مدخل إلى نصوص الشرق القديم / من أدب الحكمة المصري
2007-09-23
شغل أدب الحكمة والوصايا جانباً لا بأس به من التركة الأدبية لحضارة مصر القديمة. وكان المصريون مولعين بجمع هذه الحكم والوصايا وتداولها عبر الأجيال المتعاقبة، حتى أن بعض المجموعات من الحكم والوصايا، مثل وصايا الأمير حور- ديف الذي عاش في القرن السابع والعشرين قبل الميلاد، قد بقيت تُنسخ ويجري تداولها حتى نهايات التاريخ المصري؛ ومثل وصايا الملك أمين امحت الذي حكم في مطلع الألف الثاني قبل الميلاد، التي بقيت متداولة حتى نهاية الألف الثاني حيث تتوفر الشواهد على أنها كانت في ذلك الحين جزءاً من التعليم المدرسي. وسوف أعمد فيما يلي إلى تقديم منتخبات من أهم هذه المجموعات، وهي وصايا أمين- إم- أوبيت، التي تطلعنا على جوانب وضاءة من المنظومة الأخلاقية لإنسان الشرق القديم.
من وصايا أمين- إم- أوبيت:
يعود هذا النص في تاريخه إلى مطلع الألف الأول قبل الميلاد. وقد صاغه كبير الكتبة في القصر الملكي المدعو أمين- إم- أوبيت لغرض تعليم وتوجيه ابنه الأصغر. وكان نص الوصايا هذا موضع عناية الباحثين بسبب التشابه الواضح بين فقراته وفقرات عديدة من سفر الأمثال في التوراة العبرانية.
أعطني سمعك يا بني، وانصت لما أقول،
وافتح ذهنك لتفهم هذه الكلمات.
فلئن حفظتها في قلبك كانت لك خير معين،
وإن تناسيتها كان في ذلك شقاؤك.
دعها تستقر في صميم جوفك،
وتكون نبراساً لقلبك.
وعندما يكون هناك عاصفة من الكلمات،
دعها تكون مربط مرسى للسانك.
وإذا أقامت في قلبك كل الأيام،
سوف تقودك للفلاح في كل أعمالك،
وسوف تجد في كلماتي خزْنَةَ حياة:
لا تسرق من المسكين، ولا تقهر الضعيف،
إن من يفعل السوء تنبذه ضفة النهر،
ويجرفه طوفان الماء.
هنالك شيء آخر يُسرُّ به الله،
وهو أن تزن كلماتك قبل أن تطلقها.
لا تزحزح أحجار حدود الحقول عن مواضعها،
ولا تغش في حبل قياس المساحة.
لا يكن جشعك لبضعة أمتار من الأرض،
ولا تتعد على حدود أرض الأرملة،
ولا توسع أرضك خلسةً على حساب جيرانك،
لأنك بذلك ترضي الله الذي قسَّم حصص الحقول.
احرث حقلك الخاص واحصل منه على حاجتك،
وخذ خبزك من قمحك الذي تدرسه.
إن الحصة التي قسمها الله لك،
خير من خمسة آلاف حصة أُخذت بغياً،
وحصادها لا يبقى يوماً واحداً في صومعتك،
وغلتها لا تُقدَّم لبرميل واحد من الجعة،
وعند طلوع الصباح تغيض وتختفي عن الأنظار.
من الأفضل لك أن تكون فقيراً بين يدي الله،
من أن تكون غنياً في وسط أهراءاتك.
والرغيف الواحد مع الطمأنينة خير من الثروة مع الأحزان.
لا توجه قلبك نحو ملاحقة الثروة،
ولا توجه قلبك نحو المظاهر الخارجية،
فكل إنسان مملوك لساعته الموعودة (= الموت).
لا تجهد نفسك في الاكتناز وحاجتك آمنة،
وإذا جاءتك الأموال بطرق غير مستقيمة،
فإنها عند طلوع الصباح تختفي من بيتك،
لقد فتحتْ الأرض فمها وابتلعتها،
أو صار لها أجنحة وطارت نحو السماء.
لا تبتهج للأموال تأتيك بطرق غير مستقيمة،
ولا تحزن وتبكي بسبب الفقر،
إن سفينة صاحب الشهوات تعلق في الطين،
أما سفينة الصامت الصبور فتدفعها الريح الطيبة.
عليك بالصلاة إلى قرص الشمس كلما بزغ (= أتون)
قائلاً: هبني النجاح والصحة،
فإنه سيعطيك ما تحتاجه في هذه الحياة،
وتبقى في منجاة من المخاوف والأحزان.
لا تصاحب الأحمق الغضوب،
ولا تقم بزيارته وتبادل الحديث معه.
لا تحيي خصمك الذي تكرهه وأنت غاضب عليه،
ولا تقل له السلام عليك وأنت لا تعني ذلك.
لا تتحدث بزيف مع أي إنسان فهذا ما يكرهه الله،
ولا تفصل بذلك لسانك عن قلبك،
إن الله لا يحب الكلام الزائف،
وينفر من الغضب المكبوت في الفؤاد.
لا تطمع في مال الفقير ولا تشته خبزه،
لأنه سيكون غصة في حنجرتك وقيئاً في حلقك
إن اللقمة الكبيرة إن أخذتها لن تبتلعها بل ستتقيأها
ولسوف تخسر.... الحسنة.
لا تتقدم بشهادة زور، ولا تدعم أحداً بهذه الطريقة.
إذا كان لديك دين عند رجل فقير،
اجعله ثلاثة أقساط، سامحه بقسطين واترك واحداً،
عندها ستنام ملء جفونك،
وفي الصباح سوف تجد عملك مثل البشارة الطيبة.
من الأفضل لك أن تُمتدح كامرئ يحب الناس،
من أن تكون غنياً في وسط أهراءاتك.
والرغيف الواحد مع الطمأنينة أفضل من الثروة مع الأحزان،
لا تُمِلْ كفة الميزان ولا تعبث بالوزنات.
لا تجعل لنفسك أوزاناً مغشوشة،
لأنها سوف تزخر بالبلايا بإرادة الله.
لا تقض ليلك في خوف من الغد،
لأنه من يعرف ما سيكون عليه الغد عند انبلاج الصباح،
إن البشر لا يعرفون ما سيأتي به الغد.
الله في كماله، والإنسان في عجزه.
ما يرغب به الإنسان شيء، وما يفعله الله شيء آخر.
لا تقولن إني بريء من كل خطيئة،
لأن أمر الخطايا عند الله وختمها في إصبعه.
(إذا كنت قاضياً) لا تقبل الرشوة من الرجل القوي،
ولا تضطهد من أجله الإنسان الضعيف،
العدالة هبة من عند الله. يعطيها لمن يشاء.
لا تقل لنفسك إذا آذاك أحد إن لي رئيساً قوياً،
وإذا أصابك أحد بضُرّ لا تقل إن لي حامياً،
بل ضع نفسك في رعاية الله،
إنَّ صبرك وصمتك سوف يصرعهم.
لا تفصح بمكنون فؤادك لكل إنسان، فتفقد احترامهم،
ولا تبسط كلماتك أمام الجُهال.
لا تصاحب المرء الذي لا يتحفظ في كلامه،
الإنسان الذي يحتفظ بكلماته في جوفه،
أفضل من الآخر الذي يطلقها ويسبب بها الأذى.
لا تهزأ من أعمى ولا تسخر من قزم،
ولا تنفجر غضباً في وجه من يرتكب خطأً،
فما الإنسان إلا قش وتراب، صنيعة الله.
إن الله يخلق ألف إنسان بائس إذا شاء،
ويخلق ألف إنسان قوي أيضاً.
عندما تأتي ساعة الإنسان الموعودة،
كم هو سعيد الإنسان الذي يصل أرض الغرب (= أرض الموتى)،
عندها يكون آمناً ومطمئناً بين يدي الله.
لا تنهر الأرملة وهي تجمع البقايا في حقلك،
ولا تمنع عن الغريب جرة زيتك،
إن الله يفضل احترامك للفقير على تعظيمك للقوي.
أغنية عازف الهارب:
في مقابل هذه الوصايا الأخلاقية والسلوكية التي تعبر عن موقف إيجابي من العالم، وتنطلق من اعتقاد راسخ بوجود نظام دقيق يحكم حياة الإنسان، ويقود في النهاية إلى سعادته الدائمة في العالم الآخر، فقد تناقل المصريون منذ أقدم الأزمنة نصوصاً ذات طابع عدمي تشكك في كل ما لا يقع تحت حواس المرء، وتدعو إلى نهب الملذات في هذه الحياة، لأن الموت والفناء هو خاتمتها ونهايتها، والإنسان لا يعرف بالفعل ما الذي سيكون عليه مصيره بعد الموت. ومن الملفت للنظر حقاً أن بعض هذه النصوص كانت توضع على لسان عازف هارب (= القيثارة) يصور في لوحة داخل الضريح وهو ينشد كلمات تحث الإنسان على الاستسلام للملذات لأنه غير متأكد من أن كدح الإنسان الروحي في هذه الحياة سوف يقوده إلى السعادة الأبدية والبركة في عالم الآلهة، وذلك وعلى الرغم من كل ما نعرفه عن تقوى المصريين القدماء وإيمانهم بالعالم الآخر، وتوكيدهم على السلوك الأخلاقي الذي يساعد الميت على اجتياز الحساب في قاعة العدالة أمام أوزيريس، والعبور إلى الحدائق الفردوسية.
النص القصير الذي سوف أقدمه فيما يلي، هو واحد من نصوص كثيرة على شاكلته. وعلى الرغم من أنه وجد في مقبرة تعود في تاريخها إلى حوالي عام 1300ق.م. إلا أنه نسخة عن نص أقدم وضعه في قبره أحد ملوك الفترة الانتقالية الأولى في التاريخ المصري فيما بين أواخر الألف الثالث وأوائل الألف الثاني قبل الميلاد:
هذه الأغنية من قبر الملك إنطف،
وُضعتْ أمام المغني الذي يعزف على الهارب:
كم هو صالح هذا الأمير الطيب،
على الرغم من أن رياحه المؤاتية قد ولَّت.
أجيال تمضي وأجيال تجيء،
منذ زمن الأسلاف القدماء.
الملوك المؤلهون الذين كانوا في ذروتهم،
يستريحون الآن في أهراماتهم؛
والموتى المنذرون للحياة الخالدة،
يثوون الآن في صروحهم؛
والذين بنوا وأشادوا وانمحقت أبنيتهم،
أين هم الآن جميعاً؟
لقد سمعتُ كلام الحكماء من أمثال لي- أم- حوتب، وحور- ديفر،
من يتناقل الناس أقوالهم حتى الآن.
أين هم الآن؟ أين مساكنهم؟
جدرانهم تهدمت ومساكنهم انمحقت،
وكأنهم لم يكونوا قط،
وما من أحد عاد من هناك ليخبرنا بأحوالهم،
فتطمئن قلوبنا لحديثه.
فإلى أن نمضي إلى المكان الذي ذهبوا إليه،
أسلم نفسك لكل ملذة ومسرة،
حتى ينسى قلبك كل الطقوس الجنائزية المعدة لك.
اتبع رغباتك طالما أنت على قيد الحياة،
ضمخ رأسك بالطيوب والبس أفضل الثياب،
وامسح جسمك بالدهون الفاخرة المنذورة للآلهة.
كرس نفسك لكل ما هو مبهج،
ولا تدع الهمّ يقارب فؤادك.
اقض كل حاجة لك وفق مشيئة قلبك،
إلى أن يأتي يوم النواح عليك.
ويوم ذاك، حزين القلب لن يسمع النواح،
وما من عويل سوف ينقذ المرء من العالم الأسفل.
«اللازمة»:
أقم الاحتفالات ولا يغتم منك القلب،
ولا تنس أن المرء لا يأخذ معه شيئاً إلى القبر،
ومن من أحد قضى وعاد إلينا ثانيةً.
ونلاحظ في القسم الأخير من هذه الأنشودة شبهاً بأحد المقاطع الجميلة في ملحمة جلجامش، حيث تقول فتاة الحان لجلجامش الذي يهيم على وجهه في البراري باحثاً عن سر الخلود:
إلى أين تمضي يا جلجامش؟
الحياة التي تبحث عنها لن تجدها.
فالآلهة لما خلقت البشر،
جعلت الموت لهم نصيباً،
وحبست في أيديها الحياة.
أما أنت يا جلجامش، فاملأ بطنك.
افرح ليلك ونهارك.
اجعل من كل يوم عيداً.
ارقص لاهياً في الليل وفي النهار.
اخطر بثياب نظيفة زاهية.
اغسل رأسك، تحمم بالمياه.
دلل صغيرك الذي يمسك يدك.
واسعد زوجتك بين أحضانك.
هذا نصيب البشر.
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
01-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
13-شباط-2021 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |