مقصلة بلون جدائلي والمدهون بما لا نعرف / كتابان جديدان لرنا جعفر ياسين :
2009-05-08
حيوية الجماليات وأناقة المعاني
تلفت تجربة الشاعرة العراقية الشابة رنا جعفر ياسينفي صدورها الحيوي عن الحياة الراهنة في بلادها في زمن الحرب والمحنة، واشتغالها على قضية التعبير بحرية تجعلها تذهب إلى رؤية مشاهد الدمار والموت من خلال شاشة الروحالفردية.
قدّمت رنا جعفر ياسين قبل عام ويزيد مجموعة شعرية لافتة هي "مسامير في الذاكرة"، لاحظنا فيها سطوة المشهد العراقي الدامي وكيفيات قراءته شعريا على نحو يتجاوز الخطابة وقصديات التحريض والإثارة، وهي تصدر اليوم كتابين جديدين "مقصلة بلون جدائلي" (مجموعة شعرية) و"المدهون بما لا نعرف" (منشورات "دار سنابل للكتاب"،القاهرة) الذي تصرّ الشاعرة الرسامة على تسميته نصوصاً تحاور اللوحات التشكيليةالتي رسمتها.
"مقصلة بلون جدائلي"، قصائد تستلهم "فداحة" الأشياء كلها: الحرب،مشاهد الذبح، الحب الصعب إن لم نقل الضائع وشبه والمستحيل، والأهمّ شتات الروح الفردية واحتراقها بتلك النيران كلها. خلال ذلك الإشتعال، تعرف الشاعرة أيضا كيف تشعل نيرانها و"تؤثث" حرائقها الخاصة بلغة تستعير من مشهديات الواقع ملامحها وتضيف اليها نكهة أنثوية بالغة الحساسية، تنغمس وتغيب، أو تبدو كأنها غابت كي تستقيم لها لعبة "الراوية" الخفية في "سرديات" شعرية لا تستكين لرتابة السرد، قدر ما تنجح فيجرّه إلى مواجهات ساخنة يربح الشعر خلالها ونربح أيضا نحن كعشّاق للشعر.
في "مقصلة بلون جدائلي" يحسن بداية أن نتأمّل العنوان الذي اختارته الشاعرة ليطوّق قصائدها، إذ هو يجمع بين الرمزية الجارحة والمثيرة للرعب التي تحملها كلمة المقصلة،وبين الجدائل باعتبارها إحدى أبرز رموز الأنوثة في تراثنا العربي، وكأنها تدفعنا إلى ملاحظة العصف الجنوني الذي تعيشه "أرض السواد"، وتستلهمه القصائد وتنهل من معينه الذي يطفح بالقسوة ومأسوية العيش، ولكنه ينجح في التحريض على الشعر.
"بعدَ الموت.../ تنهض المدينة./ من الأرض يخرجون بنصف/ مجزرة/ وضوءٍ مثقوب/ أجسادهم المبنية من النار/ لها بريقُ الشعاراتِ القديمة/ عيونهم المصبوبةُ من فولاذ الثورة/ لا تزال تحدق الى مهرجانٍ سحيق/ يسحلونَ الأرصفة بالخطوات/ ناقرينَ الزجاجَ المعجونَ بماء الموت".
من خلال هذه اللغة التي تحكي، ترسم رنا جعفر ياسين ملامح تجربة مغايرة في سيرها الشعري العاصف، تقوم في أساسها على تجوّل القصيدة في ما هو يومي، ولكن ليس بالمعنى الذي يحيل على "قصيدة التفاصيل" كما عرفناها من سعدي يوسف أو غيره من الشعراء. اليومي عندها، اشتغال على "المشهد كلّه"، المشهد الكامل في سطوته، في عناوينه الكبرى، وأيضا في ما تتركه اللوحة الكبيرة من حرّية تأمّل جزئياتها وتفاصيلها الصغيرة، ومكوناتها الأساسية. أعتقد أن "مقصلة بلون جدائلي" هوإصغاء للخلفي، القليل الإنارة، والذي يشبه الرماد وإن يكن رمادا ساخنا يوقظ شهوةالإشتعال ويؤججها بألسنة اللهب.
ثمة حضور شبه مسرحي يقارب حركية البشر العاديينفي يومهم المغموس بمفاجآته الدامية، تلك التي تجعل الرعب سيد أيامهم: "يحرثونَالشوارعَ/ ويحصدونَ الغيومَ المنهارة َ من فرط الجوع/
يحاربون الخطوةَ المعانقةللحرائق/ عندما تلوذ بالطرق./ وبأسفلتٍ ساخن/ ونومٍ طويل/ يغسلونَ وجوههم الخالية/ لكنهم.../ لا يرتدونَ الوشايةَ/ بل، مثلَ مصيدةٍ شائكة يبدأونَ الانقضاض/ تستميلهم نعومة مساءٍ مرطب بالألغام/ وملابسُ نساءٍ مرصعة/ بدمّ".
في سياق كهذا يفاجئنا "المناخ الشعري" الذي تؤسس مفرداته وتفاصيله وملامحه صوراً هي في أساس هذا الديوان واهتمامات تجربتهه الشعرية. الصورة هنا رسم متواصل يتابع ملاحقة المشهد ولكن ليس كما هو في حالته الواقعية الفوتوغرافية، بل كما تعيد تظهيره المخيلة، في مزجها الفكرة بالذاكرة، والاثنتين معا بالمشاعر الفردية الأنثوية الطافحة برهافة سكين على رقبة حياة عراقية تنوء بالتباساتها.
في هذه القصائد تتجاوز الشاعرة تجربتهاالأولى وتنتقل بها ومعها نحو فضاءات جمالية أكثر رحابة، وخصوصا نحن نلحظ نضج رؤيتهاالشعرية وارتقاءها نحو مقام أعلى ترى منه ما تريد وتحسن التعبير عنه بفنية أكثرتقدما وسلاسة.
"المدهون بما لا نعرف" فضاء آخر. بعض النقاد يصرّون على اعتبارالشعر "نوعا" من الفن التشكيلي. هم بذلك يشيرون في صورة مباشرة إلى القاسم المشترك بينهما، أي الصورة، تلك التي تجعل الشاعر رسّاما بالكلمات على حد تعبير الراحل نزارقباني، مثلما تجعل الرّسام يحقق معادلة المعنى والمخيلة بلوحاته ورسومه.
هي تختار حوارا مباشرا بين قصائدها ولوحاتها في كتابها الثاني "المدهون بما لا نعرف"،وفيه يتداخل المشهدان الشعري والتشكيلي بصورة تمنحنا فرصة رؤية تتكامل وتمتلك وجهين جماليين بأدوات ومفردات مختلفة.
القارئ سيجد انحيازا واضحا الى الشعر، بل طغيانحضوره، على الرغم من الجمالية العالية للوحات المرافقة.
"الشارعُ المنخور منفرط الرصاص/ السيارة المزينة بالحرائق/ بيتُ الجيران المبتور/ النهر المخلوط بالدم/ الدكاكين الغاضبة من تجوال الأسلحة/ المدارس المكسوة بالممنوعات/ أناشيد الأطفال الملوَّثة بالحرمان والنكب/ نساء الحي الباحثاتُ عن الأشلاء/ الرجال الواهنون من الجلد/ الصغار المحدقونَ الى عيد محض خيال/ المتكوِّمون بلا أنفاس تحييهم من الدم
اللاذع المغطي بقاياهم".
هي "قراءة" للواقع ولكنها تراه بحدقتين يعلوهما الغبار فتكتب شهادات روحية، فنية ومفعمة بما في الدهشة من جاذبية. من المهم كثيرا عند الحديث عن هذا الكتاب رؤية شغف الشاعرة اللامحدود بصورة العراق كما تراهن عليها،وأيضا كما تستحضرها من منمنمات تسكن الوعي والذاكرة، فهي تحمل العراق بين جوانحهاوتنتقل به ومعه في رحاب الشعر والفن فتصدقه التعبير وتحسن رسم ملامحهشعريا.
راسم المدهون
08-أيار-2021
06-حزيران-2020 | |
16-شباط-2011 | |
"كثيرة أنت" للشاعرة السورية سوزان ابراهيم وحيدة ولي ما لـيس لهنّ |
27-تموز-2010 |
23-تموز-2010 | |
09-أيار-2010 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |