مدخل إلى نصوص الشرق القديم / من أدب الحكمة الرافديني
2007-11-04
وصايا وحِكَمْ وأمثال:
إلى وقت ليس بالبعيد كان سفر الأمثال في التوراة العبرانية يُعَدُّ أقدم مجموعة من الحِكَمْ والأمثال التي دونها الإنسان. وعندما بدأت آثار الحضارة المصرية القديمة تتكشف من تحت التراب تم العثور على مجموعات من أدب الحكمة تسبق سفر الأمثال بقرون كثيرة. ثم جاء اكتشاف الحضارة السومرية ليعرفنا على أقدم مجموعات أدب الحكمة في التاريخ الإنساني. ولكن لسوء الحظ فإن الرُقُمْ التي وصلتنا من هذه المجموعات متشظية وغير صالحة للقراءة في معظمها. إن النص المعروف بعنوان «وصايا شوروباك»، على سبيل المثال، ترجع أصوله إلى نحو عام 2500ق.م، ولكن لم يصلنا منه إلا بضعة سطور من افتتاحيته على الرغم من أنه كان يحتوي في الأصل على نحو مئتين من السطور.
في هذا النص، يقدم شوروباك ابن أوبارا توتو، بطل قصة الطوفان السومرية، إلى ابنه مجموعة من الحِكَم والنصائح التي يسترشد بها في حياته وتعينه على حكم مدينته. وهذه ترجمة لما بقي منها:
شوروباك قدم لابنه وصاياه.
شوروباك بن أوبارا- توتو،
قدم وصاياه لابنه زيوسودرا قائلاً:
أي بني، سأعطيك هذه الوصايا، فخذ بوصاياي.
زيوسودرا سوف أنطق أمامك بكلمات، فاصغ إليها.
لا تهمل وصاياي، ولا تصرف سمعك عن كلماتي.
يلي ذلك بضع وصايا غير واضحة، ثم ينكسر الرقيم ويضيع معه أول نموذج في أدب الحكمة الإنسانية.
إلى جانب هذا النوع من أدب الحكمة، فقد ترك لنا السومريون مئات من كِسَر الألواح التي تحتوي أمثالاً تعكس نظرتهم إلى الحياة، وهي لا تختلف كثيراً عن نظرتنا الراهنة، ولا عن سجايانا وأخلاقنا المعاصرة. ولكن لسوء الحظ فإن قلة من هذه الأمثال كان واضحاً للقراءة بالنسبة لعلماء السومريات، أسوق فيما يلي أكثرها وضوحاً:
لو وضعته في الماء (= المرء الفاشل) لفسد الماء، ولو وضعته في البستان لبدأت ثماره تتعفن.
واحسرتاه على الفقير. إذا حصل على الخبز عدِم الملح، وإذا حصل على الملح عدِمَ الخبز. وإذا حصل على اللحم يكون قد فقد الخروف، وإذا أبقى على الخروف فقدَ اللحم.
من امتلك الفضة قد يكون سعيداً، ومن امتلك شعيراً كثيراً قد يكون سعيداً. ولكن من لا يملك شيئاً في وسعه أن ينام.
إنني جواد أصيل ولكنني رُبِطتُ مع البغل.
من يأكل كثيراً لا يستطيع النوم.
إن الكاتب الذي تتحرك يده بسرعة فمه، هو كاتب حقاً.
من لم يُعِلْ زوجة أو طفلاً، سَلِمَ أنفه من حبل الجر.
من أجل المتعة: الزواج. ومع بعض التفكير: الطلاق.
في يوم العرس، القلب الفرح: العروس، والقلب المغتم: العريس.
الزوجة مستقبل الرجل، والابنة خلاص الرجل، والابن ملجأ الرجل، أما الكنة فشيطان الرجل.
تدوم الصداقة يوماً، ولكن القرابة باقية إلى الأبد.
الثور يحرث والكلب يخرب خطوط الحراثة العميقة.
لا يستطيع كلب الحداد أن يقلب السندان، ولذا فإنه يقلب سطل الماء.
على الرغم من أنه لم يمسك بالثعلب، إلا أنه أعد له الحبل الذي سيضعه في رقبته.
هربتُ من الثور البري فواجهتني البقرة البرية.
يد إلى يد يمكنها أن تبنى بيتاً، ومعدة إلى معدة تخرب بيت المرء.
من بنى بيتاً كبيوت الأمراء عاش مثل العبد، ومن بنى بيتاً كبيوت العبيد عاشَ أميراً.
قد يكون لك سيد، أو قد يكون لك ملك، ولكن الرجل الذي تخشاه فعلاً هو جابي الضريبة.
لا تقل لي ماذا كسبت بل قل لي ماذا خسرت.
ليس القلب هو الذي يصنع العداوة بل اللسان.
عندما تتعود على الكذب لن يصدقوك عندما تقول الحقيقة.
الذبابة تقع في الفم المفتوح.
الكلمة الحلوة صديق لكل يوم.
المكان الذي يخلو من كلاب الحراسة تسوده الثعالب.
القلب المحب يبني البيت، والقلب الكاره يهدمه.
المال مثل السنونو الطائر الذي لا يجد مكاناً يحط فيه.
ومن الأدب البابلي وصلنا نص على جانب كبير من الأهمية يلقي ضوءاً على المنظومة الأخلاقية للإنسان المشرقي القديم، وهو عبارة عن وصايا يوجهها أب إلى ابنه، ويرجع بتاريخه إلى النصف الأول من الألف الأول قبل الميلاد. وبما أن بداية النص مفقودة، فإننا لا نعرف هوية الأب ولا هوية الابن وهذه ترجمة لمعظم سطوره البالغة نحو خمسين سطراً:
مثل إنسان حكيم، دع فهمك يشع بتواضع على من حولك.
اكبح جماح فمك. راقب كلماتك،
واحفظ شفتيك كما يحافظ الغني على ثروته.
لا تتفوه بما لا يُفيد، ولا تعطِ نصيحة في غير محلها.
لا تسارع للوقوف في أمكنة الاجتماعات العامَّة،
وتجنب الأماكن التي يجري فيها الخصام.
فعندما يحل الخصام سيتوجب عليك إعطاء الرأي،
وسوف يجبرونك على أن تكون شاهداً على ما حصل،
ويأتون بك لتُدلي بشهادتك في المحكمة في قضية لا تخصك.
فإذا رأيت خصاماً تجنبه وتجاهله،
أما إذا كنت طرفاً في الخصام فحاول إطفاء لهيبه،
ففي كل نزاع ابتعاد عن جادة الحق والصواب،
ومن يبادر إلى إيقافه هو الذي يفكر بصالح صديقه.
لا تصنع بخصمك شراً،
ومن يبادرك بسيئة كافئه بحسنة.
واجه عدوك بالعدل ولا تظلم،
ولا تترك قلبك نهبة لإغواء العمل السيئ.
أعطِ الطعام لسائله، وخمر البلح لطالبه،
ولا ترد طالباً لصدقة أو ثوب،
فبعملك هذا تبتهج الآلهة،
وبعملك هذا مرضاة للإله شَمَشْ، وبه يُجزي حسنة.
لا تتزوج من عاهرة فاق أزواجها الآلاف،
من بنات عشتار اللواتي نُذرن لإله،
من بغي مقدسة عشاقها بلا عدد،
لأنها لن تكون سنداً لك في همومك،
وفي الخصام سوف تشوه سمعتك وتفتري عليك،
إن الطاعة والاحترام ليسا من شيمتها،
والبيت الذي تدخله سيؤول إلى خراب وزوجها لن يفلح.
أي بُنيَّ، إذا اختارك الأمير لخدمته،
حافظ على ختمه محافظتك على نفسك.
وإذا فتحتَ خزنته وولجتَ إليها،
ستجد أموالاً لا يمكنك عدها،
فغض الطرف عنها ولا يراودك طمع بها.
لأن عملك في النهاية سوف يفتضح،
وستبدو سرقتك واضحة للعيان،
وسيعلم الأمير بذلك وينزل به العقوبة.
لا تُغلظ في الكلام ولا تفتر على أحد،
لأن من يُغلظ في الكلام ويفتري على الناس،
يعاقبه الإله شَمَشْ ويلاحقه طالباً رأسه.
احفظ شفتيك ولا تتشدق بالكلام،
وكلماتك الذاتية لا تبُح بها حتى لنفسك في وحدتك،
إن ما تقوله بتسرع سوف تضطر للتراجع عنه لاحقاً.
ليكن عقلك ميزان نطقك.
أدِ الفروض لربك كل يوم،
ارفع له الصلوات، وقدم القرابين، وأشعل البخور.
إن تبجيل الآلهة يورث هناءة العيش،
وتقديم القرابين إليها يطيل العمر،
والصلوات تكفّر عن السيئات.
من يحفظ في قلبه مهابة الآلهة محبوب لديها،
ومن يتوجه بالعبادة إلى الأنوناكي تمتد به الأيام.
لا تتفوه ببذيء الكلام، بل قل أحسنه.
وإذا وعدت فأَوفِ بوعدك.
حواريَّة السيد والعبد:
في مقابل الوصايا التي تُعلي من شأن الحياة الأخلاقية وتؤمن بجدواها، لدينا نص بابلي يبدو لأول وهلة وكأنه يشكك في وجود قاعدة ثابتة يرتكز عليها الخيار الأخلاقي، ويرى إلى كل سلوك في قيمته النسبية. والنص موضوع في صيغة حوارية بين السيد وعبده. في كل مرة يقول السيد لعبده أنه سيقوم بعمل ما، يعمد العبد إلى تزيين العمل لسيده ويبرز محاسنه ويعدد الفوائد التي تعود عليه منه. بعد ذلك يقول السيد لعبده أنه لا يريد بالفعل القيام بهذا العمل. فيعمد العبد إلى صرف نظر سيده عنه ويبرز مساوئه ويعدد سلبياته. وهذه ترجمتي للنص الكامل:
أيها الخادم، اصغ إليَّ وأطعني.
سمعاً وطاعةً يا سيدي.
أحضر لي عربة وشد إليها الجياد، فإني سأتوجه إلى القصر الملكي.
اذهب يا سيدي إلى القصر، اذهب. فهناك سوف تتحقق كل رغباتك، وسوف يكون الملك كريماً معك.
كلا أيها الخادم، لن أذهب إلى القصر.
لا تذهب إلى القصر يا سيدي، لا تذهب. فهناك سوف يرسل بك الملك في مهمة إلى بلاد لا تعرفها. عندها سوف تؤسر وتقضي ليلك ونهارك في عُسر ومشقة.
أيها الخادم، اصغ إليَّ وأطعني.
سمعاً وطاعةً يا سيدي.
أحضر لي ماءً لأغسل يديَّ وأتعشى.
تعشّ سيدي تعشّ. إن تناول العشاء بانتظام يُفرح القلب، والإله شَمَشْ يأتي إلى العشاء الذي يؤكل بسعادة وبأيدي مغسولة.
كلا أيها الخادم، لن أتعشى.
لا تتعشَّ يا سيدي، لا تتعشَّ. فإن الأفضل للإنسان أن يأكل فقط عندما يجوع، ويشرب فقط عندما يعطش.
أيها الخادم اصغ إليَّ وأطعني.
سمعاً وطاعةً يا سيدي.
أحضر لي عربة وشدّ إليها الجياد، فإني لذاهب في نزهة خلوية إلى البراري.
اذهب إلى البراري سيدي، اذهب إلى البراري. فبطن الصياد هناك دوماً ممتلئة، و[المعنى غير واضح في جواب الخادم].
كلا أيها الخادم، لن أذهب إلى البراري.
لا تذهب إلى البراري سيدي، لا تذهب إلى البراري. فذهن الذي يطوف البراري يزيغ ويتعكر و [المعنى غير واضح في جواب الخادم].
(عدة أسطر مخرومة وغير واضحة المعنى).
أيها الخادم اصغ إليَّ وأطعني.
سمعاً وطاعةً يا سيدي.
سوف أسكت عما يقوله أعدائي ضدي.
اسكت يا سيدي، اسكت. فالصمت أفضل من الكلام.
كلا أيها الخادم، لن أسكت عما يقوله أعدائي ضدي.
لا تسكت سيدي، لا تسكت. لأنك إذا لم تتكلم [... ... ...].
أيها الخادم اصغ إليَّ وأطعني.
سمعاً وطاعةً يا سيدي.
سأقوم بأعمال غير مستقيمة.
افعل ذلك سيدي، افعل. وإلا فمن أين لك بلباسك، ومن يقدم لك ما يملأ معدتك.
كلا أيها الخادم لن أقول بأعمال غير مستقيمة.
لا تقم بأعمال غير مستقيمة سيدي، لا تقم. من يفعل ذلك إما أن يُقتل، أو يُسلخ جلده، أو تُقتلع عيناه ويرمى في السجن.
أيها الخادم اصغ إليَّ وأطعني.
سمعاً وطاعةً يا سيدي.
أريد أن أحب امرأة.
افعل ذلك سيدي، افعل. فإن الرجل الذي يحب ينسى همومه ومتاعبه.
كلا أيها الخادم، لن أحب امرأة.
لا تحب امرأة يا سيدي، لا تحب. فالمرأة حفرة وشَرَك. إنها خنجر حاد يحز رقبة الرجل.
أيها الخادم اصغ إليَّ وأطعني.
سمعاً وطاعةً يا سيدي.
اجلب لي ماءً لأغسل يدي، وأقدم قرباناً لإلهي.
قدم قربانك سيدي، قدم قربانك. إن من يقدم قرباناً لإلهه يعطيه قرضاً، وينام مرتاح البال.
كلا أيها الخادم، لن أقدم قرباناً لإلهي.
لا تقدم القربان لإلهك، سيدي، لا تقدم. لأنك إذا لم تفعل سوف تُعلِّم إلهك أن يتبعك مثل الكلب، وهو يطلب منك إقامة الشعائر، أو الاستخارة واستطلاع الفأل، وما إلى ذلك.
أيها الخادم اصغ إليَّ وأطعني.
سمعاً وطاعةً يا سيدي.
سوف أقدم للناس قروضاً (من الحبوب).
قدِّم للناس قروضاً يا سيدي، قدم لهم قروضاً. إن من يقدم قرضاً يحافظ على محصوله من الحبوب، ويجني فوق ذلك فائدة عليها.
كلا أيها الخادم، لن أقدم للناس قروضاً.
لا تقدم قروضاً للناس، سيدي، لا تقدم قروضاً. إن تقديم القرض سهل مثل الجماع، ولكن استرداده صعب مثل الحمل والولادة. سوف يفيد الناس من قرضك، ثم يتذمرون عليك، ولن تجني بعد ذلك فائدة بل وستخسر ما أقرضت.
أيها الخادم اصغ إليَّ وأطعني.
سمعاً وطاعةً يا سيدي.
سأقوم بعمل صالح يخدم بلادي.
افعل ذلك سيدي، افعل. إن من يقدم خدمة لبلده يجزيه بها الإله مردوخ.
كلا أيها الخادم، لن أقوم بعمل صالح يخدم بلادي.
لا تفعل ذلك، سيدي، لا تفعل. اذهب إلى خرائب المدن القديمة وتجول بينها. انظر إلى جمجمة الإنسان الوضيع وجمجمة الإنسان العظيم، هل تستطيع التفريق بينها؟ هل تستطيع التمييز بين من قدم خدمة لبلاده ومن قدم سيئة؟
أيها الخادم اصغ إليَّ وأطعني.
سمعاً وطاعةً يا سيدي.
فيمَ الخير إذن؟
أن تُدَقَّ مني ومنك العنق ونرمى في النهر. فمن يستطيع أن يتطاول فيرقى إلى السماء، أو يتسع فيحيط بالأرض؟
كلا أيها الخادم، سوف أقتلك أولاً وأجعلك تسبقني.
إذا فعلت ذلك، فإنك لن تعيش بعدي أكثر من ثلاثة أيام.
هذه الخاتمة غير المتوقعة للحوار فتحت الباب واسعاً أمام المفسرين لطرح تفسيرات ينحو معظمها نحو التوكيد على الطابع التشاؤمي لهذا النص. فالسؤال الذي يوجهه السيد إلى خادمه في نهاية الحوار: «فيمَ الخير إذن؟» يجيب عليه الخادم في أنه لا خير في هذه الحياة إلا في الموت، لأن الإنسان لا يستطيع من خلال أي عمل له أن يغير شيئاً في طبيعة الحياة ومسارها، وليس هنالك في الواقع من سلوك أخلاقي وآخر غير أخلاقي، لأن مسألة الأخلاق هي شأن نسبي يعتمد على زاوية النظر إليه. ولكنني أرى أن هذا النص يطرح تساؤلاً وجودياً أساسياً بخصوص ماهية الخير من وجهة نظر إنسانية بحتة، لا تأخذ مسألة الثواب العقاب بالحسبان، ولا ترى إلى السلوك الإنساني في ما يعود على صاحبه من مردود مادي أو معنوي. ومع ذلك فإن النص يبقى إشكالياً ومفتوحاً على تفسيرات شتى.
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
01-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
13-شباط-2021 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |