قرائن تلقين الصمت: قضية الحجاب من وجهة نظر النساء
2009-07-29
على الرغم من تبني الكثير من الدارسين لتصنيف الناقدة المغربية رشيدة بن مسعود الذي يختصّ باعتبار مرحلة النهضة العربية الثانية مرحلة تأنيث قضية المرأة، من جهة دخول القلم النسائي إلى ميدان الصراع وتحول المرأة من موضوع لكتابة الرجل في مرحلة النهضة الأولى إلى ذات فاعلة في الثانية، إلا أن المعطيات الآنية تكاد تقنعنا بأن الزمن عاد وكأن شيئاً لم يحدث خلال مئة سنة من عمر الفكر العربي والنضال من أجل تحرير المرأة، فعادت النقاشات حول تفسيرات النص الديني تتكرر بصيغة أقل جرأة وغوصاً في المحرم من ذي قبل، وعادت الآراء المغالية في التحجب وصولاً إلى التنقّب تسيطر على السطح الإعلامي، حين ظنت النساء أنهن تخلصن منها منذ نهايات النصف الأول من القرن العشرين. وإذا أعدنا النظر قليلاً في المرحلة الثانية من تاريخ النهضة العربية، والتي تبدأ منذ أول العشرينيات من القرن العشرين وحتى أواخر الأربعينيات أو أوائل الخمسينيات منه، فقد كانت الطبقات البرجوازية والأرستقراطية السابقة قد أخذت سدة الحكم في الكثير من البلدان العربية، وانفتحت على الحياة الغربية بحكم أوضاعها المادية والاجتماعية المرفهة وقلدتها إلى حدّ بعيد، هذا ما أثّر بشكل إيجابي في تطوير تلك الطبقات، وبالتالي في تطوير بقية طبقات المجتمع العربي وأوضاع النساء المتردية بشكل خاص. فبدأت بنات الطبقات العليا تلك يتعلمن، وكذلك بنات أوساط المتعلمين والمثقفين، وبدأن كذلك بالخروج سافرات، ودخلن الحياة الثقافية والاجتماعية، كما كثر نسبياً افتتاح المدارس الحكومية للإناث، مما أدى إلى تشكل نمط جديد للمرأة المتعلمة والفاعلة. وعلى الرغم من أن مسيرة النساء العربيات وفاعليتهن منذ ذلك الوقت وحتى اليوم تغيّرت كثيراً واختلفت أنماطهن من نساء محصورات في الطبقات العليا المتأثرة بالغرب إلى أدنى الطبقات مادياً مروراً بالوسط يساره ويمينه، إلا أن قضايا المرأة مازالت حتى اليوم، خصوصاً في الميادين النظرية والفكرية، تبدو أكثر وضوحاً في كتابات الرجل منها في كتابات المرأة، وعلى الرغم من إعمال الأقلام في قضية الحجاب في العقود القليلة الماضية حتى لا تكاد تخبو كتابة حتى تظهر أخرى موقظة العملاق السلفي، سواء أكانت فتوى من شيخ سلفي أو تصريح لرجل دولة أو حادثة تمس قدسية الأمر، إلا أن اللافت للنظر أن خطاب الرجل هو المسيطر على الطاولة، سواء أكان ضد الحجاب أم معه. وكي لا أعمي نظري عن أن الحجاب أضحى قضية مفصلية وجوهرية في الإسلام حتى تحول إلى ما يشبه هوية إسلامية، وهوية طائفية كذلك، حتى يبدو وكأن الإسلام تمحور حوله، إلا أنه أمر يخصّ النساء ظاهرياً على الرغم من كل شيء، والنساء هن اللواتي يحملن مسؤولية القيام بذلك الفعل الإشاراتي وتنفيذه، وربما كان جديراً بنا أن نعرف وجهات نظرهن في تلك القطعة الصغيرة من القماش، التي لم تبق كذلك أبداً، والتي حرفت تاريخ المسلمات وربما تاريخ الفكر الإسلامي برمته في بقاع كثيرة من العالم.
مؤخراً أصدرت رابطة العقلانيين العرب ودار بترا في سوريا أحد كراسات الأوان وهو بعنوان: المرأة وحجابها، وعلى الرغم من أهمية الكتاب لجهة نزعته التنويرية بالدرجة الأولى ولاختلاف مستويات الطرح وتلون زوايا الرؤية فيه إلا أننا سنلاحظ أن 12 كاتباً عربياً في الكراس يطرحون رأيهم في الحجاب يقابلهم أربع نساء عربيات فقط، وعلى الرغم من أهمية الملاحظات الذاتية والتجارب الغنية التي قدمتها كل من منهل السراج ومها حسن وعفاف المطيري إلا أن رجاء بن سلامة هي الكاتبة الوحيدة التي دخلت في بحثيها نقاشاً فكرياً وفقهياً نظرياً عميقاً فيما يخصّ مسألة الحجاب. ويمكننا أن نتخيل أننا نتحدث عن منبر علماني وجود المرأة فيه رغبة وضرورة، فما الذي يمكننا أن نقوله عن عموم المجتمع الإسلامي الذي ينظر إلى وجود المرأة برمتها بتذمر فما بالنا برأيها ونقاشها وارتفاع صوتها؟!
سيبدو في نظرة بدئية أن ردات الفعل النسائية على قضية الحجاب كفاعلية نظرية، لجهة النقاشات الفكرية والتفسيرات الفقهية، هي الأخفت والأكثر خجلاً وتعتيماً، ربما بسبب ضرورة التراكم الثقافي والمعرفي الذي ينبغي أن تتسلح به المرأة في مقارعة الباحثين والمفكرين والفقهاء من الرجال، الأمر الذي ما زال محصوراً في أسماء وأقلام نسائية عربية قليلة خصوصاً إذا تذكرنا أن عمر الكتابة الفكرية النسائية العربية لم يتجاوز ثمانين عاماً. لكن الفاعلية العملية التي تجلت على الصعيد الاجتماعي التوعوي في محاولات أولى لنزع الحجاب، ومن ثم في محاولات حثيثة لتفكيك فكرة الحجاب والتحجب ميدانياً عبر العمل بين صفوف النساء، كانت هي الفاعلية النسائية الأكثر تأثيراً ووضوحاً في العمل النسائي العربي، أما الفاعلية الثالثة التي جمعت بين الأمرين معاً، أي المحاولات النسائية لتوثيق التجارب والمعاناة التي تخوضها النساء في الحجاب عبر نصوص نظرية، فهو الأمر الذي يبدو لي أكثر جدوى وتأثيراً، وستبدو كتب : تسعة أجزاء للرغبة وترجم بعنوان: الأنوثة الإسلامية، من الأمثلة المهمة في هذا الشأن. وهذه الطريقة التوثيقية التسجيلية بشحنة درامية ونظرية، وعلى الرغم من كونها عنوان للموجة النسوية الثالثة الملونة والمسيطرة على العالم اليوم، ما تزال قليلة في المنتج النسائي العربي ومن طراز كتاب الإيرانية شاهودوت جيفان فلينزع الحجاب، وكتاب الإنكليزية جيرالدين بروكس الذي عنوانهمنها ما كتبته وعمل فاطمة المرنيسي في كتابها المهم: ما وراء الحجاب، كما بعض كتابات نوال السعداويالمجلات والدوريات النسائية مثل الكتاب الدوري اللبناني: باحثات على سبيل المثال لا الحصر.
بالنسبة للقسم العملي التطبيقي فستبدو نساء اليوم مخلصات لجداتهن المصريات الرائدات هدى شعراوي ونبوية موسى وعائشة التيمورية وزبيدة المغربي أيما إخلاص، ويبدو العمل المدني النسائي في كثير من البلدان العربية نشاطاً فاعلاً ومجدياً وخلاقاً، حيث تفعيل المرأة وتمكينها وإزالة العوائق في وجه عملها وتفكيرها وحضها على المطالبة بحقوقها المدنية والحقوقية والاجتماعية والسياسية وحتى التشريعية جزء أساسي من قضية حجابها. ومن المعروف أن ذلك التاريخ بدأ في مصر حين كانت النهضة المصرية تسبق نهضة بلاد الشام بزمن، وقد تجلى نشاط أولئك الرائدات، وأكثرهن هدى شعراوي، أكثر ما تجلى على الصعيد الاجتماعي الخيري، وخاصة على الصعيد التنظيمي وتوعية النساء، أكثر بكثير مما تجلى على صعيد الكتابة، بل كانت كتاباتهن ملحقة أو تابعة لنشاطهن العملي. والأهم أن نشاطهن تجلى في محاولات واضحة وشجاعة للوقوف في وجه السائد، حين كانت شعراوي أول من ارتدى الزي الشرعي كاشفة وجهها في الوقت الذي كانت فيه أم المصريين صفية زغلول زوجة سعد زغلول لا تجرؤ على ارتدائه كي لا تثير الشارع المصري ضدها وضد زوجها. بالإضافة إلى إصرار شعراوي على أن تكون من أول النساء العربيات اللواتي سافرن إلى أوروبا بمفردهن للمشاركة في المؤتمرات النسائية العالمية باسم اتحاد نساء مصر. وثمة حادثة تاريخية معروفة أعتقد أنها سجلت انعطافاً في حياة المرأة العربية الحديثة عموماً، لم تصنعه عشرات الأبحاث والخطب، وذلك حين رفعت عضوات الوفد المصري إلى مؤتمر روما حجابهن لأول مرة أمام الجموع المحتشدة لاستقبالهن في الميناء، وهن سيزا نبراوي وريجينا خياط وإستر ويصا إضافة إلى الرئيسة هدى شعراوي، وظهرن سافرات الوجه كخطوة أساسية نحو الحرية.
أما الحجاب كقضية نظرية، وأخص بذلك الأبحاث العلمانية أو الإسلامية المتنورة التي تقارع الفكر السلفي سواء أكانت أبحاثاً فقهية لإعادة تفسير النصوص الدينية أم أبحاثاً فكرية تفكك قضية الحجاب، فقد ظلت الأقلام النسائية قليلة في ذلك الميدان حتى اليوم، وكتتويج لرأي المرأة المثقفة تاريخياً تظهر اللبنانية نظيرة زين الدين التي كتبت وهي في التاسعة عشر كتابها الشهير: السفور والحجاب في سنة 1928. وربما أمكننا أن نعتبرها من الشخصيات النسائية القليلة في التاريخ العربي الحديث التي برعت في مجال التفسير الديني، حيث كان هذا الحقل، ومازال إلى حد بعيد، حكراً على الرجال بالعموم. ذلك أن معاصراتها من النساء الكاتبات لم يستطعن أن يصلن إلى عمقها وجرأتها. من أهم مميزات نظيرة زين الدين أنها تناولت طرائق التفسير غير المكرسة، حيث أعتيد على مناقشة قضية الحجاب ومعظم القضايا الفقهية الأخرى اعتماداً على المراجع السنية، فنظيرة تعدّ ممثلة لتيار التجديد الإسلامي الذي كان يحاول أن يساير العصر المتقدم في تفسير القرآن، ويحاول ألا يزج الدين في قوالب مغلقة، هي التلميذة الفكرية لعدد من المتنورين كمحمد عبدو وقاسم أمين. أجهرت زين الدين بأن الإسلام لم يشرع الحجاب حين قامت بإعادة تفسير الآيات القرآنية الأربع التي يقول الفقهاء المسلمون أنها أقرت الحجاب للمرأة المسلمة، ورأت أن كل القراءات تلك خاطئة وأن السفور حق طبيعي والحجاب عادة وثنية، وأن الله لو أراد للمرأة أن تنزوي في البيت وتغطي وجهها ولا تختلط بالناس لقال هذا بشكل واضح في القرآن. لكن المظاهرات سيقت ضدها ووصلت إلى بيت والدها الشيخ والقاضي الدرزي وراح المتظاهرون يرشقون البيت بالحجارة، ثم راحت المقالات تشتمها والشيوخ يكفرونها حتى نشرت بعد سنة من نشر كتابها الأول كتاباً أسمته: الفتاة والشيوخ صدر سنة 1929، جمعت فيه كل ما كتب ضدها وردودها على ذلك.
لكن المشهد العربي يبدو مختلفاً كلياً في العقود الأخيرة، فانفتاح الآراء والممارسات التي تقول بالسفور ومشاركة المرأة في العمل والحياة العامة ومساواتها مع الرجل عمّق بالاتجاه الآخر آراء وممارسات الجانب السلفي الذي ينادي بالحجاب والتحجب والتنقب وعدم اشتراك المرأة في أي جانب من جوانب الحياة إلا الجلوس في بيتها، كما ازداد الاصطدام العنيف في التعامل مع الآراء المضادة، فآمن الجانب السلفي بحقه في تصحيح ما يراه خاطئاً متهتكاً وماجناً في آراء المنفتحين من المفكرين والكتاب، ليس العلمانيون منهم فحسب بل وحتى المسلمون المتنورون، وصاروا مؤمنين أكثر بأن إبادة ثقافة ما تبيح إبادة الأجساد الحاملة لها أو الأجساد التي تنتج هذه الثقافة، فصار الجسد المنتج للفكر والكتابة هو الذي يتعرض مباشرة للتصفية كمقدمة لتصفية الثقافة، والأمثلة كثيرة على ذلك من المفكر الليبي صادق النيهوم إلى المفكر المصري فرج فودة ولو لم يعلن سيد محمود القمني اعتزاله إلقاء المحاضرات والكتابة والبحوث، إثر تلقيه التهديد الأخير، لكان لحق بهم. وأعتقد أن هذا الأمر ساهم إلى حد بعيد في تقزيم وتحجيم الكتابات التي تقارع فكرة الحجاب. وربما راح يقنع الكثير من العلمانيين المؤمنين بالإصلاح الديني وبتغيير الإسلام من داخله بأن حل المشكلة يشبه إلى حد بعيد ما فعلته أوروبا الحديثة حين عملت على فصل الدين عن الدولة.
من الأقلام النسائية المعروفة التي كتبت حول قضية المرأة وحول قضية الحجاب كجزء أو ككل كانت نوال السعداوي، التي وضعت المرأة في تأسيسها العلمي في القطب المقابل للرجل وكأنها تعيد إنتاج العداء الذكوري للأنثى في عداء أنثوي للرجل، على الرغم من إيماني بأهميتها الحقيقية كحلقة ضرورية في تطور الفكر النسوي العربي، وأعتقد أن أهم كتاباتها هي التي تندرج ضمن الدراسات السيسولوجية والسيكولوجية العلمية والتي تكشف جوانب من المسكوت عنه في المجتمع المصري والعربي البالي، أما الباحثة المصرية سلوى الخماش فدرست قضية المرأة طبقياً ضمن إطار البنية الاجتماعية الاقتصادية للمجتمع، وستبدو فاطمة المرنيسي من الباحثات القليلات في المشهد العربي اللواتي اشتغلن على قضية الحجاب تفسيرياً، والتي قد تشكل امتداداً نظرياً لتفسيرات جدتها نظيرة زين الدين، إلا أن المرنيسي اقتصرت في تفسيراتها على المصادر السنية للتشريع دون أية مصادر فقهية أخرى. وهي ترى في كتابها: الحريم السياسي- النبي والنساء، أن الحجاب نزل لفصل رجلين هما أنس بن مالك والرسول لحماية حياة الرسول الخاصة، وفي دراسة للفظة الحجاب لغوياً ترى أن مفهوم الحجاب ثلاثي الأبعاد، بعد بصري وهو الحجب عن النظر (الإخفاء)، وبعد فراغي وهو الفصل أو إقامة حاجز، وبعد ثالث وهو بعد أخلاقي يختص بالتحريم والمحرم، وقد بدأ الحكام الأمويون عادة حجب أمير المؤمنين عن المسلمين فكان معاوية وورثته منفصلين عن بطانتهم بستار، فيما الحجاب في المصطلحات الصوفية سلبي المعنى حيث أعيق المحجوب عن تبصر النور الإلهي في قلبه، فيدعو بعضهم قائلاً: اللهم مهما عذبتني بشيء فلا تعذبني بذل الحجاب. وتفسر المرنيسي آية الجلباب بالطريقة ذاتها التي فسرها بها المتنورون من قبلها من أنها طريقة جديدة للباس للتمييز على المستوى الإشاري (الحركي). وإذا كان الحجاب جواباً على اعتداء جنسي تعرضت له النساء قبلاً في الطرقات فإنه في الوقت نفسه مرآته، إنه يركز ويعكس هذا الاعتداء بالاعتراف أن جسد الأنثى عورة. ففي منطق الحجاب حل قانون الاغتصاب القبلي محل عقل المؤمن، الذي أكد عليه رب المسلمين كأمر لا بد منه كي يميز بين الخير والشر، حيث الحجاب انتصار للمنافقين، وانتصار للفكر الجاهلي الذي أصيب بصدمة بعد أن نزلت آية الميراث، وبالتالي كان حل عمر بحجب النساء بدلاً من تغيير العقول. وسيستمر هذا الانتصار برأي المرنيسي بعد الإسلام، وينعكس على الفرد الحديث ودوره في المجتمع. فكل نقاش حول الديمقراطية سوف يمر بها، بهذه القطعة الصغيرة والمضحكة من النسيج التي غالباً ما تكون من الموسلين الناعم والتي يطالب بها الأصوليون في أيامنا كما لو أنها جوهر الهوية الإسلامية ذاتها.
هناك اليوم أقلام نسائية اختارت الكتابة سبيلاً للنضال، سواء أكانت كتابة إبداعية أم فكرية أم اجتماعية، كالنساء اللواتي ذكرتهن مضافاً إليهن على سبيل المثال المصرية إقبال بن بركة في كتابها الحجاب رؤية عصرية، وهناك بالتأكيد أسماء نسائية عربية عملت على المسألة لم يقيض لي أن أطلع عليها، وهذا السبيل، أي الفعل الكتابي، هو السبيل الأصعب والأكثر حاجة إلى التسلح بأدوات معرفية تستطيع من جهة أن تكون ندية لأدوات المفكرين والباحثين الرجال، العلمانيين منهم أم المتنورين، وتستطيع من جهة ثانية أن تقارع الشيوخ والفتاوى وكل ذلك الجانب السلفي الممتد والمكشر عن أنيابه.
عن موقع الأوان
08-أيار-2021
09-تشرين الثاني-2019 | |
15-كانون الثاني-2013 | |
07-تشرين الأول-2012 | |
04-تشرين الأول-2012 | |
28-آب-2012 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |