علي الجندي يبقى بعد أن تمضي إلى البحر المراكب
2009-08-15
قوس ذاكرته الشعرية تحيط بالبعيد، فيحتفظ ببودلير جنبا إلى جنب مع الياس أبو شبكة، ذلك الذي سمعت اسمه للمرّة الأولى منه عام 1971 فذهبت كي أبحث عنه.
علي الجندي "مثقف إنتدابي" إذا جاز التعبير، فهو المولود في بلدة السلمية عام 1928، وفي أسرة معروفة بالعلم والأدب وخصوصا التراث، أمكنه أن يطلّ على الشعر الفرنسي في نماذجه الأهم والأشدّ سطوعا، وبالذات بودلير ورامبو، ولينتخب من تراث الشعر العربي صورة حياة طرفة بن العبد، الفتى الذي سار إلى حتفه من دون وجل فقُتل ولمّا تقارب سنوات عيشه الثلاثين. وكأنه بتلك الرؤية للشعر والحياة معا، كان بدوره يلقي حجره في بئر الحياة العربية الراكدة تاركا لمن أتوا بعده أن يرسموا أو يحاولوا رسم تلك الدوائر التي انداحت تتشكّل في الماء.
صدرت المجموعة الشعرية الاولى لعلي الجندي، "الراية المنكسة"، عام 1962، فحملت قصائدها منذ البداية تباشير كتابة شعرية مغايرة، لا تطلع من "البطولة" ولا تتطامن معها، بل هي وعلى العكس تماما، تنحدر من شقوق الحزن ومن لحظات الضعف الإنساني التي تميّز الشعر الحقيقي وتتميّز به. اختار الأحزان الفرديّة بنبرتها الخافتة، الهادئة والمثقلة بنشيج داخلي تتشكّل مقاطعه من جوع أزلي إلى الحياة.
ثمة ما ظلّ يشدّ الشاعر الراحل بقوّة إلى العيش اليومي، والسهر، ومنادمة الأصدقاء. لعلّه بتلك الروح المنذورة للسهر، هجر الطبيعة في حياته وشعره إلا قليلا. من يقرأ أعماله الشعريّة الكاملة يلحظ أنها – باستثناء قصيدة "النخلة" – أتت كلّها مدينية، بل هي أكثر من ذلك، قصائد تطلع من روح الشاعر ووجدانه ومن جغرافيا بالغة الضيق ولا تتعدّى مساحاتها البيوت وطاولات المطاعم وأماكن السهر.
أتذكّر هنا أنني ذهبت معه عام 1987 صحبة الشاعر سعدي يوسف إلى أحد المطاعم القبرصية. كان أبو حيدر يقود السيّارة من نيقوسيا في اتجاه لارنكا، وفي ذهنه مكان محدّد قال إنه يمتاز بأشجاره وحديقته المترعة بالورود، فيما كان علي الجندي يتذمّر مطالباً بالتوقف عند أول حانة تصادفنا، حتى إذا بلغ ضجره حدّه الأقصى هتف بنا : من قال لكم أنني أريد الأشجار؟
هو إبن الحياة الذي "فرّ" من قبضة السياسة فأمكنه التخلّص من قيودها الكثيرة على رغم أنه عاش في قلبها، وفي ازدحام تفاصيلها وفوضاها، هو الذي يذكّرني إسمه بصديقه الشاعر كمال ناصر، الناطق الرّسمي باسم منظمة التحرير الفلسطينية الذي اغتالته فرقة كوماندوس إسرائيلية في ليلة من ليالي نيسان 1973 في بيته في شارع فردان في بيروت، وكلاهما عاش بثياب السياسة وسلوك الشعراء.
في "البعث"، جريدة الحزب الحاكم، كان علي الجندي هو "المحرّر الثقافي"، ومع ذلك كان يمارس وظيفته خارج مكاتب الجريدة. يجلس طويلا في البار الأقرب ساعات وساعات، وحين يذكّره أحدهم بالدوام الرسمي ينظر إلى ساعته بقلق ويهتف كالمعتاد : لم يتبقّ وقت... نعمل في المساء. مع ذلك كان يعمل بهمّة عالية، يقدّم اليه الشعراء قصائدهم فيحشو أوراقهم في كومة من الأوراق فوق مكتبه تجعلهم يعتقدون أنها ذاهبة حتما الى النسيان، لكنهم يفاجأون دائما بأنها منشورة على صفحات الجريدة.
من يقرأ أعماله الشعرية الكاملة من أبناء الأجيال الجديدة، تدهشه بالتأكيد الرؤى الوجودية التي عصفت بقصائده في زمن كانت تصطخب فيه دعاوى معاكسة تماما. فبين أبناء جيله جميعا تفرّد علي الجندي بتخليد "لحظة الانكسار"، بمحاولته التي لم تكلّ لقراءة تلك اللحظة المستمرة، كما كان يقول. هنا بالذات أمكنه أن يكتب رؤيته هو للسياسة كما يراها. رؤية تطلع من الفردي، الجامح والمصطبغ بالخسارات دائما، كما في قصائده "القطارات" و"طرفة في مدار السرطان" وغيرهما، وهي رؤية ظلّت شديدة الالتصاق بفكرته عن الشعر عموما في أنه فن التعبير عن فوضى العالم ولا معقوليته وفقدانه التوازن.
في هذا المعنى الأخير بالذات، نفهم لماذا عزف طيلة حياته عن جدالات شعراء جيله العرب حول الريادة ولم ينغمس فيها، على رغم أنه بمقاييس الشعر والزمن معا، واحد من أولئك "الرواد" الذين شغلوا الناس والحياة الأدبية بخلافاتهم ومواقفهم، فيما هو ينتحي ركنه القصي من الجدالات كلّها ويمتصّ رحيق الحياة وكأنه يمتصّ ثدي أمّه بنهم جعله طفل الحياة الذي لا يقبل الفطام ولا يدنو منه.
جعلني أتوقف دائما أمام صداقاته الكثيرة للشعراء ومن كل الأجيال، وهي صداقات وضعته طيلة حياته قريبا من التجارب الشعرية الجديدة، ليس بمعنى الرعاية والمساعدة فحسب، ولكن أيضا بالمعنى الذي يجعله على الدوام شاعرا شابا لا تنقطع صلاته بالتجريب والمغامرات الفنيّة. لم يتورّط "بحمّى العمر" التي عصفت بمجايليه ودفعت كثرا منهم إلى التوقف عند تخوم لا يغادرونها.
في قراءات الشاعر الراحل أسماء كانت تتردّد كثيرا لشعراء أحبّهم، كنا نلتقطها ونغادره للبحث عن أشعارهم. من أولئك كما أسلفت الياس أبو شبكة، ومنهم أيضا ميشال طراد وسعيد عقل وطرفة بن العبد والملك الضلّيل امرئ القيس والسيّاب ومحمد الماغوط. علي الجندي ذائقة بالغة الإنتفائية يتردّد كثيرا قبل قراءة الشعر مترجما على رغم أنه مارس الترجمة عن الفرنسية في بواكير حياته. فهو كما كان يردّد يعشق الشعر كما كتبه أصحابه، وهو في ذلك لا يتبع المقولة السائدة عن خيانة الترجمة فحسب، ولكنه يشفق على "بصمة الشاعر" التي سوف تنمحي حتما في كلمات المترجم واللغة الجديدة.
أتوقف طويلا كي أتأمّل سنواته الأخيرة في اللاذقية، مدينة عزلته، فأراه كمن غادر الحياة هو الذي لم يعد قادرا في تلك السنوات على العيش كما يحب وكما اعتاد أن يفعل، وخصوصا بعدما غادره أقرب الأصدقاء إلى روحه الشاعر الراحل ممدوح عدوان، صديق العمر ونديم السهر الذي لازمه طويلا وكتب مقدّمة لا تنسى لأعماله الشعرية الكاملة، كانت بوحا جميلا عن شعر علي الجندي، ولكن الأهم عن علاقة ذلك الشعر بحياته. هنا تحضر مقولته الأهم عن العمر والموت : أنا لا أخاف الموت ولكنني أرتعد من الشيخوخة. الشيخوخة عار.
هل اكتملت قصيدته بموته كما قال محمود درويش وهو يرثي خليل حاوي؟
أعتقد أن واحدة من أهم ميزات علي الجندي التي ستعيش معنا طويلا هي قدرته على أن يظل حاضرا "يوسوس" في مجالسنا.
يصعب أن أختصر شاعرا في قصيدة، فتلك جناية في حقّه وحق ذائقتي الشعرية، لكنني مع ذلك أظلّ أهجس بقصيدته "القطارات تمر" : واقف منذ صباح الأمس أستجدي على أبواب مينائك/ يا أمي مواعيد السّفر/ أرقب الغادين والموتى وحمّال التوابيت وباقات الزهر
فقطارات بلا ناس تمرّ/ وأرى الحزن على جلد الحقائب/ منذ حين وأنا وحدي وبرد الصّبح يكويني/ وقد سافر كل الأصدقاء/ وأنا أنتظر الشّمس ودفء القاطرة/ غير أن الحارس الجهم اصطفاني من جميع النزلاء،/ انتهرتني شرطة الميناء، قالت لي ذؤابات الدخان:/ أنت تبقى بعد أن تمضي إلى البحر المراكب".
راسم المدهون
08-أيار-2021
06-حزيران-2020 | |
16-شباط-2011 | |
"كثيرة أنت" للشاعرة السورية سوزان ابراهيم وحيدة ولي ما لـيس لهنّ |
27-تموز-2010 |
23-تموز-2010 | |
09-أيار-2010 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |