تراتيل أختاتون وسفر المزامير
2009-05-06
في أواسط القرن الرابع عشر قبل الميلاد، وخلال الفترة التي كانت فيها مصر في أوج عظمتها وقوّتها، ارتقى عرش هذه الإمبراطورية مترامية الأطراف الفرعون أمنحوتب الرابع، أو أختاتون كما دعا نفسه بعد ذلك، وحكم لمدة ستّ عشرة سنة (1369-1353 ق.م) أسّس خلالها لأوّل ديانة توحيدية معروفة لنا تاريخياً.
وليَ أختاتون عرش مصر وهو حدث لم يتجاوز الثانية عشر من عمره. ويبدو أنه قد مرَّ قبل سنّ السادسة عشر بتجربة روحية عميقة قادته إلى إيمان جديد يتعارض ودين قومه. فقد بدأ بالإعلان عن معتقده منذ السنة السادسة لحكمه، وبنى أوّل المعابد لإلهه آتون في العاصمة طيبة. ولو أنّ الفرعون الشاب قد وقف عند هذا الحدّ في الدعوة لمعتقده، لكانت هذه العبادة الجديدة قد تعايشت مع بقية العبادات المصرية لفترة طويلة من الزمن، إلا أنّ أختاتون قد دخل قبل الأوان في صراع مع كل التقاليد الدينية المتجذّرة في مصر منذ أقدم الأزمان. فلقد قام بإغلاق معابد الإله الأعلى آمون – رع، وسرّح كهنته من الخدمة، ولكي يبتعد عن أجواء العاصمة طيبة المشحون بالمؤامرات التي كان يحيكها له الكهنة، بنى أختاتون لنفسه عاصمة جديدة دعاها آخت – آتون أي ألق آتون. وقد كشفت عنها معاول التنقيب الحديث في الموقع المعروف اليوم بتل العمارنة.
يقوم معتقد أختاتون على الإيمان بإله واحد للبشرية جمعاء. وهذا الإله هو طاقة صافية لا تتخذ شكلاً ما، ولكنها تتبدى في عالم الظواهر بقرص الشمس مصدر الحياة لكل مخلوقات الأرض. والعلاقة بين آتون ومخلوقاته تقوم على الحبّ المتبادل. يقول في إحدى الترتيلتين اللتين بقيتا لنا من آثاره: " كل المخلوقات بين يديك تطوقهم بمحبتك ". وأيضاً: " كل العيون تراك أمامها وتتملى بهاءك ". "تطير الطيور من أعشاشها وترفع أجنحتها بالصلاة إليك ". ويقول في الترتيلة الأخرى: " كم أنت متألق وعظيم، وكم هو حبك واسع وعميم. أنت تملأ أرض القطرين بحبك ".
في أواخر فترة حكمه تحالف الكهنة مع العسكريين الذي آلمهم تفكك الإمبراطورية الناجم عن انشغال أختاتون بأمور ديانته الجديدة، وقام نزاع بينهم وبين البلاط الملكي انتهى سلمياً بموافقة أختاتون على التنازل عن صلاحياته السياسية لزوج ابنته الكبرى، ثم اعتكف في قصره الصيفي حيث وافته المنية وهو في سنّ التاسعة والعشرين. وبعد وفاته شنّ خصومه حملة واسعة على كل آثار الديانة الآتونية، وجرى محو اسم الفرعون الثائر عن النقوش الكتابية أنى وجدت، كما محي اسمه عن تابوته وعن الصفيحة الذهبية التي تحيط بجسده المحنط، لكي تظل روحه هائمة محرومة من الراحة الأبدية.
ولكنّ أثرين بقيا لنا من فكر هذا المعلم الديني الكبير، هما الترتيلة الطويلة والترتيلة القصيرة، اللتان نقدم فيما يلي ترجمة كاملة لهما:
1- الترتيلة الطويلة :
كم هو جميل شروقك في أفق السماء،
أي آتون الحي، مبتدأ الحياة.
عندما تظهر في الأفق الشرقي،
يملأ جمالك كل قطر.
أنت فاتن وعظيم ومتألق ومطل من علاليك على كل أرض.
تحيط أشعتك بكل مكان إلى أقصى حدود خليقتك،
وكل المخلوقات بين يديك تطوقهم بمحبتك.
أنت في الأعلى البعيد، ولكن نورك ضافٍ على الأرض،
أنت في الأعلى البعيد، ولكن آثار خطوك تصنع النهار.
وعندما تغيب في الأفق الشرقي من السماء،
تغيب الأرض في ظلام كأنه الموت،
وكل الأنام تأوي إلى مضاجعها وتغطي رؤوسها،
تهدأ أنفاس البشر، ولا يرى الواحد منهم الآخر،
حتى أن ممتلكاتهم تُسرق من تحت رؤوسهم ولا يدرون.
كل الأسود تخرج من عرينها،
وكل الزواحف تخرج من جحورها لتعض،
الظلام يسود ويعم الأرض سكون،
لأن الذي خلقها يستريح في أفقه.
وعندما تشرق على هيئة آتون النهار،
تضج الأرض بالضياء، والظلام يتبدد أمام أشعتك،
ويبتهج بك القطران في كل يوم.
الناس يفيقون وينتصبون، لأنك أيقظتهم،
يتحممون، ويضعون ثيابهم،
ويرفعون الأذرع يسبحون ظهورك،
وكل واحد يمضي إلى عمله في طول البلاد وعرضها.
تفترش الأنعام مروجها، وينتعش كل شجر ونبات،
تطير الطيور من أعشاشها وترفع أجنحتها بالصلاة إليك،
تنهض القطعان على قوائمها، وكل ذي جناح يحلق،
كلها تحيا لأنك طلعت عليها.
القوارب تبحر في الاتجاهين، شمالاً وجنوباً،
وكل الطرق مفتوحة لأنك أشرقت.
الأسماك في النهر تقفز أمامك،
وشعاعك يخترق أعماق البحر الأزرق العظيم.
أنت خالق الخصوبة في المرأة، وصانع بذور الرجل.
أنت من يعطي الحياة للجنين في رحم أمه،
وتهدئه فلا يبكي، وتعطي أنفاس الحياة لما خلقت،
وعند خروجه من الرحم تفتح فمه وتقسّم له رزقه.
الصوص في بيضته يسقسق، وبداخلها تمده بالهواء،
فإذا كبر نقر قشرتها وخرج يصيح بأعالي صوته،
يجري على قدميه ساعة خروجه.
ما أكثر صنائعك يا رب، إنها خافية علينا.
أيها الإله الواحد الذي لا مثيل له،
لقد خلقْتَ العالم وفق ما ترغب وتشتهي، عندما كنت وحيداً.
خلقْتَ الأنام طراً، وخلقْتَ الأنعام وحيوانات البرية،
وكل ما يدب على الأرض بأقدامه،
وكل ما يطير في الأعالي بأجنحته.
في أرض سورية، وفي النوبة، وفي مصر (وفي كل مكان)،
أعطيت لكل مكانه، وقسمت له نصيبه، وعددت أيامه.
شعوب ميزتها بألسنتها وطبائعها وألوانها، فجعلتها أمماً مختلفة.
فَجَّرْت نيلاً تحت الأرض وأجريته، وفق ما تشتهي، لحياة الناس،
لأنك صنعتهم واختصصتهم بك.
أنت ربهم جميعاً، الذي يُتعب نفسه لأجلهم.
أنت آتون النهار المبجل في كل قطر بعيد، ومصدر حياتهم.
فجرت لهم نيلاً في السماء ليمطر عليهم،
تسيل مياهه على الجبال وفي البحر الأزرق العظيم،
فتسقي كل مدنهم وحقولهم.
كم هي رائعة خططك يا رب الأبدية.
جعلت نيل السماء لأجل الشعوب الأجنبية،
ولأجل كل حيوانات البراري التي تدب على أقدامها،
ولكنك جعلت نيل مصر يخرج من تحت الأرض حياة للبلاد.
شعاعك ينعش كل مرج وبستان،
عندما تطلع عليها تحيا، وبك تنمو.
أنت من صنعَ الفصول لأجل خلقه.
في الشتاء تأتيهم بالبرد،
وفي الصيف يتذوقون دفئك.
لقد خلقت السماء البعيدة لتشرق فيها،
وترى من علاليك كل ما قد خلقْت.
أنت وحدك المشع في هيئة آتون الحي.
تُشرق، وتتوهج، وتذهب بعيداً ثم تؤوب.
صنعت من نفسك ملايين الأشياء والأشكال:
مدناً، وقرى، وحقولاً، وطرقاً، وأنهاراً.
كل العيون تراك أمامها وتتملى بهاءك،
لأنك أنت آتون النهار فوق كل أرض.
أنت في قلبي، ولا يعرفك حق المعرفة، إلا ابنك أختاتون.
وقد أعطيته فهماً ليدرك طرقك وجلائل أعمالك.
العالم كله بين يديك، وأنت خالقهم.
عندما تسطع عليهم يحيون،
وعندما تغرب عنهم يموتون.
بك حياة المخلوقات، يتملون جمالك حتى تغرب،
وعندما تغوص نحو الغرب، يضعون عنهم كل أعمالهم،
وعندما تشرق ثانيةً … …
لأنك منذ أن وضعت أسس الأرض،
قد هيأتها لابنك الذي ولد من ماهيتك،
ملك مصر العليا ومصر السفلى،
الذي يعيش في الحقيقة، سيد القطرين:
نيفر- خيبرو- رع، دان- رع
ابن الشمس الذي يعيش في الحقيقة، رب التاج،
أختاتون الطويل العمر،
ولزوجته الملكية العظيمة، محبوبته،
سيدة القطرين: نيفر- نيفرو- آتون، نيفرتيتي،
لهما الحياة والازدهار والعمر الأبدي
2- الترتيلة القصيرة :
إنك تشرق بجلال يا آتون الحي، رب الأبدية.
كم أنت متألق وعظيم وجميل،
وكم هو حبك واسع وعميم.
إن نورك المتعدد الألوان يسحر كل الوجوه،
وبشرتك المتلألئة تحيي كل قلب.
أنت تملأ أرض القطرين بحبك.
أنت الذي صنع نفسه وصنع كل الأصقاع،
وخلق كل ما عليها:
رجالاً ونساءً وأنعاماً ووحوشاً،
ونباتات تنمو في كل جهة، وكلهم يحيا بشروقك.
أنت الأب، وأنت الأم لكل ما صَنَعَتْهُ يداك،
عيونهم تتابعك شاخصة كلما أشرقت،
ويملأ ضياؤك في الصباح كل الأرض.
كل القلوب تخفق لمرآك، وأنت تصعد رباً لها،
وعندما تهجع في الأفق الغربي من السماء،
يستلقي الجميع في مضاجعهم كأنهم أموات، ويغطون رؤوسهم،
تتباطأ أنفاسهم حتى لتنكتم إلى حين ظهورك في الأفق الشرقي؛
عندها كل الأذرع ترتفع إليك في ابتهال وصلاة.
جمالك ينعش كل قلب، جمالك حياة؛
وعندما ترسل أشعتك يصير الكون في عيد؛
المغنون والمغنيات والجوقات تهلل لك في معبد المسلة،
وفي كل معبد في مدينة «آخيت آتون» مقر الحقيقة
الذي يُسر به فؤادك، وتقدم فيه إليك التقدمات،
ويؤدي لك ابنك الطاهر ما ترغب به من طقوس،
عندما يقود المواكب الاحتفالية في مواعيدها.
كل ما صنعته من مخلوقات يثب إليك فرحاً،
ويفرح بك قلب ابنك الذي شرَّفته،
يا آتون الحي الذي يظهر في السماء كل يوم،
والذي ولد ابنه المبجل «وا- إن- رع» (أختاتون) على شاكلته،
ابن رع الذي يستمد من جماله.
أنا ابنك الذي يعمل لمرضاتك، ويبجل اسمك.
قوتك وعظمتك راسختان في قلبي،
أنت آتون الحي وفي إشعاعك الأبدية.
لقد صنعْتَ السماء العليا لتشرق فيها،
وتطل من عليائك على كل ما قد خلقت.
إنك واحد، ومخلوقاتك التي تمدها بالحياة لا تحصى،
وفي تَمَلِّي أشعتك حياة لكل الأنام.
لصعودك تتفتح البراعم أزهاراً،
والزروع في الأرض اليباب تبرعم أغصاناً جديدة،
تشرب من شعاعك وتنتشي أمام طلعتك.
كل الحيوانات تقفز على أرجلها،
وكل ذي ريش يطفر من أعشاشه،
ويصفق بالجناح ويحوم مسبحاً آتون الحي.
تكشف الترتيلة الطويلة بشكل خاص عن شبه واضح مع المزمور104 في سفر المزامير التوراتي المعزوّ تأليفه للملك داود، على الرغم من بعد الشقة الزمنية بين زمن تأليف هذه الترتيلة في القرن الرابع عشر قبل الميلاد، وزمن تدوين أسفار التوراة في القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد. ويمكن تعليل هذا الشبه بالتبادل الثقافي الذي حصل بين مصر وكنعان منذ عصر الفرعون تحوتمس الثالث (1490-1436ق.م) الذي ضم إلى الإمبراطورية المصرية مناطق فلسطين وسورية الجنوبية. وقد أدى هذا التبادل الثقافي إلى عبادة آلهة سومرية في مصر وعبادة آلهة مصرية في سورية، على ما تبينه النصوص الكتابية والفن المصور في كلا الحضارتين. ويبدو أن ترتيلة أختاتون قد انتقلت إلى كنعان باعتبارها ترتيلة إلى إله الشمس بشكل عام، وربما اتصلت بعد ذلك بعبادة الإله السوري – الفلسطيني بعل. ثم انتقلت بعد ذلك إلى كتاب التوراة مع ما انتقل إليه من الأدب الكنعاني الفلسطيني. وإليكم المقارنة بين النصين، علماً بأن أبيات المزمور التوراتي ترد هنا في غير ترتيبها الأصلي :
ترتيلة أختاتون | المزمور 104 |
1 – العالم في ظلام كأنه موت الأسود تخرج من عرينها والحيات من جحورها والظلام يسود | - تجعل ظلمة فيصير ليل فيه تدب كل حيوانات الأرض الأشبال تزمجر لتختطف وتلتمس من الرب طعامها |
2 – وعندما تشرق في الأفق يتلاشى الظلام ويذهب كلٌ إلى عمله تزهر كل الأشجار والنباتات والطيور ترفرف في أعشاشها والخرفان ترقص وتثب على أرجلها | - تشرق الشمس في مآويها وتربض الإنسان يخرج إلى عمله وشغله تشبع أشجار الرب أرز لبنان حيث تعشّش العصافير الجبال العالية للوعول، الصخور ملجأ للوبار |
3 – السفن تمخر عباب الماء والأسماك في النهر تقفز أمامك وأشعتك في وسط البحر العظيم | - هذا البحر الكبير الواسع الأطراف هناك دبابات بلاد عدد، صغار مع كبار هناك تجري السفن |
4 – كم هي متعددة أعمالك لقد خلقتُ الأرض وفقاً لمشيئتك وكل ما عليها من بشر وحيوان | - ما أعظم أعمالك يا رب كلها بحكمة صُنعتْ ملآنة الأرض بغناك |
5 – لقد خلقت نيلاً في السماء يرسل الماء على المخلوقات فيسقي حقولهم | - الساقي الجبال من علاليه من ثمر أعمالك تشبع الأرض |
6 – أنت الذي خلق الفصول وخلقت السماء فيها تغرب وتشرق | - صنع قمراً للمواقيت الشمس تعرف مغربها |
7 – عندما تسطع على المخلوقات تحيا وعندما تغرب عنها تموت | - المخلوقات كلها إياك ترتجي رزقها تفتح يدك فتشبع خبزاً تحجب وجهك فترتاع تنزع أرواحها فتموت |
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
01-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
13-شباط-2021 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |