعه في معرض “الكتاب العربي والدولي”، وأهدى الى أصدقائه وأقاربه نحو مئة نسخة، وانصرف الى التحضير للمجموعة الشعرية الثالثة. وهو يقول ان شعره “ما بعد حداثوي”، وأنه ينقل حياته في المدينة ومعايشته ليلها وسهرها وساهريها، فيشعر بأن مراقبته الساهرين في حانة “كيان” (مثلاً)، وجلوسه في مواجهة المرآة وحيداً متأملاً، مادة لكتاباته وقصائده التي ستُكتشف في يوم ما كما اكتُشفت، بحسبه، كتابات كافكا بعد وفاته. أما سهر الحمراء فمثقل بيسارية وعروبة وقومجية (كرستها غزوة 7 أيار وجعل النظام السوري سفارته في وسط أحد شوارعها الرئيسية). ومن لا يظن في نفسه انه يملك “تجربة” سابقة على غرار تجربة الأصولي، ومن لا يتنسم في نفسه نجاحاً في “فنّيته” بعد فشل، ومن لا يشعر أنه يسهر مع أمثاله، فلن يتمكن من الدخول الى اجتماع السهر الليلي في الحمراء، حيث عليك ان تنتسب الى جماعة لتسهر. والفرد يفرد إفراد “البعير المعبد”، على خلاف الجميزة التي يتألف ساهروها من وحدات قد تكون أفراداً او مجموعات، ولا تتحول الى جماعات البتة.
فنان المرآة
الساهر المداوم أمام المرآة مستمعاً الى الموسيقى، منتشياً بهما، يريد ان يعرف اين بلغ من السكر. وهذا المطلب تفي به المرآة الغاوية. ويريد صاحبه الوثوق بأن صورته عن نفسه وصورته في نفوس الآخرين، هما واحدة. المرآة غالباً ما تخطئ في تلبية هذا المطلب، فيشعر السكير انه شخصان، واحد يسكر أمام الجموع، وآخر تنبعث من دواخله مشاعر “ثقافية - فنية” متوهمة. هذا الشعور الافتتاني يبدو في غالب الأحيان مبرراً للسهر. فالناظر في شريط حياته السينمائي، حين يجده مليئاً عن بكرة أبيه بالسهر، يحول السهر الى مبرر ابداعه المفترض، او هو في أضعف الأحوال مكافأة على إبداعه. وهذا مرتبط بالصورة التي يريد الساهر اليومي، “المثقف - الفنان”، طبعها لدى رواد الحانة المختلفين عنه. فيسهر وحيداً متأملاً المكان، او نفسه، في المرآة مدخناً بشراهة، كارعاً كؤوس الكحول “السك”. والصورة هذه (التوحد - التدخين - كرع الكحول) مستعارة من صورة المثقف في الأفلام الفرنسية، او في إعلانات السجائر الفرنسية، وهي تظهر المدخن مثقفاً (او المثقف مدخناً) يقتعد مقهى، ويحمل صحيفة يقرأها، فتنجذب اليه فتيات الاعلان الجميلات اللواتي يغويهن صمته وجديته، فيجهدن من أجل فك أسرارهما. صورة المثقف هذه أيضاً ليست بعيدة عن صور المثقفين اللبنانيين والعرب التي تبدو كأنهم يلتقطونها لنشرها بعد مماتهم (بوعكة صحية غالباً) في الصحف والصفحات الثقافية وفي مهرجانات التأبين. مثقفو - فنانو حانات الجميزة القليلون حملوا تلك الصورة من شارع الحمراء الى الجميزة. ومن استطاع الصمود في سهر الجميزة يبدو غريباً عن المحيط الذي يسهر فيه. أما من زار الجميزة مرة، ولم يعد اليها لشعوره بالغربة، فقد سامحته مرايا حانات شارع الحمراء، وأعادته الى قعرها ينظر فيها متأملاً في قعره. المرآة في حانة “تورينو”، في وسط الجميزة، تلعب دوراً آخر. في الحانة التي كانت دكاناً بُني أيام الانتداب الفرنسي، ويرتفع سقفها المقعر (قنطرة) ستة أمتار، ترفع المرآة السقف ستة أمتار أخرى. فهي معلقة في أعلى الحائط، ولا يمكن الداخل الى “تورينو” إلا ان يرى رأسه فيها من دون رقبته. ولا يمكن الساهر هناك، كي يتسلى، إلا ان يتحرش بالجالسين ويحادثهم، فلا تلهيه المرآة عنهم ولا صورته فيها، فينسج صداقات جديدة… وربما عداوات. والصديق الشاعر، عاشق المرايا، قال في وصف مرآة “تورينو” إنها “فقيرة الدار”، مشبهاً إياها بأمه التي كانت في بيتها الزوجي تبدو خادمة أكثر من كونها أما. بعد افتتاحه في بدايات 2003، بات “تورينو” ملتقى للأصحاب الذين تعارفوا فيه. وصار رواده يعرفون بعضهم بعضاً حتى يبدوا كأنهم متعارفون منذ ما قبل افتتاحه. ترى واحدهم، حين يدخل إليه، يحتار الى أي طاولة يجلس، وعلى أي فريق يلقي التحية. وإذا تمكن من إلقائها على الجميع فينتحي زاوية ليكمل سهرته وحده، فرداً في المنزل يمكنه الانزواء في مكانه شاعراً بالطمأنينة لأن أهله يحيطون به من جميع الجهات. “تورينو” لا يجذب إلا كارهي الحانات الأخرى الذين يمقتون الفخامة في تأثيث الحانات الجديدة، ويمقتون أصحاب السيارات الفخمة الذين يعطون سياراتهم للـ “valet parking” ثم ينزل واحدهم من سيارته ترافقه فتاة تبرجت وارتدت ملابس تبديها كأنها ذاهبة الى عرس. ولا يمكن القادم من حانات الحمراء ان يتكيف في أجواء “تورينو”. فهو يبدو قديماً وعتيقاً في عيون رواد الحانة.
ملاذ الجماعات
رائد الحمراء وحاناتها، حين يقرر المجيء الى الجميزة يكون في حال من التوحد. وهذا لا يمكّنه من الصمود في حانة يعرف روادها الأفراد بعضهم بعضاً، ومع ذلك يبقون أفراداً. والرسام البقاعي وصاحب التجربة الأصولية والشاعر لم يتمكنوا من الصمود في “تورينو”، ولا من العودة إليه. فهنا لا يمكن الانخراط في مجموعة، ولا مرآة تكسر الوحدة. رواد السهر في شارع الحمراء، سواء في “الريغوستو” القريب من مقهى “ستاربكس”، او حانة “تاء مربطة” الجديد في اوتيل “بافيون”، او حانة “البارومتر” في آخر شارع عبد العزيز، او حانة “سمرا” في مبنى “زيكو” في الصنائع، يعتبرون ان حانات السهر في الجميزة لساهرين آخرين، ليسوا منهم. فهم، رواد الحمراء، يعرف جميعهم بعضهم بعضاً. ومعرفتهم لم تعد مقتصرة على السهر بل على انتمائهم الى جماعة الساهرين أصحاب الآراء السياسية المتقاربة وأصحاب الفكرة المتطابقة عن “الفنان - المثقف” ودوره الطليعي في المجتمع. وهم فئات من مختلف الأعمار تتخالط وتتقارب وتسهر كأنها جماعة ساهرة. وهؤلاء هم من الرسامين الباحثين عن النجاح الذي يخرجهم من حانات شارع الحمراء، ومن كتاب المقالات في الصحف اللبنانية، والشعراء على اختلاف تصنيفاتهم (شعراء رواد، شعراء حرب، ما بعد الحرب، ما بعد الحداثة)، ومن الشباب العاملين في مؤسسات غير حكومية ذات ميول يسارية، وأجانب يسارويين يجدون ملاذاً في حانات شارع الحمراء، فيشعرون انهم في كثرة بعدما كانوا قلة في بلدانهم، ومن متسكعي الشارع الذين ينتظرون السنوات حتى يخرجوا “ابداعاتهم” الى العلن. وهؤلاء جميعهم من الساهرين المياومين والمداومين في حانات شارع الحمراء هذه وقد تكون مكتظة وسط الأسبوع أكثر مما تكون في نهايته. في حانات شارع الحمراء لا دور للمرايا البتة. فالجماعات المتكتلة لا تحتاج الى المرايا. والمرايا اذا كانت موجودة في الحانة ففي خفر، وفي الزوايا وليس في مقدمها. فهناك تحتل الصور الفوتوغرافية واللوحات المرسومة على عجل، والأفيشات، مركز الصدارة. في حانة “أبو إيلي” في كاراكاس صور الثورة الشيوعية وثوارها. في “البارومتر” زياد رحباني وياسر عرفات والمسجد الاقصى. في “ريغوستو” تتصدر صور التلفزيونين المعلقين في زاويتين متقابلتين. في “سمرا” تنتشر صور مطربين وممثلين عرب وأفيشات أفلام مصرية قديمة. في الآونة الأخيرة تم افتتاح عدد من الحانات الجديدة في شارع الحمراء وفي الشارع الذي أقيمت فيه السفارة السورية في لبنان. حانات تحاول التشبه بتلك التي في الجميزة، ولكنها لا تنجح في تقليدها على رغم انها تنجح في جذب الرواد من حانات الحمراء القديمة، أولئك الذين كانوا يسهرون فيها على مضض. لكن حانات شارع الحمراء على اختلافها لا تجذب رواد السهر قدر ما تجذب رواد الشارع نفسه، فتسحبهم من مقاهيه القديمة والجديدة إليها ليلاً، ويكمل هؤلاء يومهم الذي يبدأونه في الشارع مستصعبين الخروج منه.
فيديل سبيتي
عن ملحق النهار الثقافي
(نشر في وقت سابق)
08-أيار-2021
02-كانون الثاني-2021 | |
03-شباط-2010 | |
04-أيار-2009 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |