يسوع الثائر وموقفه من اليهود واليهودي
2009-08-01
تطرح شخصية يسوع في الأناجيل الأربعة نموذجاً للثوري الذي جاء ليعلن نهاية عالم قديم، وتأسيس عالم جديد يتحقق في المثالي باعتباره واقعاً واليوتوبيا باعتبارها حالة يمكن أن نحياها. قال يسوع: "روح الرب نازل عليّ، لأنه مسحني وأرسلني عودة البصر إليهلأبشِّر الفقراء، وأبلغ المأسورين إطلاق سبيلهم، والعميان (والعميان هنا هم الراسخون في ظلمات الجهل، لا عميان البصر.) م، وأفرِّج عن المظلومين." (لوقا: 8:4). وقال: "تعالوا إليَّ يا جميع المتعبين والمثقلين بالأحمال وأنا أريحكم. احملوا نيري عليكم وتعلموا مني، لأني وديع ومتواضع القلب، فتجدوا راحة نفوسكم." (متَّى: 28-29).
لقد كانت رسالة يسوع موجهة بالدرجة الأولى إلى الشرائح الاجتماعية الدنيا المتعبة والمعذبة، وكان راعياً للحرية والعدل والمساواة، ولم يلقَ الأغنياء منه أي تعاطف، بل لقد طالبهم بالتخلِّي عن ممتلكاتهم وتوزيعها على المحتاجين، فقد قال لغني أراد الانضمام إلى رفاق يسوع: "إذا أردت أن تكون كاملاً فاذهب وبع ما تملكه وتصدق به على الفقراء… لأَن يدخل جمل في سَم الإبرة أيسر من أن يدخل الغني ملكوت السماوات. " (متى: 21:19-4- جميع مقتبسات العهد القديم في هذه المقالة مأخوذة عن الترجمة الكاثوليكية الجديدة.). وقال: "الويل لكم أيها الأغنياء فقد نلتم عزاءكم، الويل لكم أيها الشِباع فسوف تجوعون، الويل لكم أيها الضاحكون الآن فسوف تحزنون وتبكون." (لوقا: 24:6-25).
انطلاقاً من هذا الالتزام الاجتماعي فقد فضل يسوع الالتفات إلى الأفراد المنبوذين والمهمشين والخاطئين. ولما رأى منه بعض الكتبة من الفريسيين ذلك قالوا لتلاميذه: لماذا يؤاكل الخاطئين والعشارين؟ فسمع يسوع كلامهم فقال لهم: "ليس الأصحاء بمحتاجين إلى طبيب بل المرضى. ماجئت لأدعو الأبرار بل الخاطئين." (مرقس: 16:2-17). وقال لهم في مناسبة أخرى: "إن العشارين والزواني يسبقونكم إلى ملكوت الله. جاءكم يوحنا المعمدان سالكاً طريق البر فلم تؤمنوا به، وآمن به العشارون والزواني، وأنتم رأيتم ذلك فلم تندموا وتؤمنوا به ولو بعد حين." (متى 31:21-32).
من هنا جاءت سخرية يسوع من السلطة، وحضه على إلغاء المراتبية الاجتماعية. فعندما وقع جدال بين تلاميذه في من يُعد أكبرهم قال: "إن ملوك الأمم يسودونها، وأصحاب السلطة فيها يريدون أن يُدعَوا محسنين. أما أنتم فليس الأمر فيكم كذلك، بل ليكن الأكبر فيكم كالأصغر، والمترئس كالخادم." (لوقا: 24:22-26). وقد ضرب لهم مثالاً في المساواة وتواضع الكبير عندما كان يتناول معهم العشاء الأخير. فقد "قام عن العشاء فخلع رداءه وأخذ مئزرة فائتزر بها، ثم صب ماء في مطهرة وشرع يغسل أقدام تلاميذه… فلما غسل أقدامهم ولبس رداءه وعاد إلى المائدة قال لهم: أتفهمون ما صنعت إليكم؟ أنتم تدعونني معلماً وسيداً، وأصبتم فيما تقولون فهكذا أنا. وإذا كنت أنا المعلم والسيد قد غسلتُ أقدامكم، فيجب عليكم أيضاً أن يغسل بعضكم أقدام بعض. فقد جعلتُ لكم من نفسي قدوة لتصنعوا ما صنعت إليكم." (لوحنا 5:13-15).
ولقد أدان يسوع سعي البشر المحموم إلى مراكمة الثروات والإقبال على الاستهلاك: "فلا تهتموا فتقولوا ماذا نأكل وماذا نشرب، فهذا كله يطلبه الوثنيون. وأبوكم السماوي يعلم أنكم تحتاجون هذا كله. فاطلبوا الملكوت وبرَّه قبل كل شيء، تُزادوا على هذا كله." (متى 31:6-33). وقد طبق يسوع هذا على نفسه قبل أن يدعو الآخرين إليه، فترك أسرته وبيته في سبيل دعوته، وراح يتجول في القرى والبلدات غير آبه بما يأكل أو يشرب أو يلبس: "وبينما هم سائرون قال له رجل في الطريق: أتبعك حيث تمضي. فقال له يسوع: للثعالب أوجرة ولطير السماء أوكار، أما ابن الإنسان فليس له ما يضع رأسه عليه." (لوقا: 57:9-58).
مثل هذا الانقلاب الشامل على القيم التقليدية لن يحصل بيسر وسهولة، ولا بد من الصراع بكل عنف وشراسة، لأن حركة يسوع هي حركة راديكالية من شأنها تمزيق المجتمع القديم تمهيداً لإحلال المجتمع الجديد. قال يسوع: "لا تظنوا أني جئت لأحمل السلام إلى الأرض. ما جئت لأحمل سلاماً بل سيفاً." (متى 34:10-35). والعالم القديم يجب أن يحترق ليخرج من رماده العالم الجديد: "جئت لألقي على الأرض ناراً، وكم أرجو أن تكون قد اشتعلت." (لوقا: 49:12).
ولقد تمثل المجتمع القديم وقيمه في الوثنية التقليدية التي فقدت روحها خلال الفترة الهيلينستية، وفي اليهودية وشريعتها البالية، التي تكمن خصوصيتها في أنها شريعة طقوس ترمي بالدرجة الأولى إلى تأسيس الطرائق التي يُحب الإله يهوه أن يُبجَّل بها، ونوع الأضاحي المقربة إليه، والحفاظ على السبت، والاحتفالات الدينية الدورية، وتحديد ما يجوز وما لا يجوز في كل مناحي الحياة حتى زادت القواعد التي تقيد حياة اليهودي وسلوكه اليومي عن الستمئة قاعدة.
لقد كان الشغل الشاغل لليهود خلال القرون الخمسة السابقة للميلاد، وهي فترة تشكُّل العقيدة التوراتية، هو الحفاظ على تفردهم الديني بأي ثمن. وهذا ما أدى إلى إنتاج ظاهرتين مهمتين في الحياة الدينية اليهودية، أولاها التنظيم الكهنوتي، والثانية الحرص على الالتزام بالشريعة التي اعتُبرت حاجزاً يفصل اليهود عن بقية الأمم، وحارساً على إيمان إسرائيل. ولكن يسوع هدر ركني السلطة اليهودية هذين، أي الشريعة وحراسها من الكهنة والكَتَبة، والناموسيين (= علماء الشريعة)، والفريسيين الذين يمثلون النخبة المتعلمة من المجتمع اليهودي.
يسوع والشريعة:
على أن من يقرأ الإنجيل للمرة الأولى، ويُعجب بهذا الانقلاب الشامل الذي أراده يسوع، يدهش من أقوال له ترسخ القديم وتكرسه. فقد ورد في إنجيل مَتَّى قوله: "لا تظنوا أني جئت لأبطل كلام الشريعة والأنبياء. ماجئت لأبطل بل لأكمِّل. الحق أقول لكم إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الشريعة حتى يتم كل شيء. فمن خالف وصية من أصغر تلك الوصايا وعلّم الناس أن يفعلوا مثله عُدَّ صغيراً جداً في ملكوت السماوات، وأما الذي يعمل بها ويُعلّمها فذاك يُعد كبيراً في ملكوت السماوات." (متى 17:5-19).
فهل كان يسوع نبياً يهودياً أخذ على عاتقه ترسيخ شريعة العهد القديم، أم كان صاحب رسالة جديدة تبطل الشريعة اليهودية الضيقة وتؤسس لعهد جديد بين الله والبشرية، يتجاوز العهد القديم بين يهوه وشعبه الخاص؟ في الحقيقة إن كل أقوال يسوع وأعماله التي تُفصلها الأناجيل الأربعة، تدل على تجاوزه لشريعة موسى، شريعة الحرف، وتأسيسه لشريعة الروح. قال يسوع في إنجيل يوحنا: "لم يعطكم موسى خبز السماء، بل أبي يعطيكم خبز السماء الحق، لأن خبز الله هو الذي ينزل من السماء ويعطي العالم حياة… أنا خبز الحياة. آباؤكم أكلوا المنَّ في البرية وماتوا. هوذا الخبز النازل من السماء ليأكل منه الإنسان فلا يموت. أنا الخبز الذي نزل من السماء." (يوحنا: 32:6-51). وبذلك يستبدل يسوع شريعة موسى العتيقة التي وهبت الموت، بشخصه الحي الذي يهب الحياة الأبدية.
وهو لا يتجاوز موسى فقط وإنما يتجاوز كل شخصيات العهد القديم الدينية وصولاً إلى الأب الأول إبراهيم. فقد قال لليهود: "ابتهج أبوكم إبراهيم على رجاء أن يرى يومي، ورآه ففرح. قال له اليهود: أرأيت إبراهيم وما بلغتَ الخمسين بعدُ؟ فقال يسوع: الحق أقول لكم، كنت قبل أن يكون إبراهيم." (يوحنا: 56:8-58). وبهذا القول يتجاوز يسوع التاريخ اليهودي بأكمله، والذي يبتدئ بإبراهيم، ويجعل من نفسه مؤسساً لحركة روحية جديدة. وفي مقابل القول الذي نسبه إليه متى: "إلى أن تزول السماء والأرض، لا يزول حرف واحد أو نقطة من الناموس." نجده يقول: "الأرض والسماء تزولان وكلامي لايزول." (متى: 36:24).
في مطلع حياة يسوع التبشيرية، أعلن يسوع موقفه الواضح من شريعة العهد القديم. فعندما مرَّ وتلاميذه بين الزروع في يوم السبت، أخذ التلاميذ يقطفون السنابل ويأكلون منها. فقال له الفريسيون: انظر لماذا يفعلون في السبت ما لا يحل؟ فقال لهم: إن السبت جُعل لأجل الإنسان، وما جُعل الإنسان لأجل السبت." (مرقس 23:2-28). وبذلك أخلَّ يسوع ببند من أهم بنود الشريعة، كان منتهكه يستحق الموت، على ما ورد في سفر الخروج 14:31. وقد دخل يسوع أيضاً في يوم سبتٍ أحد مجامعهم وكان فيه رجل يده مشلولة. وكان الفريسيون والكتبة يراقبونه ليروا هل يشفيه في السبت. فعلم يسوع أفكارهم فقال لهم: "أسألكم أعَمَلُ الصالحات يحل في يوم السبت أم عمل السيئات؟ أتخليص نفس أم إهلاكها؟ ثم أجال الطرف فيهم جميعاً وقال له: امدد يدك، فمدها، فعادت صحيحة.". وفي حادثة شفاء أخرى، أخذ اليهود يشغبون على يسوع لأنه عمل في يوم السبت، وسمح للمريض الذي شفاه أن يعمل أيضاً عندما قال له: قم احمل سريرك وامش. فقال يسوع لليهود جملة تحمل كل معاني السخرية من مفهومهم عن السبت: "إن أبي ما يزال يعمل، وأنا أيضاً أعمل." (يوحنا 16:5-17).
وقد ثار يسوع على مفاهيم الطهارة الشرعية التي تركز على الطهارة الظاهرة وتنسى الطهارة الحقيقية طهارة الباطن. فقد اجتمع لديه بعض الفريسيين والكتبة الآتين من أورشليم، فرأوا بعض تلاميذه يأكلون دون أن يغسلوا أيديهم، فسألوه: "لماذا لا يجري تلاميذك على سُنَّة الشيوخ، بل يتناولون الطعام بأيدٍ نجسة؟ فقال لهم: ليس ما يدخل الفم ينجس الإنسان بل ما يخرج من الفم هو الذي ينجس الإنسان. ألا تدركون أن ما يدخل الفم ينزل إلى الجوف ثم يخرج في الخلاء، وأما الذي يخرج من الفم فإنه ينبعث من القلب، وهو الذي ينجس الإنسان. فمن القلب تنبعث مقاصد السوء والقتل والزنى والفحش والسرقة وشهادة الزور والنميمة. تلك هي التي تنجس الإنسان. أما الأكل بأيدٍ غير مغسولة فلا ينجس الإنسان." (متى 1:15-20). وفي تعليق مرقس على الحادثة نفسها، يقول بأن يسوع في رده على الفريسيين قد جعل الأطعمة كلها طاهرة. (مرقس 19:7).
وقد عبَّر يسوع عن تخفيفه من أثقال الشريعة اليهودية التي لا يطيقها إنسان بقوله: "تعالوا إليَّ جميعاً أيها المرهقون والمثقلون فإني أريحكم. احملوا نيري وتتلمذوا لي، أنا الوديع المتواضع القلب، تجدوا الراحة في نفوسكم، لأن نيري لطيف وحملي خفيف." (متى 28:11-30). وهذه الحرية من الشريعة هي التي أكثر بولس الرسول من الحديث عنها في رسائله. فقد قال على سبيل المثال في الرسالة إلى أهالي غلاطية: "فاثبتوا إذاً في الحرية التي حررنا المسيح بها، ولا ترتبكوا أيضاً بنير العبودية. ها أنا بولس أقول لكم إنه إذا اختتنتم لا ينفعكم المسيح شيئاً… لأنه في المسيح لا الختان ينفع شيئاً ولا الغرلة، بل الإيمان العامل بالمحبة." (1:5-6).
وقد شبه يسوع شريعة القلب والمحبة بالخمرة الجديدة التي لا تقبل الاحتواء في زِقاق قديمة (جمع زق وهو القربة الجلدية) هي قوالب شريعة الحرف. فقد سُئل يسوع: "لماذا يصوم تلاميذ يوحنا وتلاميذ الفريسيين ولا يصوم تلاميذك؟ فقال لهم: أيستطيع أهل العرس أن يصوموا والعريس بينهم؟ فما دام العريس بينهم لا يستطيعون أن يصوموا. ولكن سيأتي زمن يرتفع العريس من بينهم، ففي ذلك اليوم يصومون… ما من أحد يجعل الخمرة الجديدة في زقاق قديمة، لئلا تَشُقّ الخمر الزقاق فتتلف الخمر والزقاق معاً. ولكن للخمرة الجديدة زِقاق جديدة." (مرقس 18:2-22).
وهو يلغي طقوس الذبائح والمحارق اليهودية، لأن الرحمة عنده تحل محل الذبيحة. فعندما استهجن الفريسيون مخالطته للعشارين والزواني والخاطئين، قال لهم: "ليس الأصحاء بمحتاجين إلى طبيب بل المرضى. فهل عرفتم معنى هذه الآية: إنما أريد الرحمة لا الذبيحة. وما جئت لأدعو الأبرار بل الخاطئين." (متى 11:9-13). وفي قول آخر له يُحل يسوع المحبة محل الشريعة: "أحبب الله ربك بجميع قلبك وجميع نفسك وجميع ذهنك. تلك هي الوصية الكبرى والأولى. والثانية مثلها: أحبب قريبك حبك لنفسك. بهاتين الوصيتين يرتبط كلام الشريعة والأنبياء." (متى: 34:22-40). وقال أيضاً: "افعلوا للناس ما أردتم أن يفعله الناس لكم. هذه هي خلاصة الشريعة وكلام الأنبياء." (متى 12:7).
وفي موعظة الجبل الشهيرة يناقض يسوع شريعة موسى في عدد من أهم فقراتها، مستخدماً صيغة "سمعتم أنه قيل للأولين… كذا، أما أنا فأقول… كذا." وبذلك يضع يسوع سلطة أقواله فوق سلطة بنود الشريعة القديمة. فقد قال على سبيل المثال: "سمعتم أنه قيل للأولين: العين بالعين والسن بالسن. أما أنا فأقول لكم: لاتقاوموا الشرير. من لطمك على خدك الأيمن فاعرض له الآخر."… "سمعتم أنه قيل: أحبب قريبك وابغض عدوك. أما أنا فأقول لكم: أحبوا أعداءكم وادعوا لمضطهديكم، فتكونوا بني أبيكم الذي في السماوات، لأنه يطلع شمسه على الأشرار والأخيار." (متى 38:5-39، و43-44).
إن التناقض بين هذه الأقوال والمواقف ليسوع (وغيرها مما لم نذكره هنا) والقول الذي ينسبه إليه متى: "ماجئت لأنقض بل لأكمل". لن يزول حتى يتم حذف المداخلات اليهودية التي تم زرعها في "العهد الجديد". والتي آتت أُكُلُها أخيراً عندما اعتبرت الكنيسة كتاب التوراة جزءاً من الكتاب المقدس المسيحي.
عالمية رسالة يسوع:
في مداخلة يهودية أخرى، يضع إنجيل متى على لسان يسوع قوله إن رسالته محصورة ببني إسرائيل، ثم يصف الكنعانيين بالكلاب الذين لايستحقون بركته الشافية: "ثم خرج يسوع من هناك وذهب إلى نواحي صور وصيدا. وإذا امرأة كنعانية خارجة من تلك البلاد تصيح: رحماك سيدي يا ابن داود، إن ابنتي يتخبطها الشيطان تخبطاً شديداً. فلم يجبها بكلمة. فدنا منه تلاميذه يتوسلون إليه فقالوا: أجب طلبها واصرفها، فإنها تتبعنا بصياحها. فأجاب: لم أُرسل إلا إلى الخراف الضالة من بيت إسرائيل. ولكنها وصلت إليه فسجدت له وقالت: أغثني سيدي. فأجابها: لا يُحسن أن يؤخذ خبز البنين فيلقى إلى جراء الكلاب. فقالت رحماك سيدي، حتى الكلاب تأكل من الفُتات الذي يتساقط عن موائد أصحابها. فأجابها يسوع: ما أعظم إيمانك أيتها المرأة، فليكن لك ما تريدين. فشفيت ابنتها من ساعتها." (متى 21:15-28). وعندما وجه يسوع تلاميذه للتبشير، يجعله متى يقول لهم: "لاتسلكوا طريقاً إلى الوثنيين، ولا تدخلوا مدينة للسامريين، بل اذهبوا نحو الخراف الضالة من بيت إسرائيل." (متى: 1:10-6). فإلى أي حد تتوافق هذه الأقوال والمواقف الشوفينية المنسوبة إلى يسوع مع بقية أقواله ومواقفه في الأناجيل الأربعة، والتي أعلن يسوع من خلالها عن عالمية رسالته وشمولها للإنسانية جمعاء؟
في الحقيقة إن الأناجيل الأربعة تتكرر فيها مشاهد الوثنيين الذين يتبعون يسوع ويصغون إلى تعاليمه. من ذلك ما ورد في إنجيل مرقس حيث نقرأ: "فانصرف يسوع إلى البحر يصحبه تلاميذه، وتبعه جمع كبير من الجليل، ومن اليهودية، ومن عبر الأردن، والذي حول صور وصيدا." (مرقس 7:3-8). أي إن من وصفهم يسوع بالكلاب من سكان صيدا كانوا في عداد من تبع يسوع، وكذلك سكان المدن العشر اليونانية الوثنية في عبر الأردن. وفي إنجيل لوقا نجد يسوع يشفي أناساً كثيرين من ساحل صور وصيدا، حيث نقرأ: "ثم نزل بهم فوقف في مكان منبسط، وهناك جماعة كبيرة من تلاميذه، وحشد كبير من الشعب من جميع اليهودية وأورشليم وساحل صور وصيدا، فقد جاءوا ليسمعوه ويبرأوا من أمراضهم." (لوقا 17:6-18).
ونجد متى الذي وردت في إنجيله هذه المداخلة اليهودية عن الخراف الضالة من بيت إسرائيل، يقول بعد ذلك على لسان يسوع قوله في المرأة التي سكبت زجاجة العطر على رأسه: "الحق أقول لكم، حيثما يُكرز بهذا الإنجيل في العالم يُخبر أيضاً بما فعلته هذه المرأة تذكاراً لها." (متى 13:26). كما أن متّى ينهي إنجيله بالقول المشهور ليسوع "فاذهبوا وتلمذوا كل الأمم وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس، وعلموهم أن يحفظوا كل ما أوصيتكم به. وها أنذا معكم طوال الأيام إلى انقضاء الدهر." (متى 19:28-20). ومن الكلمات التي قالها يسوع لتلاميذه قبل صلبه بيومين، في إنجيل مرقس، نقرأ قوله: "سيسلمونكم إلى مجالس، وتُجلدون في مجامع، وتوقفون أمام وُلاة وملوك من أجلي شهادة لهم. وينبغي أن يُكرز أولاً بالإنجيل في جميع الأمم." (مرقس 9:13-10).
ويسوع الذي جعله متّى يقول لتلاميذه ألا يدخلوا مدينة للسامريين، قد مر بالسامرة وبشر فيها، على ما يرويه لنا إنجيل يوحنا في قصة وقوفه عند بئر يعقوب قرب مدينة سامرية تدعى سيخارة، وحواره مع امرأة سامرية انتهى بإيمان تلك المرأة وإيمان عدد كبير من السامريين. نقرأ في الإصحاح الرابع: "فآمن به عدد كبير من سامريي تلك المدينة بدافع من كلام المرأة… فلما جاءه السامريون سألوه أن يقيم بينهم، فأقام يومين. فآمن عند سماع كلامه عدد يفوق بكثرته عدد الأولين، وقالوا للمرأة: لا نؤمن بعدُ تبعاً لكلامك بل لأننا سمعناه نحن وعلمنا أنه مخلِّص العالم." (يوحنا: 39:4-42).
وفي قصة السامري الصالح، التي يضربها يسوع مثلاً لمستعميه، نجده يفضل السامري على اليهودي بسبب عمله الصالح. فقد سأله ناموسي عن من هو القريب الذي يتوجب على المرء أن يحبه بعد الله، فقال له يسوع: "كان بعضهم نازلاً من أورشليم إلى أريحا، فوقع في أيدي اللصوص، فعروه ثم انهالوا عليه بالضرب ومضوا وقد تركوه بين حي وميت. فاتفق أن أحد الكهنة كان نازلاً فمر من ذلك الطريق، فرآه فمال عنه ومضى. وكذلك جاز لاويٌ (= من خدم الهيكل) في ذلك المكان، فرآه فمال عنه ومضى. ثم مرَّ به سامري مسافر، فرآه فأشفق عليه، فمال إليه فضمد جراحه وصب عليه زيتاً وخمراً، ثم حمله على مطيته وجاء به إلى فندق واعتنى بأمره… فمن كان في رأيك من هؤلاء الرجال الثلاثة قريب الذي وقع بأيدي اللصوص؟ فقال: الذي عامله بالرحمة. فقال له يسوع: اذهب فاعمل أنت أيضاً مثل ذلك." (لوقا: 25:10-37).
وفي أكثر من قول له، يصرح يسوع بأن ملكوت الله سيصير إلى غير اليهود من الوثنيين، بسبب عنادهم وقساوة قلوبهم وعزوفهم عن سماع كلمة الله. نقرأ في إنجيل متى: "إن العشارين والبغايا يسبقونكم إلى ملكوت الله." (متى: 31:21). وأيضاً: "فهكذا يصير الآخرون (أي الوثنيين) أولين، والأولون (أي اليهود) آخرين. لأن كثيرين يُدعون وقليلين يُنتخبون." (متى: 16:20). وأيضاً: "لذلك أقول لكم إن ملكوت الله سيُنزع عنكم ليُسلم إلى أُمة تجعله يخرج ثماره." (متى 43:21). ونقرأ في إنجيل لوقا: "ترون في ملكوت الله إبراهيم وإسحاق ويعقوب وجميع الأنبياء، وترون أنفسكم في الخارج مطرودين. وسوف يأتي الناس من المشرق والمغرب ومن الشمال والجنوب، فيجلسون على المائدة في الملكوت. فيصير من الآخِرين أولون، ومن الأولين آخِرون." (لوقا: 28:13-30).
وفي مقابل القول الذي نسبه إليه متى من أنه لم يُرسل إلا إلى الخراف الضالة من بيت إسرائيل، فإن يسوع يقول صراحةً بأن اليهود ليسوا من خرافه، عندما يخاطبهم في إنجيل يوحنا قائلاً لهم: "إن الأعمال التي أعملها باسم أبي تشهد لي، ولكنكم لاتؤمنون لأنكم لستم من خرافي، فخرافي تسمع صوتي وأعرفها فتتبعني، وأنا أهب لها الحياة الأبدية فلا تهلك أبداً." (يوحنا: 25:10-28).
يسوع واليهود:
تميزت علاقة يسوع باليهود بالعدائية والكراهية المتبادلة بين الطرفين منذ بداية رسالته. فهو لم يترك نقيصةً إلا ونسبها إليهم، وهم لم يوفروا مناسبةً لم يحاولوا فيها إهلاكه والتخلص منه. ففي أول تبشير علني له بعد أن خرج من ماء العماد، قام اليهود بأول محاولة لقتله. نقرأ في إنجيل لوقا: "فلما سمع أهل المجمع هذا الكلام، ثار ثائرهم جميعاً، فقاموا ودفعوه إلى خارج المدينة، وساقوه إلى حرف الجبل الذي كانت مدينتهم مبنية عليه ليلقوه عنه، ولكنه مرَّ من بينهم ومضى." (لوقا: 28:4-30). وبعد ذلك تكررت محاولاتهم ولكن دون جدوى. نقرأ في إنجيل يوحنا عما حدث بعد أن شفى يسوعاً مريضاً في يوم سبت: "فأخذ اليهود يشغبون على يسوع لأنه يفعل ذلك يوم السبت. فقال لهم يسوع: إن أبي ما يزال يعمل وأنا أيضاً أعمل. فاشتد سعي اليهود لقتله." (يوحنا: 16:5-18). وأيضاً: "وأخذ يسوع يسير بعد ذلك في الجليل، ولم يشأ أن يسير في اليهودية، لأن اليهود كانوا يريدون قتله." (يوحنا: 1:7). وأيضاً: "فأتى اليهود بحجارة ليرجموه، فقال لهم يسوع: أريتكم عدة أعمال صالحات من لدن الأب، فلأي عمل منها ترجمونني؟" (يوحنا: 31:10-32). وبعد إحيائه لعازر عقد الفريسيون والأحبار مجلساً وعزموا منذ ذلك اليوم على قتله، فصار لا يظهر بين اليهود واعتزل في بلدة تدعى أفرام هو وتلاميذه. (يوحنا: 46:11-54).
وفي المقابل كان يسوع يمطرهم بكلماته القاسية. فقد قال للفريسيين وهم النخبة المتعلمة من اليهود: "يا أولاد الأفاعي، أنى لكم أن تقولوا كلاماً طيباً وأنتم خبثاء. فمن فيض القلب ينطق اللسان." (متى: 34:12). وفي موضع آخر وصفهم بأنهم عمياناً يقودون عمياناً (أي بقية اليهود): "فدنا منه تلاميذه وقالوا له: أتعلم أن الفريسيين استاؤوا عندما سمعوا هذا الكلام؟ فأجابهم: كل غرس لم يغرسه أبي السماوي يُقلع. دعوهم وشأنهم، إنهم عميان يقودون عمياناً." (متى 12:15-13).
وكان يسوع يخاطب اليهود من موقع مفارق، وبصيغ كلامية تدل على أنه لم يعتبر نفسه واحداً منهم، فيقول مثلاً: "بماذا أوصاكم موسى" ولا يقول "بماذا أوصانا موسى"، و "ألم يكتب في شريعتكم" ولا يقول "ألم يكتب في شريعتنا.". وهذه نماذج من خطابه لهم: "فأجابهم يسوع: ألم يكتب في شريعتكم…إلخ." (يوحنا: 34:10). وأيضاً "وما كان هذا إلا لتتم الآية المكتوبة في شريعتهم: أبغضوني بلا سبب." (يوحنا: 25:15). وأيضاً: "وكُتب في شريعتكم شهادة شاهدين صحيحة." (يوحنا: 17:8). وأيضاً: "ابتهج أبوكم إبراهيم على رجاء أن يرى يومي." (يوحنا: 56:8). وأيضاً: "فأجابهم: بماذا أوصاكم موسى؟… من أجل قساوة قلوبكم كتب لكم هذه الوصية." (مرقس: 3:10-5). وأيضاً: "ألم يعطكم موسى الشريعة، وما من أحد يعمل بأحكام الشريعة؟" (يوحنا: 19:7). وبالمقابل فقد قال نيقوديموس، وهو يهودي انحاز إلى جانب يسوع: "أتحكم شريعتنا على أحد قبل سماع أقواله؟" ولم يقل لهم: "أتحكم شريعتكم…إلخ." (يوحنا: 56:8).
واليهود هم قتلة الأنبياء والمرسلين. قال لهم يسوع: " تقولون لو عشنا زمن آبائنا لما شاركناهم في دم الأنبياء. فأنتم تشهدون على أنفسكم بأنكم أبناء قتلة الأنبياء… أيها الحيات أولاد الأفاعي، أنى لكم أن تهربوا من عقاب جهنم؟ ها أنذا (يقول الرب) أرسل إليكم من أجل ذلك أنبياء وحكماء وكتبة، ففريقاً تقتلون وتصلبون، وفريقاً في مجامعكم تجلدون، ومن مدينة إلى مدينة تطاردون، حتى يقع عليكم كل دم زكي سُفك على الأرض…" (متى 29:23-39). وقد أثبت اليهود بعد ذلك صدق قول يسوع فيهم. فعندما حاول الوالي الروماني عبثاً إقناع اليهود بإطلاق يسوع، غسل يديه أمام الجميع وقال: "إني بريء من هذا الدم. أنتم وشأنكم فيه.". "فأجاب الشعب بأجمعه: دمه علينا وعلى أولادنا." (متى: 24:27-29).
واليهود لا يعرفون الله الحق، بل هم أبناء إبليس. قال لهم يسوع: "أنتم لاتعرفونني ولاتعرفون أبي." (يوحنا: 19:8). وأيضاً: "على أني ما جئت من نفسي، بل هو حقٌ الذي أرسلني. أنتم لاتعرفونه، وأما أنا فأعرفه." (يوحنا 28:7). وأيضاً: "لو كان الله أباكم لأحببتموني، لأني من الله خرجت وأتيت. إنكم أولاد أبيكم إبليس، وأنتم تريدون إتمام شهوات أبيكم. من كان من الله سمع كلام الله. فإذا كنتم لا تسمعون فلأنكم لستم من الله." (يوحنا: 41:8-47). وهم في عبادتهم لإلههم يهوه إنما يكرهون الله الحق. ولهذا قال فيهم يسوع: "وهم مع ذلك يبغضونني ويبغضون أبي. وما ذلك إلا لتتم الآية المكتوبة في شريعتهم: أبغضوني بلا سبب." (يوحنا: 24:15-25).
وقد لخص يسوع موقفه من اليهود في جملة واحدة، عندما قال في حديثه للمرأة السامرية بأن الخلاص لا يتم إلا بالتخلص من اليهود: "يا امرأة صدقيني، إنه تأتي ساعة لا في هذا الجبل ولا في أورشليم تسجدون للآب. أنتم تسجدون لما لستم تعلمون، أما نحن فنسجد لما نعلم. لأن الخلاص هو من اليهود. ولكن تأتي ساعة، وهي الآن، حين الساجدون الحقيقيون يسجدون للآب بالروح والحق." (يوحنا 21:4-23).
فأي شيء بعد هذا يبقى من الأقوال المنسوبة إلى يسوع بأنه لم يُرسل إلا إلى الخراف الضالَّة من بيت إسرائيل، وأنه ما جاء لينقض وإنما ليكمِّل؟
عن موقع الأوان
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
01-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
13-شباط-2021 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |