بائع الصُوَر المقدسة
خاص ألف
2010-11-08
ِعِبرَ موجة تخيلات غامضة متلبدة ، استغرقت تفكيره العميق ، أفصح ( جابر ) ، جهارا ً ، عن تصوره ، حين قال ( إن السماء لم تعد مفاوز خالية ، إنما أصيبت بالزحام هي الأخرى ، كما أصيبت الأرض التي نعيش فوقها .. زحام يفوق التصور ، يسد المسالك والطرقات ، وينذر بدعس الطيور عند تحليقها . لم تعد السماء خالية ، إنما باتت موئلا ً لكثير من الآلهة والأرباب . ولكل رب ٍ جيش من الملائكة ، تتبعه تلك الأرواح التي لا تــُعد ولا تــُحصى ، صاعدة ً نازلة ً عبر مسالك شعابها !.. إن السماء أخذت تفقد هدوءها ذاك الذي كان يرين عليها كل مساء ، أيام كان فيها إله واحد وحسب ..
هذه التهويمات التي غيمت في سماء خياله ، بعد ذلك الحادث العارض ، بدت غريبة وظلماء ، أخذت تخيفه وكأنه قد آمن بها حقا ً..
كان جزعا ً وهو يشعر بتثاقل الوقت الكسيح .. يا للوقت العنيد .. كم يبطئ و يبطئ حين نكون عجولين !..
ارتجت الشاحنة ارتجاجا ً مزلزلا ً صاعقا ً ، عندما توقفت فجأة ًأمام الحاجز الذي برز لهم مصادفة ملقى في عرض الطريق .. حاجز من كتل طينية مرصوفة ، وعلى مدى مسافة قليلة ٍ أوقفت سيارة صغيرة وقفة ً اعتراضية .. هكذا بدا الطريق موصدا ً ، بينما توزّع ثلاثة شبـّان يشهرون بنادقهم بتهيؤ أرعن استعدادا ً لإطلاق النيران !..
عقب لغط ٍ لم يدم طويلا ً ، أذعن سائق الشاحنة أخيرا ً إلى أمرهم ، أوقف محرّكها وترجـّل منها ، كما طلبوا من جميع المسافرين إخلاءها وحمل أمتعتهم معهم .
وفي الحال وثب أحدهم إلى داخل الشاحنة بخفة ٍ ورشاقة ، تولى تفتيشها سريعا ً ، ثم ترجـّل ليقف عند بابها شاهرا ً سلاحه ، يقظا ً..
عند الفجر الأغبش ، في تلك الوهاد الطينية الصامتة ، أنزلوهم بعيونهم الذابلة ، لتنفحهم الريح الباردة . أوقفوهم تحت السماء الخالية ، حيث خيوط الضوء الباهت الرقيق ، وحيث الزعق الكسول للطيور البعيدة ..
كان الأفق بعيدا ً.. بعيدا ً وباردا ً ، على صفحته لمسات مرعبة وغريبة ، كان هناك صوت الريح الذي يشبه النواح ، وكانت أطراف ملابسهم تخفق باضطراب ٍ ، تلك الخفقات السريعة المفزعة ..
قاد أحد قطـّاع الطريق السائق إلى جانب الدرب ، طلب منه أن يجلس هادئا ً وظهره إليهم .. فيما شرع الآخران بصف الركاب في صفٍ واحد ٍ على شكل قوس حول الشاحنة ..
كان ( جابر ) واقفا ً يتلدد بحيرة ٍ يمينا وشمالا ، بقامته الفارهة ، وملامحه الرخامية القاسية ، بذلك الوجه الذي لم يتغير منذ سنين طويلة .. الوجه الذي يشبه قناعا ً بائسا ً . يلف حول رقبته منشفة ً خضراء ..
ظلّ واقفا ً بتعاسته ، يحدق في شحوب الركاب .. في تجاعيدهم المتباينة ، التي بدت وكأن كل شخص ٍ منهم قد اختار الأخاديد التي تناسب همومه . كان يتنفس بصوت ٍ مسموع مثل أحد ٍ جاء جريا ً عبر الطريق . الخوف المريع جعل وجوه المسافرين مُزْوَرّة وكان يمكن سماع وجيب قلوبهم . كان يرمي بنظره بعيدا ً .. بعيدا ً لعل شاحنة أخرى قادمة تحمل معها أمل الخلاص من هذا المأزق ، وما لبث أن قال لنفسه ( حسنا ً .. ها أنذا أخيرا ً حظيت برؤية هذا المشهد الخرافي .. المشهد الذي تشعبت الأحاديث عنه بألوان المبالغة والتهويل .. والله قلت أن الحكاية ليست تائهة ً، حكاية عيني اليمنى التي لم تكف عن الرفيف ، لقد جرّبت فألها السيئ كثيرا !.. ) .
طلب أحد السالبين من ( جابر ) أن يقف في مؤخرة الصف ، وهناك وقف بقامته المديدة ، وبثوبه الأزرق الغامق ، ومعطفه العسكري ، الزعفراني ، الذي خاض فيه أكثر من عشرين شتاء مضى ..
كان لوقوفه في آخر الصف فرصة سانحة لمعاينة المشهد جملة ً وتفصيلا ، ذلك المشهد الوحشي العجيب .
أثار قطـّاع الطريق الصخب ، لم يكن أحدٌ غيرهم صاخبا ً ، هم وحدهم كانوا صاخبين !.. أقعدوا السائق على التراب جنب الطريق ، وما فتئوا يصرخون به ( أجلس لا تتحرك ) على الرغم من عدم تزعزعه . كانت أصواتهم خشنة نكراء شديدة الجفاف بلكنة ٍ غير محببة ، يتصايحون .. يتوعدون .. ويقسمون بأيمان ٍ مقدسة ٍ .. إنهم لا يقولون شيئا ً إلا ّ وهو ممزوجٌ بأغلظ الأيمان !.. ذلك الحلف الذي يجعل ( جابر ) يقع سريعا ً في سهومه وتخيلاته وهو يسائل نفسه في حيرة ٍ قائلا ً ( هل لهم رب حقا ً ؟.. ) .
البرد قارس ، جعل زمهريره أنوف المسافرين وآذانهم قانية الحمرة ، كانوا يمسحون رشحهم ويتهامسون ويستغفرون ربهم . بينما كان جلد ( جابر ) يتنمل ويقشعر المرة تلو الأخرى .
بدأ اللصوص تفتيش المسافرين واحدا ً واحدا .استهلوا عملهم بتفتيش رجل ٍ يضع على عينيه عدسات ٍ سميكة ً للغاية ، تبدو عيناه من ورائهما مثل ثقبين أسودين في جلدة الوجه ، ويرفع ذراعيه إلى الأعلى مستسلما ً بصورة مضحكة ، كان يرفعهما لحاله دون أن يطلب منه ذلك أحد ٌ .. يرفعهما مثلما نشاهد الأمر في أفلام العصابات ، بل أنه كان متماديا ً مبالغا في رفعهما إلى أقصى حد ٍ وكأنه ينتظر من السماء أن تنتشله من هذا الخطر المحدق .
كان اللصوص جريئين ورشيقين ، مُدَرَبين تدريبا ً كافيا ً ، وكانت نظراتهم قاسية شرسة . يطلقون أوامرهم بشكل قاطع . يوشكون على رمي الرصاص . تفحص ( جابر ) بنادقهم بنظرات ٍ مشمئزة ٍ ، كان يعتقد أن رصاصهم مز ّق العشرات من الأجساد البريئة . شرعوا يسلبون كل الأشياء ( النقود .. و الساعات والخواتم .. وكل شيء ثمين ) ، كانوا يرمون تلك الأشياء في علبة ( كرتون ) يضعونها بين أقدامهم . بعدها يأخذون بتفتيش الأمتعة الشخصية أيضا ، وحالما ينتهون من الشخص يطلبون منه دخول الشاحنة ، والجلوس في مقعده دون حراك ، وهم يقسمون أنهم سيرمون رأسه من النافذة إن أتى بأية حركة .. كانوا يعملون بدربة ٍ ومهارة كأنهم عسكر الشيطان !..
عند منتصف الصف ، أتوا إلى تفتيش شاب في مقتبل العمر ، وبعد أن سلبوا جميع ما لديه من نقود تناولوا كيس متاعه وعثروا فيه على البرتقال ،أخرج اللص واحدة منها ، أزال شيئا ً من قشرتها ، ثم قضم منها قضمة ً صغيرة ، وبعد أن ازدردها سريعا ً صاح في وجه الشاب قائلا ً :
ـ إن برتقالك حامض ؟..
ارتبك الشاب وقال له :
ـ إنه برتقال مصري .. برتقال من أفضل الأنواع ..
قلــّب اللص البرتقالة بين أصابع يده ، تأمل العلامة التجارية الصغيرة الزرقاء ، البيضاوية الشكل ،الملصقة فوق القشر .ثم رفعها بطرف أظافره وسارع إلى لصقها على جبين الشاب وهو يؤكد أنها ليست علامة برتقال وإنما علامة ملابس داخلية .، وقال له ( اصعد ، خذ ْ مكانك ، وسوف أسلخ جبينك إن أزلت عنه هذه العلامة ) . جلس الشاب في محله مرتبكا ً محمر الوجه بعلامته الزرقاء . هذا المشهد الكوميدي السريع المصحوب بوابل من التعاسة ، جعل ضحكة ً تنفلت من فم ( جابر ) فجأة ً ، وبصوت ٍ مسموع ، الأمر الذي حدا بأحد اللصوص إلى رميه بنظرات شرسة فتـّاكة وقال له وامضا ً بالشر :
ـ أحترم ْ شيبك أيها الطويل الصقيع ، وانكب في مكانك صامتا ً ..
إن المشهد الذي أضحك ( جابر ) سرعان ما أبكاه ، حين جاء الدور إلى امرأة مرضعة تحمل بين يديها طفلا ً مثل طير ِ من ذهب ، وهي تحاول أن تحرّر يدها الضعيفة من يد اللص متوسلة ً ، باكية ،ً متضرعة ً ، خجلة ً !..
أتموا تفتيش الجميع ، الذين أفرغوا كل ّ ما كانوا يحملون معهم من أموال في علبة اللصوص .
لم يتبق َ سوى ( جابر ) الذي أشار إليه أحدهم بأصبعين فقط قائلا ً له بشيء من الظرف :
ـ هيا تقدم أيها الضحوك .. تعال إن مستقبلنا الزاهر يكمن في معطفك الجميل هذا ..
ابتسم ( جابر ) نصف ابتسامة ٍ فقط ، أما النصف الآخر فقد ظلّ عالقا ً بين فكي الخوف والحيرة .
ملش اللص جيوبه ملشا ً سريعا ً . لم يجد فيها سوى مبلغ ٍ ضئيل ٍ .
يمكن القول أن ( جابر ) لم يكن خائفا ً كخوف الآخرين ، وعلى الرغم من أنه كان متفاجئا ً ، اختلطت عليه الأمور ، إلا أنه وقف ثابت الجنان نوعا ً ما ، فقلبه يخفق بين ضلوع رجل ٍ كان في يوم ٍ من الأيام شرطيّا ً خيـّالاً جوّاب آفاق ٍ جسوراً . كم هي المرّات التي هبّ فيها منطلقا ً على حصانه لمطاردة اللصوص والمجرمين ..
اغتاظ اللص وقطب وغمغم منزعجا ً بعد أن سل ّ يده من الجيوب فارغة ً ، بينما ظل ( جابر ) ساكتا ً لم يفه بكلمة واحدة وهو يسمع اللص يسأله ( هل أنت تسافر بالمجان ؟ ) ، وتفاقم غيظ اللص إزاء سكوته ، فتراجع خطوة واحدة إلى الخلف .. خطوة واحدة ، يمكن أن تكون كافية ً كيما يتفحص وجه ( جابر ) كفاية ً ، ثم سأله ساخرا ً وهو يربت على صدر معطفه ، بصوت ٍ عال ٍ أراد أن يسمعه الجميع :
ـ هل كنت آمر لواء في القوات الخاصة ؟.. ألا تستحي من نفسك ؟ .. كل هذا الطول وأنت لا تملك شيئا ً .. ألا تقل لنا ما عملك ؟ ..
حاول ( جابر ) بشيء من رباطة الجأش وبرود الأعصاب أن يراوغ اللص و يمتص من غضبه قليلا ، ذلك بأن يدلف إليه في الكلام من باب التقوى ، إذ النفحات الإيمانية يمكن أن تطيّب النفوس وتلين القلوب القاسية ، فقال على الفور :
ـ أنا بائع صور مقدسة .. صور الأنبياء والأوصياء .. إنني لا أحمل نقودا ً فذاك لأنني تسوقت بها جميعا ًمن هذه الصور..
عند ذلك سأله اللص مدقــّقا ً :
ـ وأين هي تلك الصور ؟ ..
ـ في صندوق السيارة ..
أجابه ( جابر ) وهو يحس بأنه تحصّن تماما ً بتلك الإجابة .
التفت قطـّاع الطريق إلى السائق يأمرونه بالنهوض وفتح الصندوق الخلفي . وهنالك وجدوا لفائف كثيرة من الورق المقوى .. لفائف ملأت صندوق الشاحنة بأكمله ..
تناوب قطـّاع الطريق على إلقاء نظرات ظفر ٍ سريعة على الصور .
تقدم أحدهم ، وكان يزين وجهه بشارب ٍ كث ، مبروم الذوائب ، يضفي إليه ملامح الخطورة والإجرام . نغز كتف ( جابر ) بإصبعه الخشن قائلا ً :
ـ هيا تقدم أنت والسائق ، وافرغا جميع الصور في صندوق سيارتنا ..
تشنـّج ( جابر ) ، وكأن أفعى لدغته في رقبته . لم يلتفت نحو اللص على الإطلاق ، إنما كانت عيناه مسمرتين فوق صندوق السيارة ، واكتسى وجهه بنقمة ٍ ثائرة ٍ . هتف به اللص ثانية ً ، إثر تلكئه :
ـ هيا بسرعة .. بسرعة لا تؤخرنا ..
التفت إليه ( جابر ) يقول ، و كفه تهتز احتجاجا ً ساخطا ً :
ـ هل تسرق صور أنبيائك وأوصيائك أيضا ؟..
في حركة ٍ آلية ٍ موقوتة ، امتدت يد اللص بصورة ٍ خاطفة ، لتصفع ( جابر )على قفاه ، ثم زجّ بندقيته في ظهره وصرخ مهددا ً :
ـ والله إن لم تنقلها حالا ً ، سأسلخ جلدك وأجعله معطفا ً..
وأردف تهديداته بالسب واللعن بأبشع وأنبا العبارات والكلمات الصادمة . سارع ( جابر ) ليغطي وجهه بمنشفته الخضراء أمام الواقفين ، جريا ً على عادة أسلافه الريفيين حينما يتوقون الشتائم والسباب المباشر!..
بعد أن انتهيا من نقل الصور ، سارع اللص نفسه إلى إفراغ جيوب السائق أيضا قبل أن يأمره بالمغادرة .. يا لهذه الخسة والنذالة .. يا لألفاظه الوحشية التي تذبح وتسلخ !..
كان ( جابر ) يرتعد من البرد ، يداه ترتجفان .. ترتجفان أثما ً ، غالبه الإحساس بالكفر حين انصاع لرغبة اللصوص الباطلة ، أحسّ بأن لوزتيه قد تضخمتا إلى حد ٍ لا يُطاق ، عندما يبتلع ريقه لم يجد ثمة لعابا ً في جوف حلقه ، لم يكن قادرا ً على الكلام ، في تلك الساعة النكداء كان مريضا ً..
ما إن أصبحت الشاحنة بعيدة ً عن تلك المفاوز ، ولم يعد بالإمكان رؤية قطـّاع الطريق ، حتى انطلقت ألسن المسافرين من مخابئها ، شرعوا يثرثرون بشكل عجيب كأنهم طيور مهذارة .. أخذوا يصبون نقمتهم ولعناتهم بلا طائل ، يستغفرون ربهم كثيرا ، ومع ذلك بقوا خائفين ، يفزّون رعبا ً من صفير الصافر ِ ، وبين لحظة وأخرى كانوا يؤازرون السائق بكلمات ٍ تافهة ٍ ، وهم يدعونه إلى التنبه والحذر ..
في صمته المطبق ، كان ( جابر ) منزعجا ً ،يساءل نفسه مستغربا ً كيف يتأتى لهؤلاء الناس المتضرّرين إهراق هذا القدر من الكلام ، من لا يعرف حقيقة ما جرى سيظن أنهم منتصرون ، وهو لم يرَ كيف صبوا نقودهم بين أقدام اللصوص بسخاء .. إن جلّ انزعاجه كان بسبب ذلك القصير صاحب النظارات السميكة .. ذلك الذي كان مستسلما ً قبل قليل مثل استسلام جنود المطابخ ، حين يقف العدو فوق رؤوسهم ، أحسّ ( جابر ) أن في ثرثرته بعض المرح !.. لم يسكت أبدا ً ، ولم يوقفه أحد ٌ ، لكنه عندما قال إلى الآخرين ( الحمد لله ، هذا الأمر قد حدث لنا ولا غيره .. إن فيه صالحا ً.. ) قفز لسان ( جابر ) مذعورا ً وهتف فيه :
ـ ألا تنكب .. ألا تسكت .. أي صالح ؟.. أي طالح ؟.. لقد سرقوا كل ما أملك ، لم يعد عندي فلس أحمرَ ..
عم ّ الصمت ، وعاد ( جابر ) إلى سهومه وتساؤلاته الخرساء . لم يكن مصدقا ً ما حدث ، ماذا سيفعلون بكل تلك التصاوير ؟ .. إنها لا تؤكل ولا تـُشرب .. وإنهم بكل تأكيد لن يجلسوا في الأسواق لبيعها ...
* * *
إلى هذا الحد سأتوقف عن تسميته باسم ( جابر ) ، لأن أهله وأصدقاءه كانوا يُرخمون اسمه فينادونه ( جبر ) ، ومازلت أعتقد حتى الآن بأن هذا الاسم المُرَخـَم لا يليق به تحديدا ً ، لأنه وفق تصوري يليق برجل ٍ قصير ٍ وبدين ، داكن الوجه ، شهواني ، وحسب .
كنت أدعو الله مخلصا ً أن يمد في عمره ، حتى أفيض في الكتابة عنه وأخلق منه بطلا ً فذ ّا ً.
لكنما الموت خطفه وفوّت علي فرصتي ، فجعلني لا أصَنـِفه إلا ّ ضمن الخانة السفلى من خانات الفرسان !..
كان ( جبر ) من بقايا شرطة الخيـّالة البائدين ، آخر شرطي ترجّل عن حصانه ، وقاده من زمامه بألم ٍ يستعر سعير النيران في قلبه ليـُسـَلِمه إلى الحكومة ، التي ألغت هذا الصنف الأمني العتيق في أوائل سنوات السبعينيات . وإزاء الكبرياء المضطرم في صدره ، رفض ( جبر ) التحول إلى شرطي اعتيادي ، ولذلك عدّ مستقيلا ً من الخدمة .
لا أحد ينسى كيف كان ( جبر ) يقود حصانه بملابس الخيـّالة ، وتلك الأربطة الضيقة الملفوفة حول ساقيه ، وذلك السوط الأنيق الذي لا يحمله سواه ، وهو يطوي القرى والسهول كل يوم غير هيّابٍ ، بوجهه الأسفع المتجهم الجسور ..
حالما اعتزل عمله ، جاس في السوق ، قرب دكاكين الخياطين ، يبيع الصور المقدسة ، مداوما ً على ذلك زمنا ً طويلا ً .
كان يجلس أمام الخياطين مباشرة ً ، جلس زهاء عشرين عاما ً، عبوسا ً ، لا يرفع بصره عن تصاويره ، و لا يعلم حال الدنيا إن كانت طشــّت أم رشــّت ، كما يزعمون . يلوب ويردد أراجيزه الدينية ، والأشعار المرنمة ، أو يندب مغمغما ً بصوت غير واضح ، وكأنه يبكي في غمرة غيبوبة ٍ. وحالما ينده عليه أحد الزبائن ، فإنه يفز من غمرته متأوها ً متأففا ..
جميع من يعمل قريبا ً منه كان يكن له العطف ، لم يروا أحدا ً تجرأ عليه في يوم ٍ من الأيام ، كان يجلس بين باعة الخضار ، يكاد يكون مختبئا ً في الزحام ، إن من لا يهمه أمر هذه الصور ، لا يتنبه إلى وجوده مطلقا ً .
يجلس على الرَحْـلِ ، أو هكذا يُسَمون مقعده الملفوف بأكياس الخيش ، وينشر أمامه التصاوير ذات الألوان الساخنة التي تكاد تحرق الورق !.. تصاوير فيها الشيء الكثير من العفة والطهارة .. يطمئن إليها القلب ويبرد .. تصاوير حزينة ، مخيفة بصمتها الناطق ، إنها لا تسكت لحظة ً واحدة . فقط تملـّى فيها منعما ً أنظارك . استمع لما تقول . يا للرهبة .. يا للجلال !.. أي نور قدسي يشع من عيون أولئك الذين يحدقون بك في تصاويرهم وكأنهم الشموس ..تأمل صور الأطفال المذبوحين على صدور أمهاتهم .. صور السهام والرماح تقطر دما ً .. صور الملائكة الشفــّافين بألوانهم الفردوسية .. وتلك الهالات المتألقة بالألق الرباني .. صور لم تـُرسم للعين وحسب ، إنما رُسِمت أيضا للسمع واللمس .. لرفيف القلب والروح ، الذي يشبه رفيف بتلات الورد في هبّات نسيم الفجر البارد .. أحيانا ً أغمض عينيّ وأتأملها مأخوذا ً، ورعشة الخوف تسري في دمي .. هذه هي الحقيقة ، والله أنا لا أكذب .
* * *
لم يبرح البيت طوال ثلاثة أيام ٍ متتالية ، إثر عودته المنحوسة ، كان مصابا ً بنزلة برد جعلته شاحبا ً منهكا ، لاذ بالصمت المهين ، ومع إن جروحه عميقة غائرة لكن نسمات من شرف الماضي وهيبته تسللت إلى روحه دافئة ً ، وحرّكت حماسته ـ وجعلته يركن متفكرا ً، وقد هاج في نفسه هائج الخيـّالة الشجعان . أخذ يردد في صمت :
ـ أصح يا جبر .. هل يُعقــَل أن يسلبك هؤلاء الصبية المراهقون كل حلالك ويقعدوك على الحديدة ؟.. هل تتخاذل أمامهم وأنت الشرطي الهمام الذي ما هاب اللصوص والمجرمين يوما ً ؟ . .
بدا مصرّا ً على التحدي ومغالبا ً أحاسيس الخوف ، وما انفك يخامره الشعور بأنه شخص مغدور . في اليوم الثالث أعلن عن عزمه في الذهاب لاسترداد تصاويره !..
ضحكت زوجته من الأعماق ، وهي تنصت إلى هذه الترّهات ، ثم قالت ساخرة ً :
ـ هل تذهب إليهم ببندقيتك العمياء وذخيرتها الفاسدة ؟ ..
نظر ( جبر ) بمرارة ٍ في عينيها الساخرتين ، وقال في هدوء وتصميم :
ـ كلا .. سأذهب إليهم مشتريا ً ..سوف أعرض عليهم مبلغا ً من المال .. ماذا سيفعلون برزم التصاوير ، إنها لا تــُفيدهم بشيء .. إنهم بالتأكيد ليسوا مؤمنين حقيقيين .. سيقـلـّبون الصور واحدة ً واحدة ًثم يعيدون رزمها من جديد .. إن أي مبلغ ٍ من المال كاف ٍ لإغرائهم ..
خامرته طيوف الماضي الجريء وألهمته شرطة الخيـّالة وماضيها الزاخر بالتجارب الكثير من الأفكار ، قال إنه سيتفقد القرى القريبة من مكان السلب ، ولسوف يستجير بأحد الخيّرين الأجلاء من وجهائها المعروفين ..
هذه الفكرة التي قدحت في ذهنه سريعا ً .. التي أشكلت على فهم زوجته ، بعد أن التبس عليها القول ، وجدت لها صدى وقبولا ً في نفسها أخيرا ً، فسارعت إلى اقتراض بعض النقود من أهلها لإعانته على تنفيذها ..
في صباح يوم ٍ آخر سافر ( جبر ) مرافقا ً بالدعوات والكثير من الملاحظات الحذرة المتخوفة ،
وبعد مسير طويل ، خلـّفته السيارة وحيدا ً في ذلك المكان الشاسع .. المكان الذي يُطلـَق عليه اسم هو في الواقع اسم من أسماء الله الحسنى ، غير أنك ، بصراحة ٍ ، لا تصادف شيئا ً حسنا ً فيه .
البيوت الطينية المتناثرة بين الريح القارسة .. السحب الباردة التي تمر من أمام الشمس الفاترة .. الدروب النيسمية التي تقود إلى اللاشيء .. إنه عالم ملقى في الصمت الأبدي الموحش .. في العدم .. عالم يثير في البال سؤالا ً واحدا ً لا غير هو ( كيف يمكن أن يعيش هؤلاء الناس إن لم يكونوا لصوصا ً ؟ .. ) .
كان يحدق في تلك الأصقاع بعينين إحتقاريتين قلقتين .. عينين مثل فوهتي مسدسين وهو يهمّ متوغلا ً فيها مشيا ً على الأقدام ..
لم يكن خائفا ً ، كان قلقا ً وحسب ، إنه تجشم اقتحام مثل هذه الأماكن من قبل . مازال مزكوما ً ورشحه سيـّال ، لكنه يمضي مفعما ً بالأمل ، إذ تجهز لهم بمبلغ ٍ لا بأس به ، يكفي لتدمير تعنتهم وكسر ضلالهم ، أولئك الأوغاد الذين لم يرَ من هو أكثر ضلالة ً منهم أبدا .. كان ماضيا ً بلا تردد لاستعادة تصاويره المقدسة..
كان متعبا ً ، يتوقف بين مسافة ٍ وأخرى ليدهن منخريه بمرهم ( الفكس ) ذي الرائحة النفاثة ، الذي يعينه على التقاط أنفاسه ..
من دون صعوبة ٍ كبيرة ٍ ، استطاع العثور على الرجل الجليل الذي بحث عنه ، ليكون سائسه في الوصول إلى اللصوص و التفاهم معهم . لم يكن ( جبر ) يعرف شيئا ً عن الرجل سوى أن اسمه ( الحاج فلاح ) ، غير أنه تفاجأ بنبله ودماثته ، بأنواره الباطنية التي تترقرق بين قسمات وجهه ، وتجعل ذلك الوجه موسوما ً بشيء من سمات الوجوه المرسومة في تصاويره .. وقبل حلول الظهر انتهيا وعبر درب ٍ طيني ضيق ٍ إلى دار ٍ منزوية ، يسكنها اللصوص .
يتقدم الدار هيكل واسع مصنوع من القصب والحصر ، سرعان ما انشق بابه الصغير عن شاب هشّ لاستقبالهم ، وأدخلهم إلى المضيف مرحبا ً بإجلال ٍ ، ثم نده على أخويه يطلب حضورهما .
جلس اللصوص قبالتهما ، وهم يتطلعون إليهما بنظرات ٍ باردة ٍ كنظرات الأفاعي .. نظرات مطمئنة .. نظرات من لم يقترف أيما ذنب ٍ ..
على الفور ، تـَعَرَفَ ( جبر ) إلى وجوههم ، واحدا ً واحدا ، كانوا متشابهين ، ومتقاربين في أعمارهم كالتوائم .
في أحد أركان المضيف ، ركع رجل مسن ، في رهبة ٍ صوفية ، مستغرقا ً في صلاة الظهر ومنسلخا ً عن العالم تماما ، فيما دأب اللصوص يتكلمون بلين وهدوء حرصا ً أن لا يزعجوا ذلك الشيخ في صلواته .
تطلع ( جبر ) إلى الصور التي غطت جدران المضيف ، صورة جنب صورة ، وكأن هنالك معرضا ً للصور .كان ( جبر ) يحتسي قهوته وهو يتأملها ، ليعرف فورا ً أنها تصاويره .. و أن أصباغها لم تزل ندية ً تكاد تسيل على الجدران !..
ابتدر الرجل الجليل كلامه بالبسملة ، ثم أخذ يُترع كؤوس الحكمة تباعا ً ويدير بها رؤوسهم.. وما لبث أن قدّمَ لهم ( جبر ) ، بوصفه واحدا ً من ضحاياهم ، وقد بالغ كثيرا ً في استعراض فقره المدقع حين وصفه بأنه يعيل جيشا ً من الأطفال والنساء . عقب تشعبه في الحديث ، ارتجاهم الحاج إعادة الصور إلى صاحبها احتراما ً لقدسيتها واحترازا ً من المساس بها ، ولأنها أيضا ً ، أساس معيشة جيش الفقراء ذاك ..
كان خطاب الرجل طويلا ً ، عقلانيا ً ، ومؤثرا ً .. كان مؤثرا ً إلى الحد الذي تمنى فيه ( جبر ) أن لا يرى الدموع تتجمع في عيون اللصوص وهم يبكون في أثمهم ، إنه لا يطيق رؤية الرجال مختنقين في عبراتهم .
لكنما اللصوص في الواقع ، كانوا قد استوعبوا الدرس من أول عبارة ٍ قالها الحاج ، وراحت جفونهم تومض لبعضهم البعض ، ورفعوا وجوههم الملساء ينصتون له ببرود ومكر . لم يتركوا الرجل يسترسل في الكلام وفق هواه ، إذ قاطعه أحدهم وقال له من خلال شاربه المبروم :
ـ نريد أن نعرف ما المطلوب منا ؟ ..
ـ أن تعيدوا صور هذا المسكين .. إن الأمر لا يحتاج إلى معرفة ..أجاب الحاج وهو يشير إلى ( جبر ) ، وأضاف :
ـ إن احترام مقدسات عباد الله يبعث البركة ويمد في الأرزاق ..
قاطعه ذلك اللص وشاربه يرتعش :
ـ كيف نعيدها وهي ملكنا ؟.. هل تعني أنك تريد انتزاع اللقمة من أفواه عيالنا ؟.. أنت تعرف يا حاج نحن فقراء أيضا ً ونعيل أسرا ً كبيرة ً ..
وزمجر لص ٌ آخر ٌ ، مثل كلب ، وقال بصوت ٍ ساخط :
ـ أنت أعلم يا حاج من غيرك . . نحن فقط نسترزق الله ، وكل ما نحصل عليه هو وسيلة عيشنا لا غير . لسنا تجارا ً ولا نطمح أن نكون تجارا ً ، فقط نقف على حافة الطريق ساعة زمن نجمع ما يهيئه لنا الله من رزق ، والحمد لله .. وهنا عقـّب اللص الثالث قائلا ً :
ـ الحمد والشكر لله .. الحمد والشكر لله .. ثم استأنف ذلك اللص كلامه مشيرا ً إلى ( جبر ) :
ـ أما هذا الرجل ، لم يطلب منه أحد أن يأتي بتصاويره ويسلك الطريق ، لكنه رزق أتى به الله وحده ، ونحن لسنا مستعدين للتفريط بأرزاقنا ..
كانت شجون الحديث مُمِلـّة غير مجدية . وجد الحاج أن الأقوال لا تجدي نفعا ً في تليين قلوبهم وترقيق مشاعرهم ، وهو يعلم كيف يفكر هؤلاء اللصوص وكيف يعملون ، لذلك انبرى إلى ما خطّط له ( جبر ) ، فشرع على الفور يساومهم بعرض النقود مقابل الصور .
تهللت أسارير اللصوص وسرى الدفء في وجوههم . انطلق أحدهم يقول في بشاشة ٍ :
ـ بصراحة ٍ .. هذه الفكرة شائقة .. بدأتم تتفهمون الأمور .. الآن باستطاعتكم شراء حلالنا ..
في الوقت عينه ِ قفز لص آخر من مجلسه ولصق جسده إلى أحضان ( جبر ) ، وكأنه يسر في أذنيه سرا ً خطيرا ً ، وقال له :
ـ أستحلفك بكل مقدساتك ، بأي ثمن ٍ اشتريت هذه الصور ؟..
ردّ ( جبر ) بصوت ٍ عال ٍ أراد أن يسمعه الجميع :
ـ بمبلغ مليون وربع المليون دينار .. أقسم بالله ورسله هذا كل ما أملك .. صمت اللصوص لحظات ٍ ثم دنا كل واحد ٍ جنب أخيه وأخذوا يتشاورون مع بعض ٍ في بسبسة ٍ قصيرة . أعلن بعدها ذو الشارب المبروم أنهم قرروا أن يتنازلوا بربع مليون دينار ٍ من المبلغ رأفة ً بحال ( جبر ) ، كذلك يتنازلون بربع مليون آخر إكراما ً للحاج ولمحضره الطيب ، وهكذا أصبح على ( جبر ) أن يدفع ثلاثة أرباع المليون فقط ليسترد تصاويره !..
تشبث الحاج بالكثير من كلمات النخوة التي صبها على رؤوسهم في محاولة أخيرة للتقليل من السعر الذي فرضوه ، دون أن يفلح .
طوال مدة المساومة ، لم تبارح عيون (جبر ) الرجل المتبتل الذي ما إن يرفع صدره قليلا ً حتى يخرّ راكعا . وعندما يأس من مساومة اللصوص ، التفت هامسا ً في أذن الحاج :
ـ من يكون هذا الرجل الصالح ؟ ..
أجاب الحاج بلا مبالاة جوابا ً مقتضبا ً .. جوابا ً استنكافيا ً في حقيقته :
ـ أباهم ..
غمرت هذه الكلمة الصغيرة المقتضبة قلب ( جبر ) بالارتياح ، وجعلته يميل بظهره إلى الخلف معتمدا ً على جدار المضيف ويُخرِج مرهمه ليدهن منخريه . سرعان ما انتشرت رائحة المرهم في أرجاء المضيف . تحسسها الرجل المصَلـّي و أخذ يعطس عطسا ً عميقا ً ، ترك صلاته ملتفتا ً نحو أبنائه متسائلا ً عن هذه الرائحة الغريبة ، لكن ( جبر ) سارع إلى إجابته قائلا ً :
ـ دهن ( الفكس ) يا شيخ .. دهن ( الفكس ) ..
ـ وما هذا ( الفكس ) ؟.. قال الشيخ مستنكرا ً .
أجاب ( جبر ) موضحا ً :
ـ عقار يا شيخ .. عقار الزكام ..
تمتم الشيخ قائلا ً :
ـ لعنة الله على هذا العقار ورائحته ..
طوى الرجل سجـّادة صلاته ، ورماها إلى جهة ٍ في حركة ٍ عصبية ٍ وملامح منزعجة ، وكأنه كان يتشاجر مع الله طوال هذه الخلوة ..
ظلّ ( جبر ) مشغولا ً بلهفة ٍ عن النقاش في مراقبة الرجل الذي فرغ من صلاته توا ً . وخلال لحظات ٍ نهض بأمل ٍ لا يُوصف ، ودس جسده الطويل جوار الرجل مباشرة ً ، وقبّـل رأسه وهو يقول له :
ـ تقبل الله سعيك يا شيخ . وراح يكيل له الدعاء إثر الدعاء . سكت قليلا ثم أخذ يشكو له أولاده ، كيف اغتصبوا تصاويره وتمسكوا بها كأنها غنائم حرب ، وكيف راحوا يساومونه عليها ..
أشار عليه الرجل بالسكوت ، وقال له :
ـ كفى .. لقد سمعت كل ما دار بينكم من كلام .. من أوله حتى آخره ..
فغر ( جبر ) فمه دهشة ً ، وقال في داخله ( يا إلهي هل كان الرجل يصلي حقا ً ؟.. ) .
أردف الشيخ قائلا ً :
ـ اسمع.. لقد تساهل معك الأولاد تساهلا ً لا حدود له .. إنهم أولادي وأنا أعرفهم جيدا ً .. إن قلوبهم جد رقيقةً ، رأفوا بحالك إلى هذا الحد وتساهلوا معك فوق التصور .. والله إن رقة قلوبهم هذه ستجعلنا نخسر حتى ثيابنا .. أف .. أف .. وراح يتأفف ، ويصفق الراح بالراح . ثم برقت في عينيه الغائرتين ومضات الغضب وراح يقول :
ـ قالوا لك هات ثلاثة أرباع المليون وخذ ْ الصور .. لماذا تطيل الكلام إلى هذا الحد وتجعله قصة .. وافق ْ فورا ً واغتنم الفرصة قبل أن يغير الأولاد رأيهم ..
تبددت آمال ( جبر ) بسهام الشيخ النافذة ، التي شكـــّت صدره وآلمته . أطرق حزينا ً إلى الأرض . ثم نطق كلمات ٍ تعثرت في فيض ٍ من الخذلان :
ـ أردتك عونا ً لي يا شيخ ..
وقبل أن يكمل ( جبر ) قوله ، نهره الرجل المسن قائلا ً :
ـ أصح يا رجل .. هل أكون عونا ً لك على أموالنا ؟..
خيوط الخيبة المرّة التي سحبت ( جبر ) من مجلسه وأقعدته في أحضان الرجل ، هي عينها التي أعادته سريعا ً ليلوذ بتلابيب الحاج مجددا ً .. الحاج الذي كان يسمع فقط ما يدور ولا يرى شيئا ً ، إذ إنه رمى بصره خارج المضيف هاربا ً بعينيه !..
أعقب ذلك صمت ٌ مرتبك ، سمح للحاج أن يهمس في أذن ( جبر ) قائلا ً :
ـ ها .. ماذا قلت الآن ؟..
انحنى ( جبر ) برأسه نحوه وقال في صوت خفيض :
ـ ماذا أقول ؟.. ليس لدي غير مائتين وخمسين ألف دينار..
قال له الحاج : ـ هاتها ..
دفع ( جبر ) يده داخل المعطف متحسسا ً ، وأخرج رزمة أوراق مالية ، وضعها في يد الحاج ، الذي طفق لفوره يحسبها على مهل .. كانت أعين اللصوص تراقب بصمت ، فيما كانت الريح توشوش بين القصب ..
عندما توقف الحاج عن العد ، رزم النقود ثانية ً ، ووضعها على الأرض أمامهم وهو يقول :
ـ هذا ربع مليون .. يمكنكم أخذه وإعادة تصاويره ..
اشرأبت دماء الغضب في وجوه اللصوص ، عدّوا ذلك استهانة بكلامهم .
مدّ أحدهم أصابعه الخشنة ليلتقط النقود ، ورماها في حجر ( جبر ) قائلا ً له :
ـ خذ نقودك وارحل ، ليست لدينا صور للبيع ..
صعد وجه ( جبر ) نحوه متوسلا ً، مادا ً رقبته إلى أقصى قدر ٍ يمكنه ، وداعيا ً له بالرزق الوفير ويتوسل به جاهدا ً إلى قبول النقود .. لكن اللص أصرّ على كلامه قائلا ً :
ـ أرجوك أرحل .. لا تعمل لنا مشكلة .. لدينا الكثير من العمل لا تؤخرنا عنه .
عمّ صمت ٌ غامر ٌ ، لا يُسمع فيه سوى صوت النفس المتحشرج الثقيل ، الذي كان يصعد وينزل من صدر ( جبر ) ، في تلك اللحظات المحرجة المهينة ، القاتلة ، بين الأغراب ، وفي ذلك المكان الغريب ، كان حيرانا ً مستوحشا ً !..
بدأ رذاذ المطر ينقر القصب بأصوات ناعمة متنافرة ،كان والد اللصوص ينصت إليه حين قال :
ـ بدأت تمطر مطرا ً ناعما ً سيطول أمده .. في محاولة ٍ للتعجيل بخروجهما ..
أثناء الصمت ، نبضت في أعماق ( جبر ) تلك النبضة العاطفية الجيـّاشة المؤثرة ، التي كانت تسكره وتأخذ بلبـّه خلال جلوسه وسط الزحام ، حينما يأخذ بالنعي والترتيل بنشيج عذب يستدر العطف ويستثير مكامن الوجع ، وهو يستذكر مصائب الأنبياء والأئمة ، وأفعالهم المجيدة ..
اهتزت مشاعره . أرسل يده في جيبه ليخرج منديله ويمسح رشحه بصوت نافر ، ثم هتف عاليا ً يطلب الصلاة على الرسول ، وأردف يندب بصوت باك ٍ شجي .. صوت مديد محزون لا يخلو من الرخامة .. مصحوبا ً بالزفرات ..صوت يشكو من أول الخليقة وحتى اليوم ، ويزهر فيه الكبرياء ، وقد أطرق القوم برؤوسهم واحمرت عيونهم ..
ختم ( جبر ) نعيه بأن نشج نشيجا ً متواصلا . ثم سكن قليلا ً ليعود ويأمرهم بالصلوات على الرسول . قبل أن يفيق أحد ٌ من ذهوله ، أوسع ( جبر ) لنفسه المكان ، وملأ صدره بالهواء ، وسارع بأن قرأ على أسماعهم الوصايا الألهية المشفوعة بالأحاديث والآيات المسهبة التي تأمر بالخير والسعي لنجدة الأخوان .. بعدها عرج يردد أشعار الحكمة التي أعقبها بتلك الأرجوزة الهائية ، الاستدراجية ، المفضوحة ، الطويلة ، التي يخاطب فيها قائلها أحد اللصوص الذين سرقوه . لا يُعرف إن كانت هذه الأرجوزة من نظمه أو أن شاعرا ً آخر نظمها . ما إن وصل في ترديدها إلى بيت ٍ من الأبيات حتى راح يتغنى به ويعيده مرارا ً وتكرارا ً ، وهو يترنم ويتلوى في حركة ٍ راقصة ٍ وكأنه أمٌ تزقزق طفلها وتقول :
أعيدوه أعيدوه أعيدوا ما سرقتوه
ثارت نفوسهم غضبا ً ، وضاقت إلى أبعد حدود الضيق ذرعا ً به ، وهم يرون أن حديثه قد غدا مفتعلا ً وسخيفا ً لا معنى له ، فلم يتمالك حتى صاح به أحدهم بصوت ٍ مدمدم غضوب :
ـ كفى ..كفى .. لسنا أطفالا ً لتقول لنا ذلك .. أأنتَ بدون مخ ، أم تراك سكرانا ؟.. أتريد أن نموت نحن وأطفالنا من الجوع ؟.. هل تريد أن نعيد كل رزق يصيبنا إلى أهله .. وبعد ذلك كيف نعيش ؟.. هيا قم ْ ..قمْ .. وهبّ اللص واقفا ً ممسكا ً بذراع ( جبر ) وجرّه إليه جرّة ً جعلته يقف على قدميه ، غير أن ( جبر ) توسله قائلا ً:
ـ أعطني فرصة لأكمل حديثي
سارع ليعود إلى مجلسه ويتابع خطابه لهم !.. حينئذ ٍ هتف والدهم بغضب ٍ :
ـ أنظروا إلى هذا الأهبل كيف دق ّ أنجرهً هنا .. هيا .. هيا أبعدوه والله لقد قـَلـَبَ رأسي بثرثرته .
جرجروا ( جبر ) وأخرجوه من المضيف ، وهم يعتذرون من الحاج عن سلوكهم هذا .. قالوا له إنهم عجزوا عن إقناع هذا الوتين الذي كلما أنزلوه على رأسه يعود ليسقط على قدميه !..
في خضم الإذلال والخيبة والانفعالات المؤلمة ، وفيما كان ( جبر ) يقف خارج المضيف ، منتظرا ً خروج الحاج ، تنبه لأول مرة ٍ إلى الأفرشة الرثة التي كانوا يجلسون فوقها ، وإلى أقدام اللصوص الحافية المتسخة . وفيما هو يغادر تطلع إلى بعض الصور المعلقة أمام عينيه ..
غادرا ماشيين تحت رذاذ المطر وفي الريح الباردة . كان ( جبر ) يدلف في الطين الزلق متتبعا ً أثر الحاج . لم يكن ذا مزاج ٍ يسمح له بالكلام ، بقي صامتا ً ، متبرما ً ، عبوسا ً ، طمت به الأمور ، يسير ببطء دافنا ً رقبته في ياقة معطفه . كل ما أمكنه قوله هو أن ذلك المصلي العجوز لا يمكن أن يكون والدهم إنما هو قهرمانهم المعتمد بكل تأكيد ..
كانت البيوت الطينية تتلاشى خلفهم تباعا ًتحت الغيوم المتلبدة . وقبل أن ينحرف الحاج صوب قريته ، بذل ما في وسعه لإقناع ( جبر ) بالمبيت عنده ، غير أنه أصرّ على مواصلة المسير نحو الطريق المعبد . وهكذا افترقا ..
بعد أن أمسى وحيدا ً ، عادت الأفكار الغامضة تطرق باله مجددا ً . لقد شحذتها المشاهد التي مرّت أمام عينيه اليوم . لم تغب عن فكره لحظة ً واحدة صورة الرجل النائم فوق سجـّادة الصلاة ، الذي أتعب السماء بدعائه ونجواه .ولم تغب عن باله أيضا تصاويره المسروقة ، التي علقوها على الجدران وجلسوا يتبركون ويحمدون الله تحتها ..يا لتلك الخطايا ، ويا لهذه الرذائل النكراء التي لم يجترح مثلها أحد ٌ !..
كان يسائل نفسه ( ماذا سيكتب عنهم ملك الأعمال في السماء ؟.. كم هي الدفاتر التي سيملؤها سوادا ً؟.. انه بلا شك سيتوقف عندهم طويلا ، ويرمي بتلك الأقلام والدفاتر جانبا ، ولسوف يدع أعمالهم تدخل سجلات الذنوب سيحا .. يا للشياطين .. كيف سرطوا قوت عيالي سرطا ً !.. هؤلاء الأوغاد الذين يحملون مصائرهم في جيوبهم كما تــُحمَل البصقات في مناديل الجيوب ) ..
ظلت هذه الأفكار تأسره بعض الوقت ، وهو مسمر ٌ جانب الطريق ، حتى تخطته سيارة خطفت كالبرق ، تجر خلفها ذيلا ً طويلا ً من الهواء اللاذع البرد ، جعله يفيق من غمرة أفكاره ، ويرفع وجهه ليغسله المطر . في هذه الإفاقة المنعشة ،أوحت إليه كوامنه للتخلص من هذه الأفكار السوداوية التي تلهمه الكفر والضلال ..
حاول ، فعلا ً ، الهروب من قيود الأفكار القاتمة ، والتخلص من القنوط الذي لازمه منذ أول الصباح . عزم على نسيان الأمر برمته ، وأن يدير ظهره لما فات ، ويبدأ حياته بهمة ٍ من جديد .
عند المساء ، عاد إلى بيته غير عابئ بشيء ، على الرغم من أوجاعه وتعبه .. فكـّر مليا ً أن الأمر لا يستأهل كل هذه الهموم التي تضيف أحمالا ً أخرى فوق آلامه الثقيلة ..
في البرد والمطر عاد ( جبر ) ، لينام بضعة أيام ٍ مغمورا ً بالعرق والحمى ، يئن من آلام عظامه الطويلة ، وقد استنفد عبوة ( الفكس ) بأكملها .
اعتقد الجميع بأن نهايته الحزينة قد حانت . غير أنه خرج أخيرا ً من تحت أغطيته مثل هر ٍ عجوز . في صباح ٍ لطيف ٍ ، منعش البرودة ، غادر فراشه بملامح شيخوخية ذابلة ، وعروق نافرة ، وبتلك التجاعيد العميقة الشاحبة ، والعيون الكليلة ..
في السوق .. خمّن الجميع بأنه سيكون أكثر ظلمة وتجهما ً ، إثر ما حصل . قالوا إنه سيجلس متلفعا ً بهمومه وكآبته ولسوف يـُقـَرِع رؤوسهم بأنينه الذي لا ينضب ..
في وقت آخر ، عاد ( جبر ) إلى السوق . فرش تصاويره أمامه في بقعة ٍ صغيرة ٍ ، وجلس صامتا على رحله ، وقد انطبعت فوق شفتيه ابتسامة مرّة .
ومثلما تولد الغيمة في سماء بعيدة ، ثم تسوقها الريح إلينا ، أخذت اللطائف تنزل من شفتيه قطرا ً، لتنهمر بعد ذلك مدراراً ، وتسيل في السوق وتغطي دكاكينه واحداً واحدا ..
لطائف غزيرة المعاني ، عميقة الفكر ، تثير الضحك الحقيقي ، جذبت إليه كثيرا ً من الناس ، وجعلته معروفا ً بينهم جيدا ً بعد أن كان ضائعا ً في لجة الزحام ..
لم يبحث أحد ٌ في سر البشاشة الدافق الذي غمر ( جبر ) فجأة ً .. من أين أتاه ؟.. وكيف ؟.. إن مشاغل وهموم الحياة لا تسمح بمثل هذا النوع من الأسئلة ، إنهم شاهدوا فقط تبدل ( جبر ) عقب ما حدث له ، وإنه يمضي هاشا ً نحو الكسب السريع لتعويض ما فات ..
يوما ً بعد آخر استحوذ على حب الناس ، لا سيـّما هؤلاء الخيـّاطون ، الذين باتوا أقرب أصدقائه .
لقد استبدلوا معطفه الحميم بمعطف ٍ جيد آخر ، ووضعوا تحته مقعدا ً أسفنجيا ً بدلا ً من رَحْـله العتيق ، وذهبوا إلى أبعد من ذلك حينما رخـّموا اسمه حبـّا ً له ..
مزج لقمة العيش بالظرف والبهجة . مرّة ً رأيته ، في الصباح ، يواجه رغبة امرأة ريفية تروم شراء صورة ( مريم العذراء ) ، بأن رزم صورة ً كبيرة ً لأحد الأوصياء مع صورة العذراء ، وحالما اعترضت المرأة على ذلك ، ردّ عليها في غاية الجد والكياسة قائلا ً :
ـ لا يجوز ذلك يا أختي .. لا يجوز أن تـُشترى الأنثى لوحدها ، لابد من شراء ذكر ٍ معها أيضا !.
على هذه الشاكلة وغيرها ، سعى ( جبر ) لترويج بضاعته .
* * *
كنت أعتقد ، حين شرعت في كتابة هذه القصة ، أنها قصة ( جبر ) ، بائع الصور المقدسة ، فقط لا غير . لكنني ، وبقليل من التمعن ، اكتشفت أنها قصتنا جميعا ً ، نحن الميتون على قيد الحياة .. نحن الذين لا معنى واضح من وجودنا والحياة على هذه الحال . . قصة أولئك الممازحين في سوق الخياطين ، الذين ما انفكوا يهمسون في أذن ( جبر ) يُذكِرونه قائلين (جبر .. من فرج أمه إلى القبر .. ) . ورغم تفاهة العبارة على ألسنتهم ، لكنها كما يبدو لي تلخص كل شيء .. إنها القصة التي تحكي عن عمر الإنسان القصير .. العمر الذي مهما امتدت سنواته يبدو أقصر من عمر الفراشة والوردة .. إنني أحس بنلك العبارة ، ولو بقليل من الحكمة ، وكأنها قصة من ست كلمات ، تروي عن هذه الغربة ، والجدب ، والعقم لحياة ٍ هي ليست حياة !.. كلمات يرددها هؤلاء السادرون في نومهم دون تفكر ، هؤلاء الذين سوف يتفاجؤون في يوم من الآيـّام ، وهم يتقافزون فيه من أسرّتهم رعبا ً أمام ملك الموت ، ويُحمـَلون بتعاسة ٍ عن هذه الحياة الطاحنة التي لم يتذوقوا أية لذة ٍ منها .. وإلى أين ؟.. إلى أين ؟.. إلى تلك المقابر التي لا تجد فيها متسعا ً لهيكلك العظمي .. تلك المقابر التي تذرو فيها الوحشة تراب الكدر . إن الإنسان ليبكي فيها ليس على الموتى ، إنما على ذلك اليباب والقفر المرعب الخالي من الماء والشجر، الذي تـُسَقِفه سماء ٌ كأنها صفيح معدني ساخن !..
هذه الحقيقة العنيفة لم تغب عن بال ( جبر ) ، وهو يتأمل العمر يُنهـَب نهبا ً ً من بين يديه .. بل كان يدركها بصمت ، ولذلك أوصى حين أدركته المنية أن لا يُرفع جثمانه إلا وهو مغطى بذاك المعطف الزعفراني الرهيب !..
كان يغمض عينيه مفترضا ً أن ثمة أملا ً غامضا ً .. أملا ً خدّاعا َ يقودهم إلى كل هذا الحماس في العمل ..
كان يقول بخيبة ٍ ( إننا نغض أطرافنا عن بهجة الحياة وزينتها ، لذا فإن أنقى مكان ٍ خال ٍ من تلك البهجة يناسبنا هو الجحيم ) ..
كانوا يسمعون كلامه ، وهم حيارى ، لا يعرفون أسرار تحوّلاته ، وحتى هو نفسه لم يعرف كيف جرت الأمور هذا الجريان ، حتى تبين فيما بعد كم كان صادقا ً ذلك الرجل الذي ثار بوجهه غضبا ً، وحاول أن يمسك بخناقه ، ذلك المسافر الضئيل الذي كان يضع النظارات السميكة فوق عينيه ، ويرفع يديه مستسلما ً ، والذي قال ببعض المرح :
ـ إن في الأمر صالحا ً..
لقد أرتشف ( جبر ) الفكرة ارتشافا ً مترويا ليقول في النهاية :
ـ حقا ً أيها المستسلم الضئيل .. إن في الأمر صالحا ً !..
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
الشطرة ـــــــــــــــــ 2010
08-أيار-2021
15-آذار-2011 | |
08-تشرين الثاني-2010 | |
02-تشرين الثاني-2010 | |
18-حزيران-2010 | |
17-آذار-2010 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |