حفلة ذبابات آيار القصيرة
2009-08-14
ليس من قبيل الصدفة ، إن حمل سيدنا نوح على ظهر فلكه المشحون ، زوجا ً من الشرطة ، شرطيا ً وشرطية ً ،في تلك اللحظات الحاسمة لم يكن الأمر من قبيل الصدفة على الإطلاق . لقد خلق الله الأرض في ستة أيام ٍ فقط .. خلق الأشجار والماء والأحجار . وتحت كل شجرة ، وجنب كل حجر ، وفوق كل زرع وضرع ، أوجد الله شرطيا ً !..
حين شف ّ الطوفان ، وابتلعت الأرض المياه ، رسا فلك نوح . هبط الجميع واستراحوا مطمئنين في الظلال ، بعد الهول الذي صادفوه ، إلا ّ أولئك الشرطيين اللذين انشغلا مليـّا ًبتفتيش السفينة ، وكأن نوحا ً أوكل ذلك إليهما . بعد ترجلهما انطلقا يجوبان الأرض طولا ً وعرضا .. يرهفان السمع ويدسان عيونهما وأنوفهما في كل ركن ، وقد كلحت وجوههما واضطربت شعورهما وتيبست شفاههما ، نفروا الناس َ ، ونفرتهم الناس ُ ،ولم تعد الرياح والأمطار تطري جسومهم ولا نفوسهم , ولا الربيع يورقهم ويزهرهم ..
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم .
(في يوم من الأيام , تجرأ أحدهم على سرقة شرطي ٍمن بيت الدولة , وزَرَعه في حديقة الوطن , بعد أن غسله بالصابون والديتول شهرا ً كاملا ً . وكان كلما يمرّ به يسأله بنفاد صبر ٍ :
ـ متى تزهر يا عزيزي الشرطي ؟..
فيجيبه يائسا ً ..
ـ ليس الآن .. ليس الآن على الأقل .. ) ›٭ ›
ما كان الشرطي غير قادر ٍ على الإزهار وحسب , إنما الكثير من الناس قالوا أن النباتات المزهرة قد ذبلت ضجرا ً حين زرعوه قريبا ً منها !..
لم يأل ُ الإنسان جهدا ً في إعمال فكره , والتأمل بلا كلل في أسرار خلق الشرطة . تأمل طويلا ً وطويلا ً حتى تصدّع رأسه واحمرّت عيناه وهو يرى الانتشار الذبابي للشرطة من حوله ..
إن الإنسان لم يزل يتأمل ويتأمل حتى لا يملك في نهاية المطاف إلا ّ أن يرجز قائلا ً :
لك َ فيها إرادة يا خالق الجرادة
جبّار الصيقل , رجل ٌ عاش ويعيش إلى الأبد . على الرغم من أنهم أغمضوا عينيه , وغسلوه بالرياحين , وكفنوه بالحرير , وأنزلوه في شق ٍ طويل ٍ على قد قوامه الفارع الطول , إلا ّ أنه لم يمت . إن الناس تذكره أكثر من الأحياء , لم يزل إنتاجه الحرفي متداولا ً , يلاقي الرواج والاستحسان بين زبائنه الكثر ُ .
ذات مرة ٍ رأيته منتصبا ً في النور , ضاغطا ً بين طرفي سبابته وإبهامه أطلاقة من العتاد الحي . في النور كان ينظر إليها بافتتان ٍ غريب .. ينظر بعمق ٍ نظرات ٍ طويلة ٍ , والدم يختلج تحت بشرته , والزهو يزين قسماته ..
لم يسبق لي أن رأيت في حياتي رجلا ً يتفحص العتاد بمثل هذا الحب العجيب ؟ ..
بالتأكيد , لو طـُلِبَ من أي أحد منـّا أن يعاين الأطلاقة أمام نور الشمس , لما وجد فيها شيئا ً يُذكر , غير قدرتها المرعبة على الموت , لكننا غير وجبار الصيقل غير . إنه يسكب من قدح عينيه خمرة الإعجاب وكأنه في كل الأحايين يراها لأول مرة ٍ ،ثم يضعها في راحة يده ، يقلبها مبهورا ً .. مبهورا ً برشاقتها ، ولونها الذهبي الساطع . يتدفق الفخر في صدره ويحسّ بالرضا المريح ، وتتسع أرنبة أنفه ويسترخي منخراه فتنساب أنفاسه صاعدة وهابطة . حينئذ يعتصرها في راحته كشيء عزيز .. إنها تعني له شيئا ً خاصا ً.. خاصا ً جدا ً .. شيئا ً محببا ً ومثيرا ً.. يعتصرها وهو يشعر بعلو الشأن وسمو القدر ..
إنه عمل ٌ نادر ٌ لا يتاح لأي ٍ من الناس ، بذل فيه جهودا ً مضنية ً وتفانيا ً لا يُوصف ، وسفح الآهات مدرارا . كان يتوجس الخوف طوال أوقاته ، وينام على حد السكين . عمل سنين طويلة ً خلف الجدران والأستار .. في الظلام بعيدا ً عن العيون المتربصة . يعمل بخوف .. خوف يجعله معلقا ً بين الأرض والسماء من هول الوقوع في قبضة الشرطيين . كان يعمل بشعور مزيفي العملات والمطلوبين إلى العدالة .. بشعور مرتعش وامض بالخطر .. شعور يصيح في آذانه ليل نهار ( ها جاءك الذئب .. ها جاءك الواوي ) .
حين يبسط راحته ثانية ً، وينظر إلى الأطلاقة بتلك المَعَز ّة وذلك الوقار ، يتفشى في صدره تنمل النشوة صاعدا ً إلى رأسه ، ويخطر في باله أنه أنجز شيئا ً عظيما ً وغاليا ً .. أنجزه رغم مخاطر التحريم .
هكذا يظل منتشيا ً لدقائق، ساكنا ً ببرود لذيذ ، كمن أفرغ في جوفه كأس خمرته الثالث !..
كان جبّار أكثر صياقلة السلاح فنـّا ًوشهرة ً. ظلّ الزبائن يؤثرونه ويقصدونه حتى من الأماكن البعيدة .
اقتصر عمله بادىء الأمر في إصلاح الأجزاء المعطوبة من السلاح , أو استبدالها بقطع غيار حديثة ، لم يكن أحد ٌ يعرف من أين يأتي بذالك الغيار ..
إن أروع ما في مهنة الصيقل أن جميع زبائنة يبقون محافظين على سريـّتة .. إن الإفشاء بأي سر من أسرارها يعني إنك تعصف بحياة الصقيل وتمحو مهنته ..
بعض زبائنة من أبناء المدينة نفسها , والأغلبية كانت تأتي من الأرياف المجاورة وحتى البعيدة منها , وقد ربطته مع الكثيرين منهم صداقات وثيقة .
أبقى عملة مخفيـّا تحت أسوار الحذر العالية . اكتسب بمرور الزمن خبرة في مناورة رجال الأمن والشرطة , ورَد ْ شبهاتهم , وتفتيت شكوكهم.
جعل له ورشة حدادة في سوق الحدّادين , وضع في واجهتها الأبواب والشبابيك للتمويه أصلا .
واصل عمله في ورشته تارة وفي بيته تارة أخرى , كما تـُملي عليه الظروف التي كان يـُقدرها تقديرا ً صائبا ً.
عدّة مرات ٍ هرعت الشرطة لتفتيش ورشته وداره , فكان الرجل يهبّ إليهم مرحبا ً , ويشرع لهم الأبواب ويُوسع الطريق , ويقف مثل كريم ٍ يقرّ ضيوفه , ممسكا ً بوعاء الماء يسكب لهم في الأقداح . كانت الشرطة تأتي وتذهب دون أن تعثر على شيء.
في أوائل السبعينات جاءه الحظ بأقدامه الحافية لاهثا ً وسقط في حجره !..في تلك السنين نضب العتاد , وارتفعت أسعاره بشكل لا يـُصدق , إنما قولوا إن العتاد اختفى من السوق السوداء تماما ً
، ولم يعد الموتى يسمعون صوت أطلاقة واحدة تدوّي في وداعهم الأخير !..
في تلك الأيام شمـّر جبّار عن مواهبه ، تحوّل إلى تصنيع السلاح بكل ما يملكه من طاقات إبداع وخزين حرفي عريق . إن مواهبه وتجارته ألهمته هذا الإبداع , فاقتحم العمل الجديد بشجاعة ورغبة هائجة .
تعامل جبّار الصيقل مع هذه الحرفة بحذر , وكان على زبائنه أن يصبحوا أكثر حذرٍ , كما استلزم أن يدفعوا الكثير من المال ليحصلوا على العتاد الذي كانوا يدخرونه لمناسباتهم الحميمة وتسوية ثاراتهم .
كانت أرباح العمل مغرية ً تماما ً تجعل حماس جبّار يتألق ولا يخبو , كرّس له جلّ وقته وإمكاناته.
ولم يقل أحد ٌ عنه كان يصنع عتادا ً, إنما قالوا إنه ( يشد البارود ) .
كان عمله متشعبا ً , صعبا ً , متعبا ً , مثلما هو خطير جدا ً , ولم يكن عمله هذا متواصلا ً , إنما كان يصنع وجبات من العتاد في ظروف مُيَسَرة وأمينة, ثم يتوقف لحين تصريفه ..
تهيأ جبّار لهذا العمل جيدا ً , أجرى تغييرات جديدة شاملة في ورشته , وجلب مكائن محلية الصنع لا تجذب أيما انتباه . وراح يعمل في ورشته , ثم ينقل العتاد إلى بيته بعد صنعه , وكان محتاطا ومتحسبا ً لكل طارىء . إن الآلات و المكائن البدائية التي يستعين بها لا توحي بأي حال من الأحوال انه يصنع عتادا ً وذخائر ..
يقف خلف ماكنة حديدية صغيرة , صدئة , وإلى جانبه إناء مليء بالعملات المعدنية التي كانت مستعملة آنذاك .. عملات من فئة الفلس الواحد .. الفلس البرونزي . يضع الفلسات تلك في الماكنة لطرقها وزيادة اتساعها . ثم ينقها بعد ذالك إلى ماكنة أخرى تتولى نقرها وطويها بشكل مخروطي . في زاوية من الورشة , يذيب الرصاص ويملأ هذه المخاريط بعناية فائقة , وبهذا يكون قد أتم تجهيز رصاصات العتاد !..
كانت له طرق ملتوية في العمل , ويصعب معرفة ما الذي يفعله . الظروف الفارغة تمثل المشكلة الأساسية في عمله , ورغم ذالك كانت تصل إليه مرزومة بأكياس الجنفاص من معسكرات الجيش ومن الأرياف . اعتاد تنظيفها وتلميعها في الليل . ثم يملأها بالمتفجرات بحذر ٍ بالغ . وفي النهاية يقوم بتركيب الرصاصات في أعلاها , وعندئذ تصبح جاهزة للبيع .
لم أستطع كتمان مشاعر الدهشة وأنا أرى المواد المتفجرة , المخلوطة والمثرومة تخرج من ماكنة صغيرة تشبه إلى حد ٍ كبيرٍ ماكنة ثرم اللحم !..
إنه وحده فقط , ولا أحد غيره , يعرف من أين تجلب تلك المتفجرات . وحدهم الصياقلة يعرفون ذالك . وفي ما بينهم فقط , يتذاكرون أسما ً لامعا ً كالنجم وخطيرا ً كالبارود , إنه صبري البغدادي , الحدّاد الأنيق , قطب الصياقلة في العراق جميعا ً , وأسد الأسود الذي لا يخاف . ذالك الرجل الأشقر المتزين بالابتسامة المتفائلة على الدوام .. إنهم يتحدثون طويلا ًعن بدلته الشعريـّة اللاصفه الثمينة , وعن ضحكاته الساحرة . كان يجهزهم بكل احتياجاتهم , يعبئها بأكياس مكورة , هنالك نساء بالقرب من ورشته , يحملن تلك الأكوار على رؤوسهن ,ويوصلنها إلى سيارات الشحن , مشيا ً على الأقدام , لإبعاد الشبهات والإفلات من أية مراقبة متوقعة .. كان الصياقلة يحرصون بشكل صارم على كتمان أسرار صبري البغدادي , مصدر رزقهم , ومعين حرفتهم الذي لا ينضب . يسأله بعضهم أحيانا ً, كيف يتسنى له العمل على هذا النحو في حومة رجال الأمن والمخابرات الذين تفيض بهم العاصمة ؟.. فيجيب ساخرا ً :
ـ وهل أنا أعمل في العتاد أو السلاح ؟.. تعالوا أنظروا إلى ورشتي , هل هنالك شيء غير خردة الحديد تلك ؟..
في أوائل السبعينيات , حين شحّ العتاد , ونفد من الأسواق , وأخذت المسدسات والبنادق تسكت على التوالي , سارع جبّار الصيقل ليملأها بعتاده ويجعلها تدوّي في ضواحي المدينة وأريافها . راحت الشرطة تتحرّى ذلك بأناة ودقة. حامت الشبهات حول جبّار , واستدعي أكثر من مرّة إلى دائرة الأمن . وفي كل مرّة كان يخرج من تلك الدائرة محملا ً بوصاياهم وتحذيراتهم المرعبة , وقبل أن يغادرهم كان يتوجب عليه أن يضع إمضاءه على ورقة تعهد بعدم التعامل بالعتاد , ولزوم الإخبار عمـّن يشاهدهم يتعاملون به !..
كان جبّار يشعر بخطرهم وتتبعهم .. أنهم يجرون خلفه مثل كلاب الصيد .استمر يعمل بحرص ٍ متناه ٍ , وحكمة ٍ وتدبير ٍ . وبقيت الشرطة تسمع أصوات البنادق هنا وهناك ..
ذات مرة , وبسبب وشاية صغيرة , لاحقت الشرطة السريـّة أحد القرويين , الذي شـُوهِد وهو يخرج من ورشته , يحمل صرّة ً تحت عباءته . حاولوا أن يستوقفونه , ارتبك الرجل , تخلص من الصرّة وتمكن من الهرب , وتبين أنها كانت مملوءة بالذخائر . حملتها الشرطة إلى دائرة الأمن , وهناك تفحصوها جيدا ً .. تفحصوها من دون حاجة ٍ إلى خبراء , كان من الواضح جدا ً أنها ذخائر محلية . وبلا تردد أسقطوا التهمة على كاهل جبار الصيقل , وكأنهم كانوا ينتظرون ذالك !..
في لمح البصر , كبست الشرطة ورشة جبّار ولم تجد شيئا ً يـُذكر بين الحديد الصدىء والمكائن البدائية التي تعفـّرت بالتراب والزيت الأسود . وقف الشرطيون في حيرة ٍ , لذا اقتادوه إلى بيته وفتشوه تفتيشا ً جائرا ً ، خرجوا بـِحيرة ٍ طاغية ٍ ، لم يعثروا على شيء ٍ له علاقة بالذخائر أو الأسلحة !.. ورغم ذلك ، لم يقتنع أحد ٌ منهم ببراءة جبّار ، كانوا على يقين لا يقبل الشك إنه مصدر العتاد وليس غيره . أشار ضابطهم إلى أحد الشرطة أن يقتادوه معهم . سارع هذا ووضع يدي جبّار في جامعة حديدية أمام أنظار الناس المتجمهرين .
أجلسوه في القسم الخلفي المكشوف من سيّارتهم ، محشورا ً بين رجال الشرطة . ارتفعت العيون الكثيرة نحوه تتفحصه وتحاصره . ازداد وجهه حمرة ً ، حتى عاد بلون الرمان ، من فرط الخجل . كان جالسا ً وشعره المصبوغ بعناية يلمع فوق جبينه المعروق . كانت الأزرار العلوية من قميصه الأبيض مفتوحة ً تكشف عن صدر ٍ محمرّ مغطى بالشيب . في داخل السيارة كان يبدو في نصف إلتفاتته تلك وسيما ً للغاية . لم تبد ُ عليه أية لمحة خوف ٍ ، إنما كان وجهه المستطيل ينضح بالقوة والصلابة .. وجه مستطيل من وجوه الحدّادين الصخريـّة ، وجه يشبه وجوه تماثيل العمال التي ينحتها الشيوعيون .
كانت ملامح الاحتجاجات تخفق على وجوه الناس المتجمهرين , يرددون مع بعضهم البعض عبارة ( هذه لم تحدث من قبل ) .
في أواسط آيار , عند الظهر , اخذوا جبار إلى دائرة الأمن , البناية الصغيرة التي تلاصق مبنى مركز الشرطة الكبير , تطلا ّن سوية على نهر المدينة , في مكان هادىء ومشجـّر تنلاشى فيه حركة الناس والعجلات .
كان كيس العتاد دليلا ً دامغا ً سوّغ للشرطة القبض عليه واقتياده إلى ذلك المبنى الذي يشبه الحوت .. الحوت الذي ابتلع أعدادا ً من الناس ولم يلفظ سوى ذكرياتهم . لم يفرّط أحد ٌ من أقاربه في الوقت , سارعوا إلى بذل المساعي والتوسط لتخليصه من براثن الشرطة على الفور , لكن الأمر لم ينجح .
مبنى الأمن يربض أمام النهر بحديقة متواضعة , له باب جانبي ضيق .إن المبنى وكل ما يحيط به كان ساكنا ً سكونا ً موحشا ً وغريبا ً.. غريبا ً بمثل غربة شجرة الآكاسيا الوحيدة التي تنتصب على جرف النهر , أمام البناية مباشرة .
عندما بلغوا المكان , ترجـّلوا من السيارة , كان هنالك عمال بناء يتولون ترميم مقدمة المبنى . توقف العمال لحظات وتنحـّوا جانبا , وهم يحدقون إلى جبّار الصيقل بنظرات ٍ مرتابة ٍ متسائلة . حين تخطى البوابة , امتلأت أنفاسه بروائح مواد البناء الطريّة التي تظل تتأرّج قبل أن تجف , انه يحب تنشق تلك الروائح ويتفاءل بها عادة ..
ووري جبّار أحدى الغرف وأُوصد الباب دونه , بقي هكذا طوال ساعات النهار .. تلك الساعات الكسيحة التي لم تكن قادرة على المضي قدما . كان جالسا ً على ارض الغرفة العارية .. الغرفة الشحيحة النور , المغبرة, ذات الألوان المريضة , لم يكن على جدرانها شيء سوى كوة صغيرة عالية , قريبة من السقف . أنهى جبار تلك الساعات في وطيس الأفكار والوساوس , كان جالسا ً يضرب أخماسا ً بأسداس . تمكن من تهيئة عشرات الأجوبة المحكمة الجاهزة لأسئلتهم المتوقعة . كان يهب واقفا ً كلما سمع وقع خطوات تقترب من الباب , واقعا في خلده أنهم جاءوا إليه , يبقى واقفا حتى تختفي تلك الأصوات ..
انه رجل يكره المباغتة , ويكره هؤلاء المباغتين .
الليل قد حلّ بالتأكيد , بوسعه أن يرى ذلك عبر الكوة , وعمال البناء ذهبوا منذ وقت ليس قصيرا , لم يعد يسمع ضجيجهم . إن عياله لم يتناولوا عشاءهم الليلة , إنه متأكد من ذلك , لعلهم يسترقون السمع خلف الباب , مثله , متحسبين قدومهم في أية لحظة ,
في هذه الساعة المتأخرة بدا جبّار قلقا ً وعطشا ً , سوّلت له نفسه أكثر من مرّة ٍ, أن يقرع على الباب , لكنه في كل مرة ٍ كان يستحي من نفسه ,يتراجع متوقعا أن يكون المشوار أمامه طويلا ً .
في ساعة متأخرة من الليل , فـُتِح الباب فجأة , وجد نفسه وجها ً لوجه أمام شرطي أمن ٍ طويل ونحيف برأس مكور فاحم السواد , كأنه الدودة الوحيدة . هذا ما تبادر إلى ذهنه المشوش في تلك اللحظات الرهيبة . استغرق في دهشته , إنه لم يرَ هذا الشرطي من قبل على الرغم من صغر المدينة !.. وما لبث أن سأل نفسه ساخرا :
ـ هل كان هذا معتكفا في أمعاء الحكومة ؟..
اقتاده الشرطي إلى غرفة ضابط الأمن .
خلف طاولته , كان الضابط يضع على وجه نظـّارة كبيرة ويقرأ في بضعة أوراق على التناوب . ثم طوى نظـّارته وطلب من جبّار الجلوس . شرع يتجاذب معه حديثا ً متشعبا ً, تتخلله بعض الأسئلة العابرة , التي أجاب عنها بلباقة ٍ . لم يدم الحديث طويلا ً حتى تجمّع في سرب ٍ واحدٍ أخذ يحوم فوق رأس جبّار فقط . انهمرت الأسئلة تباعا ً , كان زخـّها خشنا ً فظا ً, كانت أسئلة تنافسية متحدّية , يلجأ الضابط مضطرا ً , بعض الأحيان , إلى رج السؤال رجا ً عنيفا ً لجعله عكرا ً وهو يقدّمه إليه , لكن جبّار تصدّى لجميع تلك الأسئلة بصمود , لم يكن مستعدا ً أبدا ً للتفوّه بأي حرف ٍ ينال من حرفته . كان الضابط يضع على عينه نظـّارته في كل مرة ويبحث عن موجة جديدة من الأسئلة في تلك الأوراق . بعد أن عجز عن مرامه , تململ من أجوبة جبّار الزئبقية , لم يجد في وسعه سوى الضغط على زر جرس خفيض الصوت , لتطل الدودة الوحيدة من جديد , عندها رشق الضابط جبّار بنظرة ٍ كاسرة ٍ وقال :
ـ خذوه إلى الحفلة..
على الفور أخذوه إلى غرفة ٍ ثانية ٍ ، نزلوا إليها عبر سلالم قليلة ، تكشـّفت له عن قبو أسفل المبنى !.. الأمر الذي أدهشه كثيرا ً ، أن يكون هنالك قبو في هذه البقعة التي تطفو فوق المياه الجوفية . كان القبو رطبا ً شبه مظلم ، تطلـّع في جميع أركانه ، لم يجد سوى منضدة صغيرة في وسطه تماما ً ، أسفل مروحة مربوطة إلى السقف . وهنالك عصي وكابلات وجرادل ماء . عرف جبار أنها وسائل التعذيب البدائية ، التي يُحيون بها حفلاتهم . تركوا له فرصة ليـُملي بصره من هذه الأدوات ، لكنها لم تثر رعبه ولم تنل من جلده . كان يسمع كثيرا ً عن هذه الوسائل ، والعديد ممن ذاقوا عذابها أفاضوا في وصفها ، على الرغم من كل ما حكوا عنها ، فهي نسبة ً لجسد جبار وسائل تعذيب نساء لا رجال حدادة أفنوا حياتهم في مقارعة الحديد ..
أوثقوا يديه خلف ظهره ، ثم حملوه فوق المنضدة ، التي صعد فوقها أيضا ً ذلك الدودة الوحيدة ، وحمله ليُعلـّقه بالمروحة . حين دارت به المروحة أخذ يحس بخدر ٍ لذيذ ٍ .. خدر راح يدور في رأسه وجسده سريعا ً ، وفي الحال أخذ يغط في نوم ٍ عميق !.. لم يصح ُ إلا ّ بعد أن صبـّوا على رأسه الماء . حين فتح عينيه ، وجد أنه يستند إلى الجدار ، وأن القبو وما فيه يدور حوله والأرض تميد به ، لذلك اعتمد بظهره على الجدار جيدا ً خشية الوقوع ..
أول ما فتح عينيه ، كانت وجوههم تدور حوله بعنف ، ثم تباطأت بالتدريج ، وبعد قليل ٍ توقفت عن الدوران ، وجه ٌ عن يمينه وآخر ٌ عن يساره . تمنـّى أن تعاود تلك الوجوه الدوران كرّة ً أخرى ، آملا ً أن لا تتوقف أمام وجهه !..
ما إن وجدوه قادرا ً على التركيز ، حتى طرحوه أرضا ً ، انهالوا عليه بتلك الأدوات القريبة منهم بالضرب المبرح ، لفترة ٍ غير قصيرة ٍ ، حتى سقط مغشيا ً بين أيديهم . أغلقوا الباب دونه وتركوه هكذا .
في اليوم الثاني ، كان جبّار أكثر استعدادا لمواجهة أية حفلة جديدة على الرغم من الآلام الفظيعة التي ما زال يغوص في لـُججها ، وفي الوقت عينه ظهر الضابط أكثر إصرارا ً على انتزاع اعترافاته هذا اليوم بأي ثمن ٍ ..
لم يبخلوا عليه بأية وسيلة ٍ من وسائل التعذيب ، جرجروه إلى القبو مرة أخرى ، وأوثقوا يديه إلى الأمام بقوة ٍ . أحضروا عقب برميل ٍ صدىء ، كان عمال البناء يستخدمونه في عملهم . وضعوا يديه المقيدتين في عقب البرميل ، وأخذوا يغمرونهما بالخليط الأسمنتي المعمول توا ً..
تبادر إلى ذهنه أنهم يمازحونه مزاحا ً صبيانيا ً ، أو أنهم يريدون إخافته ، حين غمروا كلتا يديه إلى حد الرسغين بالأسمنت المخفوق مع الحصى . كانوا يتضاحكون بصخب وهم ينجزون ذلك .أمسكوا يديه بقوة ٍ ، تاركين الأسمنت يتصلب حولهما تماما ً . بعد جفاف الخليط توقفوا عن الضحك ، قالوا له ( تصبح على خير ) ، وأغلقوا الباب خلفهم وذهبوا !!..
تركوه وهم يتوقعون انهياره في كل لحظة ٍ .
حين طمروا ساعديه بالأسمنت ، أحس ّفي أول الأمر بموجة من البرد تنساب إلى جسده وتنعشه ،فغمت رائحة الخليط الطيبة صدره ، فانشرح لها .
بعد دقائق فقط من ذلك الانتعاش ، انحسرت موجة البرودة ، وبدأ الدفء يتصاعد عبر يديه . وما هي إلا ّ دقائق أخرى حتى أخذت موجة حرٍ لهـّاب ٍ راح يستعر ، يتسرب ويحرق كيانه .
كانت يداه مثقلتين بالاسمنت الحارق , السخونة تتصاعد إلى جسده , و تمور في صدره , يحس بتقلب أحشائه , وهياج حالة من الغثيان , وتباطىء أنفاسه . كان أوار اللهب قد جفـّف لعابه , أحس بالعطش الشديد , وبدأ الخوار يدب في جسده ..
ركـّز نظراته على يديه العاريتين , فوق الرسغين , كان جلدهما قد اخضَرّ أول الأمر , ثم أخذت تشوبه الزرقة , لكنه بعد ساعة ٍ ما لبث إن تحوّل إلى أحمر متخثر مخلوط بالخضرة والزرقة معا ً , كانت آلامه تحتد , يأخذ بالتأوه بصوت ٍ مكتوم . لم يكن راغبا ً أبدا ً أن يكون له مظهر الضعيف والذليل أمامهم , كان يكز أسنانه من فرط الآلام والأذى , حريصا ًعلى ألا ّ يسمعوه يتألم . كان أوار الحريق يشب , والعرق يتفصد على وجهه وينز من كل أركان بدنه . تركوا جزءه العلوي عاريا ً , وكان صدره وثدياه المنتفخان وبطنه مبللة بالعرق.
كان يسمعهم من خلف الباب .. يسمع ضحكهم الهستيري . لقد غمروه بالأسمنت وتركوه كقطعة بناء .. تركوه هكذا بكل خسة ٍ ونذالة ٍ ..
ظل يتعذب ويستمع إلى مزاحهم ولغطهم الصاخب . إنها مفارقة واضحة , أن يكون لشرطة الأمن هذه القدرة على الثرثرة والتهريج , بينما هم يطوفون الشوارع والأسواق بهدوء ٍ بارد ٍ وسكون ٍ غامرٍ , يتجولون بقمصانهم الريفية الألوان , وأصابعهم تعبث بالميداليات التي حشروا فيها الكثير من المفاتيح !..
كانت أحشاءه تتمزق من الحرقة , والخدر شلّ حركة جسده . اجترّ لعابه بلسانه المتخشب , أنهكه العطش كثيرا ً . فكـّر أن يطلق صرخة احتجاج ضدهم , لكنه تراجع , اعتقد َ أن الصراخ أمامهم عمل ٌ مضحك ٌ . كان يحاول الصمود طويلا ً .. طويلا ً إلى أقصى حد يقدر عليه . وحقيقة ً كان صامدا ً بالفعل في ذلك الوقت , كان مثل بعير يعبر الصحراء عطِشا ً , عند الهجير , وهو ينوء بحمله الثقل ..
في تلك اللحظات الرهيبة , راح يستذكر أخبار الصياقلة الذين سقطوا في قبضة الحكومة . كانت أخبارهم بحق شرفا ً يـُشَرّف الآخرين , والأبهى من ذلك إنه استعاد صورة صبري البغدادي الجميلة , الذي لم يلتفت خلفه ، ولا التفت يمينا ً ولا شمالا ً في يوم ٍ من الأيام رغم جسامة أعماله .
في هذه الأثناء طغت في القبو رائحة كانت تتسرب من الكوة الصغيرة المفتوحة , المواجهة إلى النهر .. إنها رائحة الماء الزنخة , تلك الرائحة التي كان يشمّها في أواسط آيار , كل سنة ٍ ..
يشمّها ليوم او يومين ثم تختفي , إنها رائحة ذبابات آيار الميتة , التي تحملها صفحة ماء النهر , بعد انقضاء حفلتها العابرة !..
إنها ذبابة اليوم الواحد .. الذبابة التي لا تعيش سوى يومٍ واحدٍ فقط لتتساقط نافقة عند الغروب , بأعداد هائلة فيجرفها النهر بعيدا ً ..
كان يشعر بأن الذبابات تموت بين يديه , بوسعه أن يرى النهر جاريا ً ، ترتعش فوق سطحه الآلاف المؤلفة منها وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة ..
كانت رائحة النهر تزيد مشاعره بالألم . نازعه الشوق إلى أبناءه وزوجته , دخل في روعه انه سيموت قريبا ، لذالك تاق إليهم توقا ً قاتلا ً . صار تنفسه صعبا ً, فتح ثغره وأخذ يسحب الهواء وينفثه بصوت مسموع .. انتابته حالة غثيان عارمة , ورغما ً عن أنفه , انطلق يصرخ حتى فقد وعيه كاملا ً, وتهاوى محطما ً !..
لم يكن يدري كم من الوقت مر , ولا يدري ماذا حلّ به , حين استعاد وعيه وجد يديه متحررتين , وجسده مبتل بالماء . حاول تحريك يديه لكنه فشل . نزل بنظره إليهما , فوجدهما مسلوختين , وكأنهما أخرجتا من النار للتو . كانتا تؤلمانه ألما ً حقيقيا ً . حاول مرة أخرى تحريكهما , ليجد نفسه عاجزاً عن ذلك .
بعد أكثر من ساعة , جاءه الضابط بهيئة ٍ ثعلبية , حاملا ً قدح ماء , قدّمه له بشيء من الاحترام , لكن جبّار لم يكن قادرا ً على تحريك يده . غمز الضابط إلى شرطتة غمزة ً ذات معنى , وطلب منهم بذل العناية له .
في اليومين التاليين , اهتموا بتضميد جروحه ومسحها بالمراهم , تأكد لهم أنهم نجحوا في جعله عاجزا ً عن ممارسة أي عمل ٍ مستقبلا ً . وبعد منتصف الليل .. في خلو الشوارع وظلامها ، أعادوه إلى بيته .
مرّت ستة شهور , كان جبّار الصيقل فيها يجلس نصف مشلول على كرسيه المتحرك . وبعد توقف طارىء وقصير عادت ذخائره تنوّر في سماء ليالي الأرياف والضواحي ثانية . هلـّل الصياقلة لأخباره وامتلأت صدورهم فخرا ً بمواقفه الرجولية . وحين طرقت الأخبار مسامع صبري , في بغداد , طار فرحا ً , وزأر زئيرا ً هادرا ً وهو يعلن بأعلى صوته انه أسد يتعامل مع أسود . ذالك اليوم أصرّ صبري على إيصال كل المواد التي يحتاجها جبار في عمله إلى مدينته , وإلى ورشته مباشرة , دون الحاجة لمجيئه إلى بغداد .
في ورشته ، كان جبّار نادرا ً ما يستعمل لسانه الثقيل ، يُوجه ولده بعينيه فقط . كان هذا يلتقط تلك النظرات ويصحـّح عمله ..
في وقت ٍ قصير ٍ، غير متوقع من الأب ، أتقن الولد حرفة أبيه . صار يُطلي حتار الأطلاقة بلون أزرق ، هو ماركة مميزة لذخيرة جبّار الصيقل ، التي يفضّلها الزبائن على غيرها من العتاد . وإثر كل عمل ٍ كان الابن يضع في راحة والده أطلاقة من إنتاجه , يتأملها جبار بزهو وامتنان .. يتأملها مليا ًوهو جالس على كرسيه بكامل أناقته .. جالس ٌ راضيا ً ومطمئنا ً ، كما يجلس الأب في المقعد الخلفي وهو يترك قيادة العربة لولده .
غضـّت الحكومة أبصارها وهي ترى دخان البنادق يسربل سماء المدينة بثوب الحداد ، ويملؤها بالبارود .
كان بإمكانها أن تلقي القبض على الرماة جميعا ً، إلا ّ أنها وقفت ساكنة ، مرتاحة جدا ً ، وهي تنظر إلى هؤلاء الناس يحملون جثمان جبّار الصيقل ويغربون به بعيدا ً عن وجهها !..
إن هذا اليوم من الأيام المريحة لها .
أسابيع قليلة انتهت بعد وفاة الصيقل ، لتتواتر على ألسن الشرطة والمخبرين أقوال ٌ تفيد أن ذخائر جبار عادت ليتداولها الناس من جديد ، بل أن بعضهم سارع ليدس في أيدي رؤسائه تقارير تؤكد ذلك بشكل جازم !..
بهتت الحكومة وانعقد لسانها دهشة ً ، واعتقدت أن ذلك محض أراجيف ، ألقاها على المدينة طيف جبار الذي لم يكد يبارحها توا ً .. ذلك لأن جبار ينام في قبره الآن بكل تأكيد ، وهذا ولده القاصر أبعد ما يكون عن هذه الأعمال ، خصوصا ً أن البعض يجده غير ذي نفع ٍ ، ويرونه ، على حد زعمهم ، لا يستطيع حتى فك أرجل الدجاجة ، إنه ، كما يتوهمون ، مجرد حدّاد صغير منغمس طوال نهاره بأعمال حدادة تافهة بالكاد توفر له لقمة العيش ..
من الواضح أن الشرطة إذا أرادت تحرّي الأمر بخطوات مسددة ويقين صادق ، يترتب عليها أن تتعامل معه تعاملا ً روحانيا ً صرفا ً ما دامت شكوكها تنصب على جبّار وحده ، لكن من الأوضح أيضا ً أنه لا يوجد شرطي روحاني واحد على ظهر الأرض كلها . وهذه النقطة بالذات تحولت إلى سؤال ٍ لجوج ما فتيء ينقر في رأسي .. سؤال يقول : ( هل خلق الله الشرطة بلا روح ؟.. )
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
‹ ٭ › من قصيدة : تعاليم ف . العزاوي إلى العالم . للشاعر العراقي الكبير فاضل العزاوي .
08-أيار-2021
15-آذار-2011 | |
08-تشرين الثاني-2010 | |
02-تشرين الثاني-2010 | |
18-حزيران-2010 | |
17-آذار-2010 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |