سليمان دغش .. أناه جسر عبور للآخر كيف يا ماء اكتشفت السر بين الذات والمرآة
2009-06-25
غلاف كل عمل إبداعي هو قلادته, هو عتبته ومفتاح البيت. حين يكون العمل الإبداعي منسجما في دلالاته؛ يحملك الغلاف إلى الكتاب, إلى عطره
و كنوزه الداخلية. من هنا فالغلاف هو شفرة, هو رؤية لغوية بصرية وتشكيلية. وغلاف الديوان الأخير للشاعر الفلسطيني سليمان دغش هو بوابة مثيرة لأجوائه الداخلية الخصبة, ونحن نقرا صفحاته, صفحة, صفحة, نحس أن المعاني والصور رغم عمقها, وثرائها, وانتمائها إلى عالم فلسفي شديد التركيب والرمزية,سبقتنا وعبرت عن نفسها عبر الغلاف.
عنوان الديوان يتكون من ضمير واحد هو « أنا» هذه « الأنا « مفتوحة هنا على كل الاحتمالات, هي واحدة, ومستقلة بذاتها, ليست معطوفة, ولا مضافة, ولا مجرورة, ولا مكملة, ولا مكمل بها, هي تقف شامخة في وجه الريح وأسئلة القارئ , هي أيضا غير معرفة, هي نكرة لأنها تضم عشرات الانوات المعرفة .الأمر لا يعبر عن تضخم نرجسي, كما قد توهم بذلك القراءة العابرة, إنها الأنا المرآة:»أنا» الذات الفردية في التحامها بالذات الجماعية في خطاب فلسفي وفكري وصوفي متفرد.
عن أي ذات ؟ عن أي جماعة نتحدث ؟
سليمان دغش هو شاعر عربي / فلسطيني, ينتمي إلى طائفة الموحدين الدروز إحدى طوائف الإسلام الإسماعيلية, تلك ثقافته, وذلك انتمائه, والدروز هم أصحاب رؤية فلسفية للحياة مفتوحة على الفلسفة اليونانية والإسلامية وفلسفات لثقافات أخرى موغلة في التاريخ, من داخل منظومتهم الفكرية هذه يؤمنون بفكرة الإمام الذي سيخلص البشرية وهم في حالة انتظار دائم له .الإمام هنا ليس مجرد شخص, انه ذات تقف في حالة استثنائية بين الحضور الفيزيقي الغائب, والحضور الفلسفي والروحاني الدائم .انه الدليل والضوء والفرحة القادمة, من هنا فضمير» أنا» يرمز للذوبان بين ذات الشاعر وذات الإمام.
الشاعر هنا هو الإمام, والإمام هو الشاعر, ليس هناك جسور ولا حدود بينهما بقدر ما هو ذوبان حقيقي أشبه بالحلول في فلسفة المتصوفة.
في موسوعة ويكبيديا العالمية نقرأ عن «الدروز» «شعار الدروز نجمة خماسية ملونة ترمز ألوانها إلى المبادئ الكونية الخمسة « العقل/ الأخضر, النفس/ الأحمر, الكلمة /الأصفر, القديم أو السابق/ الأزرق, والوجود أو التالي/ الأبيض, هذه المثل تمثل النفوس الخمسة التي تتقمص بشكل مستمر في الكون في شخص الأنبياء والرسل والفلاسفة بما فيهم ادم»
نحن أمام حساسية استثنائية, خاصة, وخصبة في التعامل مع الألوان باعتبارها رموزا بمعاني وجودية كبيرة. فاللون يعكس فلسفة و رؤيا تلاحم معها الديوان منذ الغلاف في انسجام مع فلسفة اللون للثقافة التي يحملها الشاعر. كل ظل للون في الديوان جاء واعيا بذاته, عاكسا كالمرآة لروح الديوان ونبضات قلبه.
كتب اسم الشاعر مع ضمير» أنا» وهي عنوان الديوان باللون الأبيض الذي هو رمز للوجود والتالي أي المستقبل. النقطة في ضمير» أنا» جاءت باللون الأحمر, وتزين ألفها خطوط حمراء. وتحت ضمير» أنا» كتب اسم الشاعر بالحروف اللاتينية بلون احمر الذي هو النفس أي الروح. نقطة النون في ضمير»أنا» هي محور وقاعدة الضمير, تماما كما هي الروح جوهر الإنسان. الهمزة في ضمير» أنا» كتبت بالأصفر الذي يعني الكلمة. بهذه الأبعاد تصبح «الأنا « روحا وكلمة للمستقبل, تسبح داخل فضاء العقل في قوته ووهجه, بينما غاب عن الغلاف اللون الأزرق الذي هو القديم والسابق, بما يحمل إشارة إلى الاندفاع نحو الأمام والتطلع للمستقبل, وهذه إشارة ذكية جدا من مصمم الغلاف,لأن الإمام في هذه الفلسفة هو سابق ولاحق, هو الامتداد للحياة في كل عصورها. كان في السابق ليجيء في اللاحق/ المستقبل.
صورة الغلاف عبارة عن وجه الشاعر نصفه ظاهر ونصفه متخف. يطغى عليها اللون الأخضر بشقيه الغامق والفاتح, الجزء الخفي لوجه الشاعر هو الإمام فيه, وجزءه الآخر هو صورته, لتعكس الصورة بدورها التلاحم بين الشاعر والإمام, بين الخفي والظاهر, بين الحضور والغياب, وحيث ان اللون الأخضر يرمز إلى العقل في الفلسفة الدرزية, فان الجزء المتخفي من صورة الشاعر تشمل الأخضر الغامق أي الأخضر القوي,بما يعبر عن العقل.
وعلى هذا الجانب الخفي من الصورة كتب ضمير» أنا» فأنا الشاعر ترمز للإمام وللعقل, يقول سليمان سليم علم الدين عن العقل عند الدروز في كتابه» دعوة التوحيد الدرزية / المدارس الفكرية والتيارات الفلسفية « العقل عند الموحدين الدروز هو دين يقدسونه ويبنون جل عقائدهم عليه و فهو المخلوق الأول للقدرة الإلهية ,علة العلل والمرجع الأول والوحيد في أعمالهم وتصرفهم الديني والدنيوي «1
بهذا المعنى فالعقل عند الدروز هو قوة روحية مجردة مرتبطة بالتجلي الأول الذي هو بداية تشكل الكون, بعد هذا التجلي أبدع الله العقل, ومن فيض نور العقل تكون الكون, لذلك جاء ت الهمزة في ضمير « أنا « بالأصفر وكتب الضمير كله بالأبيض الذي هو الوجود والتالي, فالوجود في ابعاده المستقبلية يشكله « الأمام» الذي سيأتي ليخلص البشرية في دور شبيه بدور المهدي المنتظر. يبدو وجه الشاعر الظاهر في اخضر قريب من الأصفر, ليحدد دوره ورموزه, حيث يقف مسافة بين العقل والكلمة, بين التفكير والإبداع, لأن التفكير جزء من العقل, والعقل بحد ذاته هو إبداع للخالق.
> تنويه:
ديوان « أنا « للشاعر الفلسطيني سليمان دغش هو تجربة صوفية متميزة وخلاقة, و التعبير عنها بالغلاف كان يتطلب تحديا واحساسا وفهما لعمق الفلسفة الدرزية, وهي فلسفة شديدة التعقيد وتتطلب قدرة كبرى على استيعاب التجريد , خصوصا وهي تلخص لاوعيا جماعيا لفئة بكاملها, من هنا اعتبر ان علاف الديوان بالشكل الذي صمم به نجح بامتياز في التعبير عن روح هذه الفلسفة, وقدم صورة وفية ومشرقة لعوالم الديوان الداخلية.
> إشارة أخيرة:
صدر الديوان عن دار نفرو للنشر والتوزيع بجمهورية مصر العربية سنة2006 وصمم الغلاف الفنان المصري كامل جغرافيك.
> هامش:
ـ1 سليم سليمان علم الدين ـ دعوة التوحيد الدرزية/ المدارس الفكرية والتيارات السياسيةـ عن دار نوفل 1998
(٭) فريدة العاطفي: شاعرة وقاصة من المغرب مقيمة بفرنسا
08-أيار-2021
سليمان دغش .. أناه جسر عبور للآخر كيف يا ماء اكتشفت السر بين الذات والمرآة |
25-حزيران-2009 |
20-كانون الأول-2008 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |