«مذنبون: لون دمهم في كفي». / القتلة مواطنون ... بامتياز
2009-06-12
اصطبغت الرواية في الجزائر بالدم خلال العقدين الماضيين، إثر اندلاع الجحيم الإرهابي. وبالدم أيضاً اصطبغت الرواية التي تعالقت بالمصالحة في الجزائر، ومنها رواية الحبيب السائح الجديدة «مذنبون: لون دمهم في كفي».
يتحدر عنوان الرواية من عبارة واحدة من شخصياتها المحورية (رشيد) يخاطب بها السارد الأساس (أحمد) مشيراً إلى من قتل أباه وأمه وأخته، والعبارة هي: «أرى لون دمه في كفي». وسرعان ما تجلو الرواية أن لا صلح للموتور مع هذا المذنب (لَحْوَلْ) ولا توبة له، وإن تكن الدولة أعلنت المصالحة.
تعود مذبحة أسرة رشيد إلى عام 1999. وقد اختفى إثرها هذا المثقف والكاتب ثلاث سنوات، ثم ظهر ليثأر من «لحول» ابن معشوقته فلّة. وقد أدرك رشيد ثأره وهو يمور: «الوحش هو الإنسان» من دون أن يمنعه ذلك من أن يوصي حارس المقبرة على «ذئب»، فيجوّع الذئب ليطعمه جثة «لحول» بعد نبش قبره، مما سيجعل المفتش حسن يتحدث عما يدفع برشيد إلى هذا التنكيل: إنه «الوحش النائم في الإنسان»، والعقبى للسارد الذي يسوق عباراته على ألسنة شخصياته.
بعد الثأر بات رشيد ملاحقاً، لكنه ينجو أخيراً من الاعتقال بتدبير من يمثلان السلطة، كل من زاوية، كما سنرى. وتلك هي إذاً الحكاية المدماة لرواية «مذنبون: لون دمهم في كفي». لكن الحكاية تتفرع إلى حكايات، وقد قضى أحمد أربع سنوات بعد المذبحة (1999 - 2003) وهو يجمع تفاصيلها وما تلاها، من الشخصيات الأخرى، ومن «تصوراتي وظنوني»، فكأنما يركب أجزاء «لعبة الصبر»، أو ينجز نقشه على خشب الخزانة. وليس يخفى التلويح ببناء الرواية من كل ذلك مثلما تلوح أوراق رشيد المصفوفة كأنها معدّة لأن تكون كتاباً.
تصخب الرواية بالنيل من الساسة، مما يضارع النيل من الإرهاب. وإذا كانت ألسنة غالبية الشخصيات تلتقي هنا، فقد برز من بينها بخاصة لسان «بوركبة» الذي شارك في الثورة من أجل الاستقلال. وها هو بعد اندلاع الجحيم الإرهابي ينخرط في الحماية المدنية، من دون أن ينسى أن الفتنة الأولى قد أسرعت. فبعد ساعات من إعلان الاستقلال - كما يحدّث ابنته وزوجها - نتأت زعامات جيش الحدود وجيش الداخل من بين ضحايا الحرب. وها هي «حرب أخرى همجية تمزقنا منذ سبع سنين، تديرها رؤوس الفتنة من السياسيين الطموحين ومن كبار المتنفذين الذين يتقاتلون بدمنا للسيطرة على المال العام والعقار!». وفي موضع آخر يسمي بوركبة رؤوس الفتنة أولئك بعصابات الريع، ويحكم بأن ما دمّر البلاد ليس «غير دسائس ساسته وحماقات قادته». كما يحكم بأن الساسة «هم الذين حولوا حلم الجزائريين إلى خيبة مزمنة وغيروا طيبتهم إلى حقد ساحق وأنزلوا مشاعرهم إلى درجة الحيوانية».
يرفض بوركبة المصالحة، فيخاطب أحمد: «عفو الساسة عن القتلة ذنب أكبر لا بد من أن يقاوم». وعن ملاحقة السلطة لرشيد لأنه قتل «لحول» يتابع بوركبة القول مستنكراً وساخراً: «يعفون عن القتلة بلا محاكمة، ويقاضون المقتصين منهم؟ لعنة! لا تندهش إن خرج علينا يوماً من غرفة النظام الخلفية سياسي ألمعي وأقر محاكمة من رفعوا السلاح للدفاع عن بقاء الدولة». كما يخاطب بوركبة ميمون: «العفو عنهم يعني أكل الجيفة ولحم الأموات». ويرى بوركبة أن من دلائل الخراب أن تؤول الدولة إلى مسخرة: «هل تسمع بقانون أو شرع يبرئان المذنبين من غير محاكمة»؟. وهو يرمي بالسؤال الضابط «الخضر» الذي سلمه الرشاش علامة انخراطه في الحماية المدنية: «ما هذا القانون الذي يرفع القتلة إلى مواطنين بدرجة امتياز وينشف أيديهم الملطخة بدماء ضحاياهم؟». لكن «لخضر» يرى الأمر من زاوية أخرى. فالبلد كبير، ويتسع لجميع أبنائه، و «إن لم نحكم القانون هوينا إلى جحيم الفوضى». وفي الآن نفسه، يرى هذا الضابط العلة في ساسة مغامرين مصابين بعرض العسكرية المرضي، وهو يشكو ساسة الصالونات الذين يعدّون التصدي بما يردع الوحشية، تجاوزات، ويصفونها بالقذارة.
يضيء الضابط «لخضر» العلاقة بين المدني والعسكري في الجزائر، فيشخصها عداء متبادلاً في «نظام دولة مضبوط العلاقة على ميزان الذال والمذلول». ويعبر لخضر عما عاين من أنه لا يكاد يوجد بين الجزائريين من لا ينظر إلى رجال الأمن وموظفي العدالة ومسؤولي الإدارة، بصفتهم «أعواناً» وجدوا بعد رحيل المحتلين، ليواصلوا إذلال المواطنين، وبضمائر مثلجة، فربّى ذلك أشكال التذمر الأكثر تطرفاً، وسوّغ لرفع السلاح في وجه رموز الدولة تعبيراً عن رد فعل دفين تجاه مظاهر ذلك الإذلال المستشرية». ويذهب «لخضر» من ذلك إلى تشخيص رؤية الجزائري للخلاص من الإذلال بوجوب محو أثر الرموز الأمنية وتفكيك أجهزتها، لإقامة دولة خالية من المؤسسات القمعية.
تصرّف الرواية أطروحات الكاتب على لسان بوركبة وعلى لسان «لخضر» بخاصة. وكأنما لم تكتف بذلك، فجاءت بمثله - ولكن بحجم أقل - على لسان شخصية أخرى هي «يزيد» الطالب الذي تعاون مع الأمن وتتبع آثار الطلبة الذين مضوا إلى قندهار وبيشاور. يتحدث «يزيد» عن «قطاع الطرق الجدد من الساسة والمتنفذين». وإذا كان تصريف الأطروحات قد أثقل على الرواية، مثله مثل اجترار الأحداث التي ضاقت بها روايات التسعينات الجزائرية، فقد هوّن من ذلك بقدر أو بآخر، ثراء معظم الشخصيات الروائية، حتى ما بدا منها نكرة أو عابراً. فشخصية «فلّة» التي لا تكاد تحضر إلا عبر عاشقها رشيد وابنها لحول، تجدد الحضور المميز لشخصية البغي في الرواية الجزائرية. وعبر فلة تأتي قصة أبيها العميل الفرنسي منذ ثورة الاستقلال. وثمة أيضاً شخصية الزهرة بنت الإمام الذي قتله «لحول»، كأنموذج نقيض لـ «فلة»، ولا يقل عنها تميزاً. وقد غلب أن حرصت الرواية على أن تقدم قصة كل شخصية. فليزيد قصته مع نزهة بنت العقيد «بونيف»، ولهذا الضابط الذي لم يدنس شرفه العسكري قصته. ومن قادة الإرهاب، «لعليان» القادم بلباس أهل المشرق، قصته، ومنها تزويج أخته لـ «لحول» حتى يحكم السيطرة عليه. ومثله الشيخ الأزرق الذي هيأت خطبه للفتنة، وأمر بسبي الحريم وتسخيرهن... ومن تلك القصص ما عاد إلى زمن الاستقلال، كقصة الفرنسية «نورة» التي عالجت والد «رشيد» وأسلمت.
يضاف إلى تلك القصص الفرعية، الموجز منها والمفصل، في تخفيف وطأة الأطروحات على الرواية، ما حفلت به من مشهديات، مثل مشاهدة الطفلة «نجاة»، شقيقة «رشيد» التي نجت من المذبحة، لجثة «لحول»، أملاً بأن تشفيها هذه الصدمة من صدمة مشاهدتها مقتل أبيها وأمها وأختها. وكذلك مشهد مشاركة المجند «لكحل» في إعدام أحدهم. أما المشاهد الأكثر تأثيراً، فمنها مشهد سفح براميل النبيذ الخشبية، ومشهد إعداد الذئب لوليمة جثة «لحول»، بعدما تظاهرت النساء ضد دفنه في مقبرة المدينة.
بهذه المشهديات، وبتلك القصص والشخصيات، تنهض رواية «مذنبون: لون دمهم في كفي» لتعزز موقع الحبيب السائح في الرواية الجزائرية التي لا يزال جرح الإرهاب فيها فاغراً.
الإثنين, 08 يونيو 2009
عن جريدة الحياة
نبيل سليمان
08-أيار-2021
04-تشرين الثاني-2014 | |
12-حزيران-2009 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |