من نصوص الشرق القديم إنــانــا وجـلجــامـش وشجــرة الحـولـوبـو
2007-10-16
يعود هذا النص السومري بتاريخه إلى فترة التدوين السومرية خلال عصر أسرة أور الثالثة في نهاية الألف الثالث قبل الميلاد. ولكن نسخاً أكادية منه كانت متداولة على ما يبدو خلال الفترات التالية، لأن القسم الثاني من الأسطورة والمتعلق بجلجامش وإنكيدو والعالم الأسفل قد جعله المحرر الأكادي لملحمة جلجامش، في شكلها المعياري الأخير، بمثابة اللوح الثاني عشر والأخير من الملحمة، على الرغم من عدم علاقته بمجريات أحداث الملحمة.
تبدأ هذه الأسطورة ذات البنية المركبة بمقدمة تتألف من مقطعين؛ في المقطع الأول هنالك سرد لفعاليات الخلق والتكوين بما في ذلك خلق الإنسان واستهلال عملية التحضر الإنساني التي يُرمز إليها بخبز الخبز وأكله في البلاد، وببناء المعابد وإقامة الطقوس فيها. وفي المقطع الثاني هنالك إشارة عابرة إلى قيام العالم الأسفل ممثلاً بتنين هائل باختطاف الإلهة إريشكيجال، ومحاولة الإله إنكي إنقاذها دون أن يفلح في ذلك. فبعد أن أُبعدت السماء عن الأرض، واختص آنو بالسماء وإنليل بالأرض، كان لا بد من إلهة لحكم المجال الثالث في الكون وهو العالم الأسفل:
في الأيام الأولى، في مطلع الأيام الأولى؛
في الليالي الأولى، في مطلع الليالي الأولى؛
في الأيام الأولى، في مطلع الأيام الأولى.
في الأيام الأولى، عندما جرى خلق كل ما يلزم؛
في الأيام الأولى، عندما جاءت المشيئة الإلهية بكل ما يلزم؛
عندما جرى خبز الخبز في المقامات المقدسة؛
عندما جرى أكل الخبز في بيوت البلاد؛
عندما تم إبعاد السماء عن الأرض؛
عندما تم فصل الأرض عن السماء؛
عندما تم تعيين اسم «الإنسان».
عندما اضطلع «آن» بالسماء،
عندما اضطلع «إنليل» بالأرض،
عندما حُملت «إريشكيجال» إلى العالم الأسفل غنيمة.
عندما أبحر. عندما أبحر،
عندما أبحر الأب إنكي يطلب العالم الأسفل،
انهمرت على الملك الحجارة الصغيرة،
انهمرت على إنكي الحجارة الكبيرة،
الحجارة الصغيرة التي تُرمى باليد،
والحجارة الكبيرة التي تُرمى بالقصب المهتز،
فملأت قاع المركب، مركب إنكي،
غمرته في انقضاضها كعاصفة داهمة.
هاجم الماء الصاخب مقدمة المركب،
مثل ذئاب مفترسة،
وهاجم الماء الصاخب مؤخرة المركب،
مثل أسود كاسرة.
بعد هذه المقدمة، نخرج من زمن التكوين إلى الزمن التاريخي، وتبتدئ القصة بشجرة حولوبو (والاسم غامض الدلالة) نمت على شاطئ الفرات:
في تلك الأزمان شجرةٌ، شجرةٌ واحدةٌ، شجرة حولوبو
زُرعت على شاطئ نهر الفرات،
وسُقيت بماء نهر الفرات.
ولكن ريح الجنوب العنيفة هبت واقتلعتها من جذورها،
وعاثت فساداً في أغصانها،
ثم حملها نهر الفرات على أمواجه.
كانت المرأة (إنانا) تهيم على وجهها خائفةً من كلمة الإله آن؛
كانت تهيم على وجهها خائفةً من كلمة الإله إنليل؛
فانتزعت الشجرة من النهر بيديها وجاءت بها إلى أوروك:
«سوف أجلب هذه الشجرة إلى حديقة إنانا المثمرة».
المرأة رعت الشجرة بيديها وسوَّت التربة حولها بقدميها:
«متى تصير الشجرة عرشاً مثمراً أجلس عليه؟
متى تصير الشجرة سريراً مثمراً فأضطجع عليه؟»
مرت السنوات؛ خمس سنوات ثم عشر سنوات.
كبُرت الشجرة ولكنها لم تُطلع أوراقها.
ذلك أن الحية التي لا يؤثر فيها سحر اتخذت من جذورها جحراً،
ونسر الإمدوجد اتخذ من قمتها عشاً لفراخه،
وفي الوسط منها بنت الشيطانة ليليث بيتاً لها.
الفتاة المرحة الضاحكة أبداً،
الفتاة إنانا بكت، بكت كثيراً.
وعندما بدأت العصافير بالزقزقة مع طلوع الفجر،
وطلع أوتو، إله الشمس، من حقله الملوكي،
نادته إنانا أخته قائلةً:
تعيد إنانا هنا كامل المقطع الذي ابتدأ به النص، بالإضافة إلى قصة الشجرة وما جرى لها، منتهيةً إلى القول:
«الفتاة المرحة الضاحكة أبداً
أنا إنانا، بكيت، بكيت كثيراً»
ولكن أخاها البطل أوتو
لم يقف إلى جانبها في هذه المسألة.
فمضت أخته إنانا وقالت للبطل جلجامش:
تعيد إنانا خطابها السابق لأوتو بكامله، منتهيةً إلى القول:
«الفتاة المرحة الضاحكة أبداً،
أنا إنانا، بكيت، بكيت كثيراً».
أخوها البطل جلجامش وقف إلى جانبها في هذه المسألة.
تقلد أسلحته التي تزن خمسين مينا،
حملها كمن يحمل وزناً مقداره ثلاثين شاقلاً،
ورفع فأسه البرونزي، الفأس الذي يشق الطريق،
فأسه الذي يزن سبع طالنتات وسبع مينات،
فصرع به الحية التي لا يؤثر فيها سحر.
عندها حلق نسر الإمدوجد بفراخه صوب الجبال،
وقوضت الشيطانة ليليث بيتها وفرت إلى القفار.
عند ذلك اقتلع جلجامش الشجرة من جذورها،
ومَن رافقه من أبناء المدينة قصوا أغصانها،
ثم أعطاها لإنانا المقدسة من أجل عرشها،
أعطاها إياها من أجل سرير لها.
فصنعت إنانا لأخيها جلجامش من جذورها «بكّو»،
ومن ذروتها صنعت لجلجامش بطل أوروك «مِكّو».
إلى هنا وينتهي القسم الأول من هذا النص الذي يحكي عن قصة إنانا وشجرة الحولوبو، ويبدأ القسم الثاني الذي يتحدث عن جلجامش وما جرى له مع البكو والمكو، وهما على ما يبدو آلتان موسيقيتان ربما كانتا الطبل وعصاه، وكيف سقطا منه إلى كوة في الأرض متصلة بالعالم الأسفل، فراح يندبهما:
والآن من سيعيد إليَّ بكي من العالم الأسفل،
ومن سيعيد إليَّ مكي من العالم الأسفل.
فقال له خادمه إنكيدو، قال لجلجامش:
«سيدي ما الذي يبكيك، وما الذي يوجع قلبك؟
اليوم آتيك بالبكو من العالم الأسفل،
اليوم آتيك بالمكو من العالم الأسفل».
فقال له جلجامش، قال لإنكيدو:
«إذا عزمت الآن نزولاً إلى العالم الأسفل،
فإن لدي كلمة أقولها لك فخُذ بها،
ونصيحةً أزودك بها فاتبعها:
لا تضع عليك ثياباً نظيفة،
وإلا صرخ الأموات في وجهك كغريب؛
لا تُضمِّخ نفسك بالعطر الطيب،
وإلا تجمعوا حولك لفوحانه منك؛
لا ترمِ رمحاً في العالم الأسفل،
وإلا أحاط بك من أصابهم رمحك؛
لا تحمل بيدك هراوة،
وإلا تراقصت حولك الأشباح؛
لا تضع في قدميك صندلاً؛
لا تُحدث جلبة في العالم الأسفل؛
لا تقبِّل زوجتك التي تحب،
ولا تضرب زوجتك التي تكره؛
لا تقبل ابنك الذي تحب،
ولا تضرب ابنك الذي تكره؛
وإلا أمسك بك صراخ العالم الأسفل،
صراخ تلك المضطجعة، أم الإله ننازو، تلك المضطجعة،
التي لا يغطي كتفيها رداء،
وصدرها كطاس حجري لا يستره غطاء».
لم يعطِ إنكيدو مشورة سيده سمعاً.
وضع عليه حلة نظيفة،
فصرخ الأموات في وجهه كغريب؛
وضمخ نفسه بالعطور الطيبة،
فتجمعوا لفوحانها حوله؛
رمى رمحاً في العالم الأسفل،
فأحاط به من أصابهم رمحه؛
حمل بيده هراوة،
فتراقصت حوله الأشباح؛
انتعل في قدميه صندلاً،
وأحدث جلبة في العالم الأسفل،
قبل زوجته التي يحب،
وضرب زوجته التي يكره،
قبل ابنه الذي يحب،
وضرب ابنه الذي يكره؛
فأمسك به صراخ العالم الأسفل،
صراخ تلك المضطجعة، أم الإله ننازو، تلك المضطجعة،
التي لا يغطي كتفيها رداء،
وصدرها كطاس حجري لا يستره غطاء،
منعت عنه صعوداً من عالم الأموات.
لم يمسك به نمتار. ولم تمسك به علة، العالم الأسفل أمسك به.
لم يمسك به وكيل نرجال الذي لا يرحم، العالم الأسفل أمسك به.
لم يسقط في ساح معركة الرجال، العالم الأسفل أمسك به.
جلجامش، السيد ابن ننسون، بكى خادمه إنكيدو؛
مضى وحيداً إلى إيكور بيت الإله إنليل:
«أيها الأب إنليل. لقد سقط بكّي إلى العالم الأسفل،
وقد سقط مكي إلى العالم الأسفل.
بعثت إنكيدو ليرجعهما فأمسكه العالم الأسفل،
لم يُمسك به نمتار، ولم تُمسك به علّة، العالم الأسفل أمسك به.
لم يمسك به وكيل نرجال الذي لا يرحم، العالم الأسفل أمسك به.
لم يسقط في ساح معركة الرجال، العالم الأسفل أمسك به».
فلم يجبه إنليل بكلمة، فمضى وحيداً إلى بيت الإله سن:
«أيها الأب سن... (تكرار للمقطع السابق نفسه)»
فلم يجبه سن بكلمة، فمضى وحيداً إلى بيت الإله إيا:
أيها الأب إيا... (تكرار للمقطع السابق نفسه)».
فلما سمع الأب إيا هذا،
توجه بالقول إلى نرجال البطل المحارب:
«نرجال، أيها البطل المحارب، يا ابن بيليت إيلي.
افتح الآن ثقباً في العالم الأسفل،
تتسلل منه روح إنكيدو من عالم الظلمات،
فيشرح لأخيه جلجامش مسالك العالم الأسفل».
امتثل البطل المحارب نرجال لطلب إيا،
وما لبث أن فتح ثقباً في العالم الأسفل،
تسللت عبره روح إنكيدو كالنسيم من عالم الظلمات.
تعانقا وقبَّل كل منهما الآخر،
ثم أخذا يتحدثان ويتحاوران:
«أخبرني أيها الصديق، ألا فأخبرني أيها الصديق،
حدثني عن مسالك العالم الأسفل الذي شهدت».
«لا أحب أن أخبرك أيها الصديق، لا أحب.
فإذا كان عليّ أن أخبرك بمسالك العالم الذي شهدت،
أجلس أولاً وابكِ».
«سأجلس وأبكي».
«إن جسمي الذي عانقته وقلبك مبتهج،
خرقة بالية تنهشها الحشرات.
إن جسمي الذي عانقته وقلبك مبتهج،
جثة مليئة بالتراب».
فصرخ يا ويلتاه، وانكب فوق التراب
صرخ جلجامش يا ويلتاه وانكب فوق التراب:
«هل رأيت الذي لم ينجب أولاداً؟»
«نعم لقد رأيت
(سطران مشوهان)
«هل رأيت الذي أنجب ولداً واحداً؟»
«نعم لقد رأيت، إنه ساجد عند الجدار يبكي بحرقة».
«هل رأيت الذي أنجب ولدين؟»
«نعم لقد رأيت، إنه يسكن في بيت من الآجر ويأكل الخبز».
«هل رأيت الذي أنجب ثلاثة أولاد؟»
«نعم لقد رأيت، إنه يشرب من ينابيع الأعماق».
«هل رأيت الذي أنجب أربعة أولاد؟»
«نعم لقد رأيت، إن قلبه مبتهج مثل... ...
«هل رأيت الذي أنجب خمسة أولاد؟»
«نعم لقد رأيت، إن يده مبسوطة كالكاتب الطيب
... ... ودون تأخير يحل في قصر»
«هل رأيت الذي أنجب ستة أولاد؟»
«نعم لقد رأيت... ... ...»
«هل رأيت الذي أنجب سبعة أولاد؟»
«نعم لقد رأيت... ... ...
«هل رأيت الذي ... ... ...»
«نعم لقد رأيت إنه مثل راية جميلة ... ...»
يلي ذلك خمسة وعشرون سطراً ناقصة بسبب كسر في اللوح، يتابع فيها جلجامش سؤال إنكيدو عن أحوال أصناف أخرى من البشر، على ما نفهم من الأسطر التالية التي ترد في نهاية النص:
«هل رأيت الذي سقط من الصارية؟»
«نعم لقد رأيت، إنه لتوه... ... عند مربط الحبال»
«هل رأيت الذي مات ميتةً فجائية؟»
«نعم لقد رأيت، إنه مضطجع على الأرائك يشرب الماء القراح»
«هل رأيت الذي قُتل في المعركة؟»
«نعم لقد رأيت، إن أمه وأباه يسندان رأسه، وزوجته تبكيه».
«هل رأيت الذي تُركت جثته في العراء؟»
«نعم لقد رأيت، إن روحه لا تجد مستقراً في العالم الأسفل».
«هل رأيت الذي لا يُعنى براحة روحه أحد؟»
«نعم لقد رأيت، إنه يأكل فتات الموائد وما يُرمى في الطرقات».
مع هذا التعداد للمصائر المختلفة لأنواع البشر بعد الموت ينتهي النص دون خاتمة، الأمر الذي يدل على أن الإيضاح الذي تقدم به إنكيدو بخصوص مسالك وأحوال العالم الأسفل هو بيت القصيد من هذا النص.
دراسة وتحليل:
يبدو للوهلة الأولى أننا أمام أسطورتين مستقلتين تم جمعهما في نص واحد؛ الأولى أسطورة إنانا وشجرة الحولوبو، والثانية أسطورة جلجامش وإنكيدو والعالم الأسفل؛ وقد لعبت شخصية جلجامش دور صلة الوصل بين الأسطورتين عندما هب لعون إنانا على استعادة شجرتها. كما وتبدو الأسطورة الأولى حكاية بسيطة تسير في اتجاه خطي واحد وصولاً إلى العقدة، التي تتمثل في استيلاء الكائنات الثلاثة على الشجرة. ثم يتدخل جلجامش لحل هذه العقدة وصولاً إلى النهاية السعيدة، وحصول إنانا على بغيتها.
غير أن أول ما يصرف نظرنا عن بساطة القصة، هو تلك المقدمة في الخلق والتكوين بسطورها الافتتاحية الفخمة التي تهيئنا لتوقع حدوث أمر جللٍ ما. ذلك أن الأسطورة الرافدينية عودتنا على أن استرجاع الأصول والعودة إلى البدايات هما مقدمة لقول شيء مهم، أو التأسيس لطقس معين. إن السطور الثلاثة الأولى تمارس على السامع تأثيراً سحرياً يضعه خارج زمانه اليومي المعتاد:
في الأيام الأولى، في مطلع الأيام الأولى؛
في الليالي الأولى، في مطلع الليالي الأولى؛
في الأيام الأولى، في مطلع الأيام الأولى.
بعد ذلك يُلَمِّح النص بشكل مختزل وسريع إلى فعاليات الخلق والتكوين التي جرت في مطلع الأزمان، وذلك من خلال ثلاثة مقاطع يكرر كل منها المضمون نفسه:
في الأيام الأولى، عندما جرى خلق كل ما يلزم؛
في الأيام الأولى، عندما جاءت المشيئة الإلهية بكل ما يلزم؛
عندما جرى خبز الخبز في المقامات المقدسة.
يُجمل هذا المقطع عملية الخلق والتكوين بتعبير «كل ما يلزم»، وذلك في السطرين الأول والثاني؛ بينما يشير السطر الثالث إلى ظهور الإنسان وأصول التحضر الإنساني؛ ذلك أن صنع الخبز وأكله هو السمة الرئيسية للإنسان المتحضر. ثم يأتي المقطع الثاني ليؤدي المعنى نفسه ولكن مع بعض التوضيح:
عندما تم إبعاد السماء عن الأرض؛
عندما تم فصل الأرض عن السماء؛
عندما تم تعيين اسم «الإنسان».
إن تعبير «كل ما يلزم» الذي ورد في السطرين الأول والثاني من المقطع الأول يجري تفصيله هنا في السطرين الأول والثاني أيضاً، حيث نرى كيف تم الخلق بإبعاد السماء عن الأرض، وفصلهما بعد أن كانتا ملتصقتين في كتلة واحدة تطوف على سطح المياه البدئية الأولى. أما أصول التحضر البشري فيشير إليها السطر الثالث هنا أيضاً بقوله «تم تعيين اسم الإنسان». ثم يتابع المقطع الثالث ليعطينا مزيداً من التفاصيل:
عندما اضطلع آن بالسماء؛
عندما اضطلع إنليل بالأرض؛
عندما حُملت إريشكيجال إلى العالم الأسفل غنيمةً.
إن الكون الذي أصبح متمايزاً الآن عن الكتلة الهيولية الأولى، قد أُعطي معنى روحياً، وحلت فيه الآلهة تديره، فأخذ آن السماء وأخذ إنليل الهواء والأرض. وفي السطر الثالث الذي أُفرد في المقطعين السابقين لظهور الإنسان وأصول التحضر البشري، فإنه يعلمنا هنا عن مصير الإنسان، وهو الموت الذي ظهر عقب تمايز العالم الأسفل عن العالم الأعلى، وتخصيصه كمكان تذهب إليه أرواح الموتى، وتعيين إريشكيجال حاكمة عليه.
بعد ذلك يبتدئ الجزء الثاني من المقدمة، وهو يفيدنا بأن إنكي قد أبحر بمركبه لإنقاذ إريشكيجال، وحصول مواجهة بينه وبين قوى العالم الأسفل لم تحسم. ثم ينتقل النص بعد ذلك مباشرةً إلى القول: «في تلك الأزمان، شجرة، شجرة حلبو»، الأمر الذي يدل على أن الشجرة وما جرى لها، هو الشأن المركزي، وهي التي من أجلها وُضعت المقدمة. فما الذي تعنيه المواجهة بين إنكي وقوى العالم الأسفل، وما هي رمزية هذه الشجرة؟
تُعبِّر المواجهة غير الحاسمة بين إنكي وقوى العالم الأسفل عن الصراع بين قوى الحياة وقوى الموت، وهو صراع مفتوح لا ينتهي بانتصار أحد القطبين على الآخر، لأنهما قطبان متناقضان ومتعاونان في آنٍ معاً؛ وما الوجود برمته إلا حالة الاستقرار الناجمة عن توازنهما. لقد حاول إنكي، الإله الذي يجسد القوة المحيية للماء العذب، بعد أن أحيا الأرض بما عليها من نباتات وكائنات حية، أن يشق طريقه نحو العالم الأسفل الأجرد والمظلم والعقيم ليحييه كما أحيا العالم الأعلى، ولكن تقدمه قد أوقف. ولذلك نجد أن الماء العذب يكمن في الأعماق في المستوى الذي يتوسط بين العالم الأسفل والعالم الأعلى، ومن هنالك يَصدُر على شكل ينابيع وأنهار وآبار، ولكنه لا يستطيع الغوص أكثر من ذلك لأن قوى العقم تقف له بالمرصاد منذ تلك الأزمنة الميثولوجية الأولى.
من هذه المواجهة الأولى بين قوى الخصب وقوى العقم، ينتقل النص إلى ظهور شجرة الحولوبو التي تمثل الحياة الزراعية في شكلها الخام البدئي الذي لم يخضع لأي تنظيم بعد. ونظراً لعدم وجود من يعتني بالشجرة، فقد اقتلعتها رياح الجنوب وطافت فوق المياه إلى أن انتشلتها إنانا وزرعتها في بستانها. والنص هنا لا يقدم لنا إنانا في صورة الإلهة القوية المكتملة السلطان، بل في صورة الصبية الغضة التي «تهيم خائفةً من كلمة الإله آن وكلمة الإله إنليل» والتي لم تحصل بعد على رموز سلطتها. وهي عندما تقوم بزراعة الشجرة في بستانها وتأخذ في العناية بها، فإنها تأمل أن تعطيها هذه الشجرة أهم رمزين من رموز سلطانها على الخصب والحب، وهما العرش والسرير.
لقد ساعد انتقال الشجرة من الحياة البرية إلى الحياة المؤهلة على نموها، ولكنها لم تورق لأن ثلاثة كائنات تنتمي إلى قوى الموت والشَواش البدئي قد حلت فيها. فطائر الإمدوجد (أو الزو) هو طائر هائل له وجه أسد معروف بمقاومته لقوى النظام في العالم، وقد حاول في إحدى المرات سرقة ألواح الأقدار من الإله إنليل ليعود العالم إلى حالة الفوضى البدئية. أما ليليث فهي شيطانة جميلة لها أجنحة ومخالب الطير، تنتمي إلى قوى العالم الأسفل وتسكن القفار والخرائب. وأما الأفعى هنا فإنها من النوع اللوياتاني، الذي يقتله عادةً إله الخصب قبل أن يسيطر على قوى الإخصاب في الطبيعة، كما فعل بعل في الأسطورة الأوغاريتية، عندما صرع التنين لوتان (لواياتان التوراتي).
لا تستطيع إنانا حيال الموقف الجديد سوى البكاء وذرف الدمع. وعندما يخذلها أوتو، يخف لنجدتها جلجامش فيقتل الأفعى ويطرد الطائر والشيطانة وبذلك تتخلص الحياة النباتية من تأثير قوى الفوضى والموت، وتغدو جاهزة لأن تكون مقراً لعرش ألوهة الخصب، ومضجعاً لألوهة الحب والجنس. وباستلام إنانا رموز سيطرتها على هذين المجالين، تدخل الحياة النباتية طور الزراعة المنظمة تحت رعاية إنانا، التي تحولت الآن من فتاة خائفة إلى سيدة مكتملة ومسيطرة على الخصب والحب. أما لماذا جاءت المعونة من جلجامش ملك أوروك، وهو من ملوك عصر الأسرات الأولى في سومر، فإن أسطورتنا هذه تريد أن تؤسس لطقوس الخصب التي كانت سارية في سومر، والتي يتزوج بموجبها الملك السومري في كل عام من الإلهة إنانا في شخص كاهنتها، من أجل ضمان خصب الأرض، الذي يعتمد على الملك الأرضي الذي يشكل صلة الوصل بين عالم البشر وعالم الآلهة، وعلى روح الخصوبة الكونية، الإلهة إنانا.
نأتي الآن إلى القسم الثاني من نص إنانا وشجرة الحولوبو المتعلق بجلجامش وإنكيدو والعالم الأسفل فهذه القصة تبدو مكرسة بشكل رئيسي لشرح أحوال الموتى في العالم الأسفل، وما يتوجب على الإنسان فعله في الحياة لكي يكون بقاؤه الأبدي في عالم الموتى أقل قتامةً، وما يتوجب على الأحياء القيام به من أجل راحة أرواح موتاهم. وقد يبدو للوهلة الأولى بأن هذا القسم الثاني من النص لا علاقة له بالقسم الأول. ولكن القراءة المتأنية وما تتركه من انطباع في النهاية تقودنا إلى تلمس صلة عضوية بينهما، فهما عبارة عن أسطورة متكاملة تبدأ بالحديث عن الخلق والتكوين، ثم عن تنظيم العالم وتوزيع صلاحيات الآلهة، ثم عن ظهور الإنسان الذي تزامن مع تنظيم أحوال العالم الأسفل، ثم عن الخصب والحب والحياة الحارة التي يعيشها الإنسان، وأخيراً عن مصيره المحتوم وهو الموت، الذي يتوجب عليه الاستعداد له والعمل بما يعينه على ملاقاته.
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
01-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
13-شباط-2021 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |