الى روزا ياسين
2009-05-10
بداية من أين لك كل هذه الذاكرة؟ ولاحقا من أين لك كل هذا الوجع؟ وبعدين من أين لك كل هذه الشجاعة؟ وفيما يتصل، من أين لك كل هذه الرواية؟
من جهتي ربما سأعترف، فما قرأته يلزمني بالاعتراف، أولا أمام نفسي، وفي الطريق، بصوت أكثر ارتفاعا، وسيتجه اليك، على الاقل بفعل مافعلت روايتك.
منذ فترة ليست ببعيدة، كنت في مكتبة عمومية، فصادفت كتابا للصافي سعيد، (نسيت عنوانه هذه اللحظة وهذا تقليد موروث بالنسبة لي)، لا.. أتذكر من العنوان : الجنرال، البئر، الصومعة، أخذت الكتاب، بنفس الاستهتار المعتاد، ولكنني لم أقرأه بالاستهتار المعتاد، كل ما بوسعي قوله، أنه كتاب، يمسك بالتاريخ الاسلامي بجثثه وتفاصيله، بخطوط الفلسفة الملعونة، وخيوط الحكم المظفر، وكان هذا الكتاب بداية لمرحلة جديدة على مستوى حياتي الشخصية، بداية لمرحلة كان علي أن أتساءل فيها عما أنجزته أنا في حياتي، فوقعت على خلاصة يمكن وضعها بكلمتين أو نصف كلمة:" لاشئ".
يعني أن الحياة في هذه اللحظة تعني الـ (لاانجاز)، وكان علي أن أحتمل واحد من احتمالين، أحدهما يقول أن الصافي نبي، أو عملاق، والثاتي أنني صرصار أو معتوه، فان ذهبت الى النبي فهذا سيعني أنني كرست مقدسا، وهذا سيسئ بلا شك لنسبية اينشتاين، والثاني سيقودني الى الانتحار العقلي، وربما الجسدي، وأنا رجل منشغل بالعيش، وشغوف به، والنتيجة:
أوقعني الصافي بالمعادلة الصعبة، فبت مستمرا بالشتيمة، وبطبيعة الحال فكل الشتائم تذهب نحو الامهات والاخوات والعمات، أي لنساء القبيلة لا لرجالها، ربما بفعل أن المرأة يقين والرجل موضع شك.
قبل مدة أخرى كنت أخضع لعملية جراحية، وكانت العملية حسب الطبيب المبالغ في قسمه، تعني اما بتر الساق، واما الموت، واما احتمالات نجاح قصير القامة، ومدة العملية استغرقت ست ساعات، وتصوري ست ساعات وانت محاط بالمشارط وكمامات الجراحين، والتخدير النصفي الذي لايخدر ذاكرتك، مايعني أن عليك في هذه اللحظة اشغال المتبقي منك، يعني الذاكرة.
نصف دقيقة عملت ذاكرتي وبعدها....... لا ذاكرة، كل ذاكرتي اختصرتها بنصف دقيقة:
-الامكنة، الناس، الروائح
-الطفولة الكهولة وربما العجز.. بنصف دقيقة
-نصف دقيقة تعني بلغة السينما 720 فريم، وهي بالمحصلة مجرد قطعة مونتاجية غبية لمونتير ضجر.. يعني كل حياتك قطع مونتاجي حدث فيه خلل.
تصوري ياروز كم هي فقيرة تلك الحياة التي يمكن أن تختصر بـ 720 فريم؟
في المنحدرات التي ستكون على هذا النحو، عليك أن تلعب، ولقد لعبت فعلا، لعبت مع الطبيبة المخدرة، فالسيدة الطبيبة، شاحبة، معصورة حتى الآخر، لم يتبق من المرأة فيها سوى لقب روضته المجاملة : سيدة.
لعبت معها، حاولت أن أصدق أنها امرأة وأنها تثير شهية محتضر.
بالنتيجة، استعادت عيناها بريقا كان ذات يوم وانطفأ.. استعاد وجهها شئ من الرحمة، واستعادت المرأة فيها المرأة، فصارت حيوانا يفيض بالشهوة.
أنا صدقت اللاعب (الذي هو أنا)، وهي صدقت اللعبة التي جمعتنا، ومجموع الاطباء والجراحين ولصوص الادارات صدقوا أيضا فأخفضوا فاتورة المشفى، وانتهى المشهد بـ : ذاكرة.
ذاكرة أضافت لمجموع الفريمات السابقة بعض الفريمات فصار طريق الذاكرة أطول، وبت أنا أكثر ارتفاعا مما كنته ماقبل حلول الفاتورة الجديدة التي أعطتها المشفى.
في " حراس الهوى"، حدثت نقلة جديدة، ذاكرة كان علي أن أخزنها منذ أحداث الرواية، منذ أبطال الرواية,, منذ قضية الرواية ومازالت موصولة باللحظة، وفي :" حراس الهوى"، كان علي استحضار سنوات من عمر معوج، جمع الى اعوجاجاته مرحلة معوجة من بشر شديدي الاعوجاج؟
وما العيب في الاعوجاج؟
في الرواية مافي عكس الحياة، فالبطل في الحياة، هو الناجح في ادارة الدولة والمجتمع وشؤون العائلة، الناجح في الحياة زوج يتقن فن استحضار الخضار وأدوات المطبخ.. الناجح في الحياة زوج يتقن فن ادارة المؤسسة، الناجح في الحياة زوج يصعد ويصعد ويصعد ولا يقع.
في الرواية: الساقطون أبطالنا.. الضجرون أبطالنا .. المعوجون أبطالنا، الذاهبون نحو الموت المحتم، والخيارات المميتة هم أبطالنا، ولولا ذلك لما ذهب وليم شكسبير الى هاملت، كان بوسعه اختيار واحد من أزواج المدارس المثابرين على تنقيح اللغة، ولولا ذلك لما أعطى ستنسلافسكي تعليمات صارمة للممثل.. تعليمات زاجرة تقول:
-لاتتجه نحو الممثل المقابل بخطوط مستقيمة، أعوج.
وهاأنت، تذهبين الى (أبطالك المعوجين)، أبطال حلموا ذات يوم بالاممية الخامسة وقد كسرت بطريقها أهواء جوزيف ستالين وهوايات حزبه الاحمر، تذهبين الى أبطالك القادمين من كومونة باريس الاولى وأحداث باريس اللاحقة، أبطال حملوا كتبهم الحمراء، وتاهوا في زحمة خيال الخلاص، وبعدها صاروا جزءا من عفن الأماكن المغلقة.
أقول الأماكن، وأصحح:
الـ (لاأماكن) ، واـ (لا أزمان)، فالمنفردة تلغي الزمان والمكان فيصير الكائن فيها مطلقا، يصير الله ان شئت، يصير الـ (لاشئ)، ان شئت، مطلقان يتقاطعان في الصفر.
أتعلمين ما الذي أضافته روايتك (حراس الهوى)؟
فريمات جديدة ، لذاكرة جديدة.
ذاكرة كان المطلوب منها أن لاتعمل، وليتها لاتعمل.
روزا:
كان علينا أن نعطل الذاكرة، وماكان عليك ايقاظها.
08-أيار-2021
05-تشرين الأول-2019 | |
14-تشرين الأول-2017 | |
09-أيلول-2017 | |
13-حزيران-2010 | |
30-أيار-2010 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |