القاتل السردي
2009-06-17
عملة واحدة بلا وجهين.هكذا هما القاتل المحترف ومنزله، لأن كليهما بمثابة البوابة السريّة لهويته.
عليه أن يحيطهما على الدوام بما يلزم من التمويه والالتباس، وأن يطمرهما بعيدا داخل أعماقه المظلمة والمتوحدة حتى لا يصبح وجوده عرضة للخطر إذا ما اجتاز ﺃحدهم هذه البوابة السريّة ، وأماط القناع عن ملامح الوحش البشع والضاري الذي يقطن هناك.
لكن ، ابتداء من هذا المساء ، ﺃعتقد بأن هذه القاعدة المصيرية بالنسبة لكل المزاولين لهذا النشاط الميتافيزيقي بامتياز ، الذي يعجل بطيّ متاع الأرواح من فوق البسيطة ، ويسهل إجراءات سفرها إلى محطتها الختامية في العالم الآخر العلوي ، أضحت غير ذات نفع.
فبفضل الأجراس الخفية التي تعمل بتفان في حواس أي قاتل محترف ، اكتشفت عند عودتي المتأخرة
- المتعمدة كي أكون صادقا – بأن شخصا ما قد تسلل أثناء غيبتي إلى المنزل.
ظاهريا ، بدا كل شيء عاديا تقريبا، لكن مشوبا بالظلال المتداخلة للمجهول والخرس والعتمة والغموض كما هو الشأن في السينما حين يراد الوصول بالحدة الدرامية إلى مشارف الذروة.
رتاج الباب لم يتعرض لأدنى اقتحام. مربع السجاد الصغير للمدخل غير منحرف عن حواف المربع الزليجي للأرضية. الأثاث وبعض ما في حوزتي من لوحات وتحف ومخلوقات محنطة لم تغادر مواقعها الأصلية في الصالة.
إذن، وجب، مبدئيا، استبعاد الفرضية التقليدية للسرقة.
لكن ، عندما هممت بولوج غرفة المكتب ، أدركت بما لا يدع فسحة للارتياب بأن الشخص الذي تجاسر على انتهاك حرمتي ، هو بدوره قاتل محترف.
أدركت ذلك بهذا اليقين الساطع ، لأن القاتل المحترف هو الأسلوب. وفي هذا الأسلوب بالتحديد،
تكمن فلسفته في التنفيذ والآثار الدالة على جريمته المنقضية أو ربما القادمة.
فصورتي الشخصية الملفقة – على سبيل التضليل- التي انتزعت من الإطار المعلق على الجدار يمين الباب، وبصمة الحذاء التي لم تنطبع على شريط الغبار الدقيق الذي أضعه – قصدا- على امتداد العتبة، كانتا قرينتين أوليتين لا تقبلان الدحض.
وكما توقعت بعد أن أصبحت في الداخل – حتى دون أن ﺃعرّض المشهد لعيون النور- لم يتهاون
صاحبنا – نظير أي فنان محترم- في ترك توقيعه المزدوج والموحي، مستعينا بنصل حاد وكيس بلاستيكي، على كل من أحشاء وعنق واحدة من الدمى المشكلة لمجموعتي. وهو أمر شديد الإيلام بالنسبة لأي من هواة جمع الأشياء، أما فيما يتعلق بي شخصيا- أنا الذي يجمع بين لقبي: زير الجثث وزير الدمى – فيمثل اختلالا جسيما في رمزية التكفير، التي بموجبها كلما أهدرت حياة عوضتها بدمية جديدة على الرف.
وطبعا – وفق التدبير المعدّ سلفا – اختفى من على طاولة المكتب مخطوط المصّنف الضخم الذي يحمل عنوان: " دليل القاتل السردي ".
حينذاك ، استرقت النظر عبر الستارة ورأيت – كإجراء احترازي لا محيد عنه – أن الزقاق الذي تطل عليه الغرفة كان خاليا مثل ظهر عار. فنحيت كرسي المكتب مغيرا وجهته ليصبح مقابلا للنافذة. أرخيت عليه بحمل جسدي كما لو أنني أدير كلّيا ظهري للحذر ، ثم رسمت على شفتي ابتسامة ذات مغزى.
بالتأكيد، هي ابتسامة القاتل الدقيق والمتربص، الذي يشحذ على حجر قلبه الميت الشكل النهائي لخطة ما.
فها هو ، أخيرا ، قاتل آخر. قاتل ضروري. يثب من التمني. ينبثق من الاحتمال ، ويبدأ في السير بخطوات عمياء مثل بيدق تحركه يد مضمرة على طول الجسر الوهمي الذي شيدته مخيلتي. الجسر الطويل جدا، الملتوي كثعبان ، والضالع في الضباب، الذي من المفترض أن يقود إليّ بعد أن سئمت تكاليف هذه الحرفة المضنية ، ووطدت الذهن على البحث عن مخلص لي من وعثاء حمل نفسي من جثة إلى أخرى ، ومن وطأة ذلك الكابوس الفظيع الذي واظبت أن أراني في غمرته عاريا تحت مياه رشاش، وفجأة يظهر كل الذين أرسلتهم إلى آخر التراب ليسددوا لي بوحشية طعنات نجلاء. فتنزف مني الدماء بلا توقف. تغادر نطاق الدش. تغمر كافة أرجاء المنزل. تسيل على سلالم العمارة. تصل إلى الشارع. يتجاوز منسوبها الطوار. لا تستوعبها لا البالوعات ولا المجاري. تواصل اكتساحها لشوارع أخرى. تتجمع في لحظة لتصير بحيرة وأنا لا أموت بتاتا. ﺃتوق ﺇلى المنية بمنتهى ما ﺃملك من رجاء بيد ﺃني ﺃفشل فشلا ذريعا في نيلها. فحسب أتلقى باستسلام الألم المبرح الناتج عن انغراز السكاكين والمدى والشفرات في لحمي. أتلقاه طويلا حتى حلول اليقظة في صباح اليوم التالي وقد صارت بحيرة الدم داخل روحي ﺃكبر حجما في كل مرة.
و الآن ، من ﺃجل وضع حد فاصل بينك وبين هذه الخزانة الخلفية التي كلما فتحها لاوعي القاتل المحترف نطت من أدراجها محنته ، توجب علي ّ أن أسارع لتصور القاتل الآخر في مكمنه وهو يفتح مخطوط مصنفك القيم ، الذي ربيته صفحة صفحة ، و أودعت بين ثناياه حشدا هائلا من طرائق القتل المصطفاة بعناية فائقة من بطون القصص والروايات. أن أبين له أن بإمكانه أن يخطب أثناء جولة القراءة في كل فصل ود طريقة جديدة. أن يعبر التاريخ الدامي الذي عبرته كي تتقن كل هذه التعليمات للتفوق في المهنة. أن يقطع كل سنتمتر مربع قطعته في رحلة التعلم الشاقة هاته لإعادة ﺇعمار الأراضي الفارغة لفن القتل. أن يعيد من خلال الصور التوضيحية لضحاياك بناء الجرائم كما تجسدت في الواقع من شخوص وكلمات واستعارات وأسلحة خرجت برمتها من قمقم السطور الرهيبة ، التي ﺃثنت على هواجس الفتك الخلابة التي تقبع في الضمير الإنساني كما تقبع البكتيريا في جسد مضيف. أن ﺃجعل سياحة القراءة تحمله إلى الفصل الأخير ، الذي هو بمثابة وصية من لدنك إلى قاتل آخر كي يرسلك إلى حتفك على نحو سردي بارع وغير مسبوق ، لأن على قاتل نخبوي من طرازك حرج كبير إذا ما تلعثم في موته الخاص ، أو صار تحت طائلة الارتجال وخذلان الصدفة.
وبعد هذا ، سأغويه لارتكاب زلة القاتل التي لاتغتفر ﺃبدا ، كي يعاود السير مجددا على الجسر صوب المنزل. سيفتح خلسة باب الشقة. سيتقدم بلا صوت إلى الصالة. سيعبر بشكل غير محسوس عتبة المكتب. لن تشعر بخطواته أو أنفاسه وهي تدنو خلف ظهرك. وفي اللحظة ، التي سيطبق بالكيس البلاستيكي على عنق الدمية التي اتخذت حجمك على الكرسي ، سوف ﺃخرج من الظلام لأضع حدا لحياته ، و لأنقذك مرة أخرى من موت محقق.
قاص من المغرب
[email protected]
08-أيار-2021
17-حزيران-2009 | |
01-كانون الأول-2006 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |