في أسباب نزول آيتي الحجاب والجلباب
2009-05-17
نبدأ بهذه الحكاية: روى البخاري في صحيحه بسنده: عن أنس قال: " قال عمر رضي الله عنه: قلت: يا رسول الله! يدخل عليك البرّ والفاجر، فلو أمرت أمّهات المؤمنين بالحجاب، فأنزل الله آية الحجاب". وروى عنه قال: "أنا أعلم الناس بهذه الآية: آية الحجاب. لما أهديت زينب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت معه في البيت، صنع طعاما ودعا القوم، فقعدوا يتحدّثون، فجعل النبيّ صلّى الله عليه وسلم يخرج، ثم يرجع، وهم قعود يتحدّثون، فأنزل الله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه" إلى قوله: "من وراء حجاب"، فضرب الحجاب، وقام القوم".
وتقول الآية يٰأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَـكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُواْ فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُواْ وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللَّهُ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ اللَّهِ وَلاَ أَن تَنكِحُواْ أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِن ذلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيماً
القصّة بدأت إذن، في الرواية الأولى، عندما اغتاظ عمر بذكورته المعروفة في التاريخ لرؤيته الرجال يأتون بيت النبيّ فيجلسون ويأكلون ويشربون، بينما نساء النبيّ يدخلن ويخرجن ويتحدّثن مع الضيوف. أما وفق الرواية الثانية، فيبدو أنّ النبيّ هو الذي انزعج من الرجال الذين دعاهم إلى بيته يوم زواجه بزينب بنت جحش، بعد أن طلّقها ربيبه زيد من أجل أن يتزوّجها النبيّ، فلبثوا في البيت يتسامرون دون أن ينتبهوا إلى أنّ الرجل يريد الخلوة مع عروسه.
وفي رواية عن أنس بن مالك أنه كان ابن عشر سنـين حين قدم النبيّ إلـى الـمدينة، "فكنت أعلـم الناس بشأن الـحجاب حين أنزل فـي مبتنـى رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم بها عروساً، فدعا القوم فأصابوا من الطعام حتـى خرجوا، وبقـي منهم رهط عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطالوا الـمكث، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج، وخرجت معه لكي يخرجوا، فمشى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومشيت معه، حتـى جاء عتبة حجرة عائشة زوج النبـيّ صلى الله عليه وسلم، ثم ظنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم قد خرجوا، فرجع ورجعت معه، حتـى دخـل علـى زينب، فإذا هم جلوس لـم يقوموا، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجعت معه، فإذا هم قد خرجوا، فضرب بـينـي وبـينه ستراً، وأنزل الـحجاب."
بدأ الحجاب إذن، بسبب قلّة ذوق حفنة من الرجال (يقال ثلاثة ويقال رجلان) أطالوا المكوث بعد الطعام في بيت زينب عروس النبيّ. ففي الرواية أنّ النبيّ دعا كلّ رجال المدينة إلى الطعام، فجاؤوا وأكلوا ثم انفضّوا تاركين الرجل وعروسه، إلا رجلين أو ثلاثة، فاتهم أدب الضيافة فأثقلوا على النبيّ حتى استثقلهم، وما أن خرجوا أخيرا حتى أنزل سترا بين زوجه وبين الصبيّ أنس، ثم نزلت آية الحجاب.
القصة الثانية:
يروي صاحب الدرّ المنثور عن عائشة أنّ أزواج النبيّ "كن يخرجن بالليل إذا تبرزن إلى المناصع وهو صعيد أفيح، فكان عمر يقول للنبيّ صلى الله عليه وسلم أحجب نساءك، فلم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل. فخرجت سودة بنت زمعة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ليلة من الليالي عشاء، وكانت امرأة طويلة، فناداها عمر: ] ألا قد عرفناك يا سودة[ حرصاً على أن ينزل الحجاب، فأنزل الله الحجاب."
وفي مسند أحمد، عن عائشة، قالت "خرجت سودة بعد ما ضرب الحجاب لحاجتها، وكانت امرأة جسيمة لا تخفى على من يعرفها فرآها، عمر بن الخطاب، فقال: يا سودة أما والله ما تخفين علينا فانظري كيف تخرجين. (وفي رواية ألا قد عرفناك يا سودة.) فانكفأت راجعة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي، وأنه ليتعشّى وفي يده عرق، فدخلت فقالت: يا رسول الله إني خرجت لبعض حاجتي فقال لي عمر كذا وكذا. قالت: فأوحى الله إليه ثم رفع عنه وأن العرق في يده ما وضعه فقال إنه قد أذن لكن أن تخرجن لحاجتكن."
أما الآية فهي: " يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيْمَاً." (الأحزاب 59)
وفي تفسير ابن كثير لهذه الآيات أنّ الله يأمر النساء المؤمنات "بأن يدنين عليهن من جلابيبهن ليتميزن عن سمات نساء الجاهلية وسمات الإماء." وفي شرح ذلك يقول إن جماعة "من فساق أهل المدينة يخرجون بالليل حين يختلط الظلام إلى طرق المدينة يتعرضون للنساء. وكانت مساكن أهل المدينة ضيقة فإذا كان الليل خرج النساء إلى الطرق يقضين حاجتهن فكان أولئك الفساق يبتغون ذلك منهن، فإذا رأوا المرأة عليها جلباب قالوا هذه حرّة فكفّوا عنها، وإذا رأوا المرأة ليس عليها جلباب قالوا هذه أمة فوثبوا عليها. وقال مجاهد يتجلببن فيُعلم أنّهن حرائر فلا يتعرّض لهنّ فاسق بأذى ولا ريبة."
لنتأمّل في القصتين:
أوّلا: إنّ الآيتين التين تفرضان على كافة النساء الحجاب نزلتا في مناسبتين تاريخيتين معيّنتين، وكان من الممكن، نظريا على الأقل، ألا تنزلا لو كان سلوك البشر مختلفا، وقتذاك. فلو أن الرجال كانوا أكثر تهذيبا، يوم أولم النبيّ لهم، فمضوا في سبيلهم بعد أن نالوا نصيبهم من الطعام، لما اغتاظ النبي، ولما نزلت آية الحجاب. ولولا سلوك بعض من زعران المدينة الذين كانوا يتناولون الإماء بالأذى، لما نزلت آية الجلباب.
ثانيا: في آية الجلباب، نتوقف عند مفهوم الجريمة والعقاب. فأما الجريمة فهي اعتداء الفساق على النساء، وأما العقاب فوقع على الضحية، أي على النساء بإلزامهنّ بالجلباب، لكي يعرفن بأنهن لسن إماء، فلا يعتدى عليهن، بينما نجا الفساق بفعلتهم، وأعطوا الحرية في إيذاء الإماء.
ثالثا: تفترض الآية أن الفاسقين لديهم ما يردعهم إذا عرفوا أنّ المرأة حرّة وليست أمة، فيمتنعوا عن إيذائها، وفي هذا افتراض غير منطقيّ، فالفاسق لن يفرّق بين حرّة وأمة، إذا ما أتيح له المجال لإيذائها.
رابعا: ثمّة في الآية تمييز غير مقبول لا دينيا ولا إنسانيا بين البشر، وهو أن يخصّ المرأة الحرّة بتغطية الوجه، ثم يلزم الأمة بالسفور، لتلبية نزوات الرجال. وفي هذا موافقة ضمنية على أحقية الفسّاق بالاعتداء على الإماء، ورفع هذا الحق عندما يكون الموضوع امرأة حرّة .
خامسا: وبالتالي، فإنّ الآية لم تلزم الفاسق بالكفّ عن فسقه واعتدائه على النساء، وإنما أتاحت له جزءا من النساء (الإماء) لكي يكفّ شرّه عن الجزء الآخر (الحرائر.) وفي ذلك حسّ عال من الذكورية المقيتة، فعندما تكون المرأة امرأتي أنا، ينطبق القانون. أما عندما تكون امرأة مشاعا (أمة) فلا بأس بأن يأخذ الفساق راحتهم معها.
سادسا: ثمة في سلوك عمر بن الخطاب فجاجة وصبيانية لا تتناسب مع شخصيته القيادية وورعه وعدله. والرجل كان معروفا عنه كرهه للنساء، ومعروفة قصته مع عائشة، عندما دعاه النبيّ لطعام بحضورها، فأصاب أصبعه أصبعا لها، فقال: " آه لو أطاع (محمد) فيكنّ ما رأتكن عين." ولكن أن يصل به الأمر إلى ملاحقة زوج النبيّ والصياح عليها وإحراجا في الليل، ففي هذا قلة لباقة وموقف صبياني غير مقبول ممن سيصبح أميرا للمؤمنين.
سابعا: أما الأشد من ذلك فهو أن يستجيب الله لهذا السلوك الابتزازي، فينزل على الفور آية فيها، يحرم على المرأة الخروج دون أن تلفّ نفسها من رأسها إلى أخمص قدميها، فيعرف الفاسقون أنها حرّة وليست جارية فيعفون عنها، فكأنه بذلك يتّقي شرّ الرجل.
إن أسباب نزول الآيات مصدر مهمّ لفهم تاريخانية آيات القرآن. وسواء كان المرء مسلما جيدا أم غير ذلك، فقد آن الأوان لأن نأخذ بالأسباب، ونرى في الخلفيات التاريخية، ونحدّد الآيات بوقتها ومكانها. وإنه لمن المعيب، أن يتحكّم مجتمع لم يكن فيه مراحيض خاصة ولا قوانين مدنية ولا شرطة ولا مدارس وجمعيات ومستشفيات، بمجتمع يتمتع بكل ذلك، ولكنه مجبر على الخضوع للمجتمع الأول. فقد بدأت المشكلة بأن النساء كن مجبرات على التغوط في الخلاء، فيعاكسهن مجموعة من الفاسقين، لانعدام القانون ورجال الشرطة، وتردي الوضع الثقافي والمعرفي، نزلت آية ما زالت تتحكم نساء العالمين إلى اليوم.
عن موقع الأوان
08-أيار-2021
29-تشرين الأول-2010 | |
17-أيار-2009 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |