رواية/ الأرض المحرمة لماريا شانتال لونغ ـ ج2ماريا شانتال لونغ
2009-06-15
الفصــــــــــــل الثامن
ما هي الخطوة المقبلة؟
وقف ياسرفي الشارع بالقرب من مخفر الشرطة يمشي في مكانه جيئة وذهابة, يتأرجح تفكيره هنا وهناك,
في مختلف الإتجاهات والأهداف. إلى أين يذهب ومن أين يبدأ؟ يجب أن يعثرعلى أنتي وفرريد, على هواتفهم النقالة, محفظة نقوده, المفاتيح التي نسيها في بيت أنتي حتى يكون كل شيئ في عداد المجهول, فيما إذا قبض عليه وسألوه.. هل أولئك.. زملائك, من هم, ماذا قالوا, ماذا.. آلاف الاسئلة المحتملة.. عندها سيكون كل شيئ في عداد المجهول. أما إذا أرادوا أن يعرفوا فيما إذا وشى بهم أم لا سيكون في وسعه أن يقول لهم إنه لم يكن هناك. يجب أن يعبرعن رغبته في مقابلة رووف. الخطة في طريقها إلى التنفيذ بدقة. تلك الخطة كانت على وشك أن تخرب على يد إيكا. إيكا, ما أن ورد اسمها في خاطره حتى أحس بالغصة والحزن يشدان على قلبه. لا يمكنه أن ينسى نظراتها الغاضبة المملوءة بالألم عندما قال لها أنه خدعها. تعتقد أنه هكذا؟ كيف لها أن تثق به بعد هذا الذي حدث, بعد هذا الكذب الفظيع؟ أنها مخدوعة؟ لقد اختلق كل شيئ. لم يكن حديثه معها سوى حيلة. أنه خجل من نفسه لأنه كاذب. لقد جرح مشاعرها وأهانها مرات كثيرة. يعتقد أنه سبب الأذى لنفسه أيضاً. لكنه كان مرغماً, لم يكن سوى ذلك. ستتفهم موقفه بعد حين عندما يلتقيان مرة أخرى.
بعد أخرجولة في الشارع, قررالذهاب إلى البيت حتى يأخذ دشاً ويبدل ثيابه, ويتكلم مع أخته دياميلا لبعض الوقت. يرى ما يحدث في البيت من مشاكل عالقة. يأكل لقمة طعام ثم يهرب ثانية إلى بيت أنتي, وبعدها فليقررالقدرما يقرر!
لقد استغرق سيره على الأقدام عشرون دقيقة إلى أن وصل إلى البيت. استطاع ياسرأن يفكربسهولة ويسر, في كل الاحتمالات التي ستواجهه قريباً, وأراد أن يتجنب الخوض في المسائل التي ستعترضه. إذا رأف به الحظ سيلتقي بأخته دياميلا, ربما أخوته الصغار, لكن إذا جافاه الحظ... نعم, عندها لن يعرف ماذا سيحدث! من المتحمل أن أمه ما زالت في المستشفى. لم تقل شيئاً عندما رأته برفقة إيكا. أصبحت أشبه بظل, شبح أو ظل روح, كأنها امرأة أخرى, بقايا أم. كأن الرصاصة أصابتها هي وليس أبيه!
لقد وصل الأن. وزع نظراته على محيط البيت, لم يقع نظره على السيارة البالية لعمه سعيد. السيارة ذات اللون الفضي, مكروباص, التي أدخل عليها تحسينات كثيرة. أزال بقع الصدى من على صندوقها وصبغها باللون الأحمر. تبدو للناظرإليها من مسافة بعيدة أشبه بحطام. لم تكن هناك سيارة تحت مرمى النظر, يبدو أنه مسافر.
صعد ياسرالدرجات التي تقوده إلى البيت, دق الباب بحذرلكنه لم يسمع إجابة. فتح الطاقة الصغيرة للرسائل, راح يصيغ السمع لأية حركة, لأي صوت أو خطوة. سمع صوت موسيقا تنبعث من الغرفة, لكن لم يكن هناك أحد. قررأن يتصل بالهاتف, لأنه لا يستطيع أن يقف على مصطبة الدرج مدة ساعة كاملة. لا شك هذا بيته, وعمه سعيد غيرموجود حتى يمسك به. لكن كيف يمكنه الدخول!
تناهى إلى سمعه صوت خطوات تقترب من الباب. أحس أن أحدهم ينظرإليه من خلال العين السحرية. تمنى أن تكون دياميلا من تقف على الضفة الأخرى من الباب حتى تسهل عليه الأمر.
ياسر, اللعنة على الشيطان. كانت هذه أولى كلماتها عندما فتحت الباب. هل كان عليك أن تتوارى عن الانظار كل هذه المدة الطويلة؟
ـ قلت لكم إنني سأنام بعيداً عن البيت. لقد فعلت ذلك, ذهبت إلى المستشفى وقابلت ماما, أين الخطأ في كل ذلك؟
ـ لا شيئ, هل تعتقد أن هذا الأمر يسرني, أن أبقى هنا وأشرف على هؤلاء الصغار, واهتم بكل شيئ, وأرد على الأسئلة, وأدافع عنك, وقس على ذلك؟
ـ ماذا تعنين بالدفاع عني؟ ماذا قال؟
ـ قال, يجب أن لا تبيت خارج البيت. يجب أن تكون في البيت قبل الساعة الثامنة مساءً. أن تكون معنا, تساعدنا, تأتي معنا كي نتسوق ونشتري الحاجات اللأزمة للبيت وغيرذلك من هذا القبيل. أن تساعدنا في تنظيف المتجر.
ـ أنه نظيف. دائماً متجرنا نظيف. لقد نظف من بقع الدم والبيرة بعد عملية السطو. هل تعرفي ذلك. لقد قام العم سعيد بهذا الفعل عندما جاء إلى هنا. أنه الشيئ الجيد الوحيد الذي قام به.
ـ ينبغي أن ننظفها أفضل. نحتاج إلى شخص أخرحتى يتولى المسؤولية.
ـ ماذا؟
بالإضافة إلى وجود دياميلا في البيت هناك زوجة العم سعيد. المرأة العجوزالمحجبة التي لا تتقن اللغة السويدية إلا ما ندرمثل كلمة مرحبا, كيفك, تصبح على خير, أذهب إلى النوم, وتلجأ إلى استخدام الإشارات والإيماءات بدلاً عن ذلك حتى توصل فكرتها وغالباً ما يترافق ذلك مع ابتسامة عريضة على وجهها ثم تكمل حديثها باللغة العربية مع العم سعيد. لكنها دائمة الحركة, تطبخ, تكنس, تنظف وتلملم البيت.
يلم ياسرباللغة العربية قليلاً, يفهم بعض الجمل التي تقال في حضوره لكنه لا يستطيع أن يعبربها كلامياً لهذا يمتنع عن التكلم بها. دياميلا أفضل منه في هذا الجانب لكن أخوته الصغارلا يتكلمون سوى اللغة السويدية. هذا الشيئ لا يقلقه, لأن السويد وطنهم, ولدوا فيه, يقيمون على أرضه ويدرسون ويأكلون في مدارسه ويحملون جواز سفره ويعيشون ويسكنون في إحدى مدنه الصغيرة التي يحبونها كثيراً. لقد أصبح وجودهم كله في السويد, الوالد, الوالدة, المدرسة, الأصدقاء والعلاقات.
يوجد على الجانب الأخرمن اللوحة, شكل مختلف, فالعم سعيد لم يكن موجوداً في البيت, لحسن الحظ, بينما زوجته المسنة التي سمعت صراخ ياسر بكل تأكيد لم تقدم على أي فعل لا تحمد عواقبه. بقيت مستمرة في تدبيرشؤون المنزل, تتحرك في المطبخ, تحرك الحساء في القدر, تنظف حول الفرن, تعمل على تحضيرسفرة الطعام للأسرة.
ـ ما المقصود من قولك أننا بحاجة إلى شخص يتولى المسؤولية؟ من؟ لا أحد يأخذ مكان بابا ومسؤولية المتجر. بابا لم يمت.. بابا على قيد الحياة, مصاب بأذى. ماذا قالت ماما؟
ـ إلزم الهدوء يا ياسر. إذا بقيت في البيت مدة قليلة من الزمن ستعرف ماذا يحدث.
جرت دياميلا أخيها ياسر بهدوء إلى حجرتها الصغيرة المغلقة النوافذ الكائنة خلف غرفة النوم. أغلقت
الباب وراءها ثم جلست على السرير.
ـ اسمع علي الأن يا أخي! قال العم سعيد, يجب على أحدنا أن يتولى مسؤولية المتجرلأن الأموال التي في حوزتكم, التي أدخرها والدكم تنقص يوماً بعد يوم نتيجة مصروف البيت. هذه حقيقة يا ياسر! كل يوم نفقد بعض من تلك الأموال التي معنا. كل يوم يمرعلينا يصبح وضعنا أسوأ من الذي قبله.
ـ والدنا ليس بحاجة أن يشتري, حتى يبيع. لن يخسرأي مبلغ من المال.
ـ إلزم الصمت. هل تريد أن تعرف أم لا؟
راح ياسر يلزم الصمت ويسمع لما تقوله أخته الصغيرة دياميلا. صحيح أنها أصغرمنه بعام واحد لكنها أكثرقدرة منه على إدارة البيت وشؤونه وشجونه. أحياناً كثيرة يقف ياسرأمامها عاجزاً, خجلاً منها لأنه يفتقد المهارة التي تجديها كالطبخ والكوي وترتيب الثياب المغسولة أما إذا ذهب إلى المتاجرللتسوق فأنه عادة ما يشتري كل أصناف الطعام بشكل خاطئ كاللبن والحليب والجبن. لكن دياميلا, تستطيع كل ذلك. لهذا عليه أن يسمع لها لأنها بقيت في البيت طوال الوقت, ملأت الفراغ الذي تركه أبوها وأمها وهروبه وترك أخوته الصغارلأقدارهم.
ـ يجب أن ندفع إيجارالبيت, إيجارالمتجر. السلع يجب أن تباع. إذا بقي المحل, المتجر مغلقاً مدة طويلة من الزمن فإن الناس سيذهبون إلى أماكن أخرى, إلى متاجر أخرى. المؤشرات بدأت تقطف ثمارها. أنهم يذهبون إلى محل يوسف الذي لا يبعد من هنا سوى 700 متر. نحن الأن في فصل الصيف ومن السهل على المرء أن يذهب إلى ذلك المحل. لقد عثر العم سعيد على أحد الناس كي يساعدنا, يساعد والدنا... نحن نعرف ماذا حدث لوالدنا. أنه طالب, راتبه قليل, هذا ما قاله العم سعيد, طعامه ومصروفه اليومي والمسكن علينا. سيسكن معنا.
ـ هنا؟ معنا؟ ماذا؟ ربما سيقيم في غرفتك, في البانيو؟ / حوض الاستحمام/!
سننتقل من هذه المدينة يا ياسر. سيعيدنا العم سعيد إلى ترولهيتان حتى يعتني بنا جميعاً ويهتم بشؤون الصغار. يريدنا أن نذهب معه إلى بيته في تلك المدينة.
أصيب ياسر بصدمة, بقي في مكانه واقفاً لا يدري ماذا يقول, حتى الكلمات عجزت أن تخرج من فمه. كأن الدماء جفت في حنجرته. نظرإلى دياميلا فاغرالفم, قلبه يدق في جنبات صدره بقوة. شعرأنه خسيس ونذل وحقيرفي هذه اللحظة. لم تأخذ المسألة أقل من دقيقة حتى فهم وعرف معنى كل كلمة قالتها أخته. ماذا يعني هذا له, ماذا يعني هذا لهم!
ـ ننتقل؟ من هنا؟ نعود إلى ترولهيتان؟ وماذا عن بابا؟ ماذا عن ماما؟
ـ وضع ماما النفسي سيئ للغاية يا ياسرهذا ما يقوله الطبيب, أنها بحاجة إلى الرعاية الطبية والنفسية. عليها أن تأخذ الحبوب المهدئة في هذه الظروف الصعبة التي تمربها حتى تشفى, لهذا فأنها ستبقى هنا في حال ذهبنا, كما أنها لا تستطيع العودة إلى البيت أوتقوم بواجباتها أو تهتم بالصغار. ألم ترها كيف أصبحت امرأة لا مبالية ولا تعرف ماذا يدورحولها؟
يعرف ياسرهذا الكلام. لقد رأى والدته هذا الصباح عندما كان في المستشفى برفقة إيكا. لا, ماما لا يمكنها أن ترعى شؤونهم وتهتم بأمرهم.
ـ لكننا نستطيع يا دياميلا؟ نستطيع أنا وأنت أن نرعى أخوتنا الصغارونهتم بشؤونهم وشؤوننا. صدقيني يا دياميلا. سنقول للعم سعيد أن يذهب لوحده مع زوجته. نستطيع أن نتدبر أمورنا لوحدنا. ذلك الشاب الذي تكلمت عنه يمكنه أن يتولى شؤون المتجر, يمكنه أن ينام في سريري. أستطيع ان أخذ الفرشة وأنام في أي مكان من البيت. فقط أن يرحلوا عنا. دياميلا, أنني أخاف منه, إنه رجل شنيع, فظيع, مرعب, لهذا لا أرغب في البقاء في البيت. هل رأيت نظرات عينيه؟ ألا ترين معي أن شكله يشبه الشيطان.
ـ لقد حاولت أن أقول له هذا الكلام خلال الأيام الماضية عندما كانت ماما في البيت. أننا نستطيع أن نتدبرشؤوننا. لكنك لم تكن موجوداً في البيت يا ياسر, مما حدى بالعم سعيد أن يقول عنك إنك لست بالرجل الذي يمكن الاعتماد عليه, وأنك بحاجة إلى المزيد من التربية والرعاية. لذلك أخذ ورقة من صندوق التأمينات الاجتماعية أو الرعاية الاجتماعية أولا أعرف من أين. لقد وضعت ماما أمضاءها وأسمها على الورقة مقرونة بموافقتها على ذهابنا معه. قال لي, أنه يستطيع أن يأخذنا معه.
ـ أنا لن أنتقل.
ـ لن تأخذ المسألة كثيراً, فترة زمنية قصيرة ونعود! ربما يرغب في مساعدتنا.
ـ أنه شيطان يا دياميلا. أنه مجنون. هل تذكرينه عندما كنا نقيم في ترولهيتان؟ كان يتدخل في حياتنا الشخصية, في كل شاردة وواردة, أنه رجل حشري لا يعرف حدود تصرفاته. أنه يلزمنا أن ننفذ ما يفكر به. هل تذكرين ما قاله, والدكم ووالدتكم لطفاء معكم, مدللون. لقد أراد أن يفرض علينا تعلم اللغة العربية والتكلم بها. يردد على مسامعنا دائماً, لسنا سويديون ولا نريد أن نكون سويديين. دياميلا, أنا سويدي, أحس أنني سويدي. لن يتأخرالوقت الذي سيلزمك في لبس الحجاب.
ـ لا يستطيع أن يرغمني على ذلك.
ـ ربما ليس هنا. لكن عندما تذهبين إلى بيته وتصبحين تحت وصايته سيلزمك على لبس الحجاب, سترين كيف سيرغمك على ذلك. لقد شد على زندي بقوة هائلة منذ أسبوع كي يلزمني على البقاء في البيت. لقد أزرق جسمي وترك عليه بصمات لم تزل من وراء ذلك إلى اليوم. لقد هربت على كل حال. أنه رجل مجنون, ستأتي الأيام وترين كيف سيضربنا, ويضرب الصغار أيضاً.
دياميلا فتاة نشيطة تعمل دون كلل أو ملل طوال الوقت. لديها القدرة على التحمل والجلد. لديها اعتقاد راسخ أن ياسريتمتع بالصفة ذاتها. لكنهم ما زالوا صغاراً على تحمل مسؤولية الحياة والقيام بأعبائها, ليس لديهم القدرة على تحمل الأذى النفسي والجسدي من قبل الأخرين. صحيح أن دياميلا مثل أم صغيرة. لقد أثبتت جدارتها في الأيام والأسابيع الأخيرة الماضية عندما وقفت إلى جانب الجميع في البيت, تمنحهم الدفئ والرعاية والحنان. تقص عليهم الأحاديث الحلوة والجميلة رغم الحزن والألم الذي يخيم على البيت.
في دورة الحياة, شعرياسربالحسرة والحزن على نفسه, على طريقة حياته السابقة عندما قدم لهؤلاء الخنازيرالسجائروعلب البيرة. كيف لعب دوررجل التحري. أما الأن, فقد علمت دياميلا بعد حديثها مع ياسرأن أنتقالهم إلى بيت عمهم خطرعلى أخوتها الصغارحتى لو كان لفترة قصيرة من الزمن. الأن, سيكون ياسرالأخ الكبيربحق وحقيقة. لقد جاء دوره.
ـ إذا تكلمت معه, سأقول له أن ضرب الأطفال في السويد ممنوع منعاً باتاً. أنا أعرف أحد ضابط الشرطة, وأستطيع الحصول على مساعدة منه.
لم يكن ياسر متأكداً من الجملة الأخيرة التي نطق بها. سيعمل على فتح قنوات اتصال مباشرة مع إيكا مرة ثانية بعد اليوم؟ لكن من المفضل أن يذكرها بالموضوع, عندها تستطيع أن تساعده.
ـ لم يضرب أي إنسان إلى الأن, بدأت دياميلا حديثها قبل أن تسمع صوت قادم من الخارج. صوت رجولي أجش وخشن, يرافقه ويرد عليه صوت أنثوي لطيف.
خلال بضعة لحظات سمعوا قرع حاد على باب غرفة دياميلا. العم سعيد قال بضعة كلمات باللغة العربية من وراء الباب, فهموا إنه يريد ويرغب أن يخرجوا. لم يردوا عليه, بقوا جالسين في أماكنهم على سرير دياميلا دون حراك. بحثت هذه الأخيرة عن يد ياسر, مسكته بشدة ثم ضغطت عليه بقوة.
ـ ياسر! أعرف أنك هنا. أخرج من الغرفة. تكلم العم سعيد بلغة سويدية ركيكة, ثم بدأ يخبط على الباب بكل ما يملك من قوة. كانت حجرة دياميلاعبارة عن غرفة للملابس في السابق. الباب أوعلى الأصح, فجوة في الجدار, كتلة من الخشب القليل السماكة, عليه قفل صغير. يبدو كأنه سيتمزق إلى قطع في أية لحظة.
ـ يجب أن نفتح الباب يا ياسر. يجب أن نخرج من هنا ونتحدث معه وإلا سيتملكه الغضب العارم. عندئذ لن ينصت لنا.
شعرياسربالغثيان. ما هي إلا لحظات حتى تقيأ من الخوف. كان العم سعيد مثل الكابوس الجاثم على صدره يتمنى في أعماق نفسه أن ينزاح عن كاهله. لكن هذا الشيئ لم يحدث, أنه موجود, أنه هناك على بعد خطوة, على مقربة من الباب. كل شيئ ينذرباليأس والقنوط والاستسلام. والده في المشفى نتيجة إصابة خطيرة, أمه غارقة في حزنها, إيكا خائبة الأمل منه منذ عملية السطو. في الحقيقة, كل شيئ مغلق في وجهه. أين ذهبت تلك الحياة, الأيام الرائعة التي عشناها, صداقة شيكيز, قبلات توفا, ركوبنا على الدراجات الهوائية, أمسيات السبت التي كنا نقضيها في المسبح مع شيكيزوالأخرين, بعد طول انتظارمجيئ العطلة الصيفية...
نظرإلى دياميلا ورأى وجهها الشاحب المتوترتعض على شفتيها حتى لا تبكي. دياميلا, تلك الفتاة الناضجة القوية التي تتصرف دائماً مثل البالغين. هذا هوياسر, الأخ الأكبر. سيُضرب بعد قليل. نهض من على السرير, بلع ريقه من الرعب, أتجه نحو الباب, أدخل المفتاح وفتح القفل. بعدها ضغط بهدوء على المقبض وفتح الباب, موحياً أنه سيخرج. في البدء لم يحدث أي شيئ. خيم الصمت والهدوء على المكان. لم يدري ويحس إلا ويد قوية هوت على رأسه بكل ثقل, على جمجمته مباشرة, الحقها بثلاث ضربات أخرى, بينما دياميلا تصرخ وتصيح على عمها سعيد أن يتوقف عن الضرب. تدخلت زوجة سعيد من الخلف, مسكت يديه حتى يكف عن ضرب الطفل. من المحتمل أنها كانت تقول نفس الشيئ الذي تطلبه دياميلا, لكن صوتها كان هائجاً وحاداً ومضغوطاً لهذا لم يتسن لهم معرفة ماذا تقول. بعد الصفعة الثالثة استطاع ياسرأن يدفع عمه سعيد جانباً ويركض بأتجاه باب المدخل. لحسن الحظ لم يكن الباب مغلقاً. بعد لحظات قليلة أصبح ياسرخارج الشقة, يهبط درج البناية إلى أن أصبح في الشارع. راح يركض في الطريق كما لوإنه لم يركض هكذا من قبل, مرعوباً وغاضباً في نفس اللحظة, دموعه تسيل مدرارة على خديه. لم يسعفه الحظ أن ينتعل حذاءه قبل الهروب, لكنه استطاع أن يتناول المعطف. تابع الجري حافي القدمين. ياسرالأن ليس مجرد مشرد, يتيم الأب, يتيم الأم, لكنه لم يحمل معه أي شيئ, مفاتيح البيت, الهاتف الجوال.
وسط البؤس والخوف والضرب الذي تعرض له, نزوله إلى الشارع, أسعفه عقله أن يتذكرالليلة السابقة, المتجر, سرقة البيرة, السجائر, الخوف ذاته, الأفكارالغريبة والغامضة التي كانت تتوالد في عقله! الأن أصبح الموضوع أصعب, أنه حافي القدمين.
في وسط السوداوية التي هو فيها, قادته ذاكرته إلى إيكا, قولها, عندما تضعك الوقائع في منتصف المسافات, في إنعدام الخيارات, فأنت لست منتمياً إلى أي مكان, أنت في المنطقة المتنازع عليها, في الأرض المحرمة. مرة ثانية يجد نفسه هناك. في حالة هروب, حالة هروب من هنا, من هناك, لكن إلى أين؟ ليس لديه مكان آخريلجأ إليه. البيت خطر, والده على مشارف الموت, أمه في حالة هذيان, الأصدقاء اختفوا, أنتي وفرريد مستمرون في متابعة خططهم, وإيكا.
إيكا.
إيكا المنقذة.
لكنه خدعها, كذب عليها. متأكد أنها تكرهه الأن.
استنشق ياسرالمزيد من الهواء بعد أن خفف الركض. عادت رئتيه إلى الاسترخاء. لا بد له من التوقف حتى لا يتقيأ مرة ثانية. الأن هو بعيد عن البيت والأهل. التفت إلى الوراء حتى يرى إن كان هناك من يتتبع أثره. الشوارع مقفرة موحشة, خالية من الناس. تنهد بعمق وظل واقفاً في مكانه. ضياء الصيف وبريقه يضفيان على الكون جمالاً على جمال, يدفعان الناس للهرب إلى أحضان الطبيعة, إلى الغابات, إلى ضفاف الأنهاروالجداول. الوقت ما بعد الظهر, يوم عطلة رسمية. الكثير أخذ طريقه ورحل للتمتع بهذا اليوم المبهج. من يملك المال أوالوقت الكافي يسافر إلى أماكن أخرى من العالم. الآخرين يأخذون مناقلهم ويلجؤون إلى أقرب بحيرة أونهر, يشوون, يأكلون الأطعمة مع أسرتهم, يلعبون, يسبحون, يفترشون قبة السماء الزرقاء الصافية وهم عراة. ياسرفي مكانه, باق! أنه في منتصف المسافات, وحيد. ما أن انحنى قليلاً إلى الأمام كي يخفف عن نفسه أوجاع قفصه الصدري حتى سمع صياحاً, وضحك عال.
ـ آه, ياسر, أنت هنا؟ أين أنت يا عفريت. لقد بحثنا عنك في كل مكان, ظننا أن الشرطة قبضت عليك.
بدأ واضحاً لياسرأن هناك على مقربة منه شابان, يبتسمان بسخرية هما أنتي وفرريد. لكن من خلال التمعن يدرك المرء أنهما قلقان. بلاشك إنهما يعتقدان أن ياسروشى بهما. لهذا هما هنا يبحثان عنه.
ـ ما هي أحوالك؟ هل ضُربت؟ يبدوهذا واضحاً عليك, أليس كذلك؟
ـ
08-أيار-2021
30-تموز-2010 | |
17-تموز-2010 | |
02-آب-2009 | |
21-تموز-2009 | |
15-تموز-2009 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |