ترسين سكينا أرسل خنجرا" .. السرد في خدمة الشعر
2009-10-27
مشكلة صالح دياب في مجموعته الأخيرة ’’ ترسلين سكينا أرسل خنجرا ’’دار شرقيات 2009؛ إنه لا يبيت ملء جفونه عن شواردها ولا يسهر مع القوم جراها يختصم؛ هو يُسِفُّ القصيدة بما يعترك من الواقع في داخله؛ يصغي إلى نبضه ويترجم إيقاعه قصائد لا ينتظرها أن تأتيه وحيا منزلا وهو في برجه العاجي ولا يبحث عنها بين رفوف النظريات والقواعد؛ يخرج إليها ويطاردها كما يطارد لقمة عيشه وكسرةً لملء جوعه، يرصدها عند منعطف شارع يزدحم بالوهم، يترصد ها عند مدخل محطة ميترو في اتجاه فرح منسي، يلتقطها من بين ثنايا جورب مهمل على حاشية فكرة نال منها السوس؛ المهم إنه يقتنص الشعر من بين تفاصيل حياته اليومية وما تفرج عنه شواغل حياته كمغترب في أرض الضياع؛
قال في حوار أجري معه مؤخرا : ’’كنت أريد أن أروي حياتي كما هي أن أشبع القصيدة بتوتري بينما تعبرني مشاعر متشابهة أو متضاربة، مراهنا على إن الشعر يمكن ان ينبثق من الوقائعي الشخصي الذي ينقلب الى ما هو شعري حميمي فوق واقعي ’’طبعا هو بكلامه هذا لا يبرر فقط مقاربته المغايرة للشعرية والمختلفة عن مجموعته الأولى’’ قمر يابس يعتني بحياتي ’’ ومجموعته الثانية ’’ صيف يوناني’’ لكنه ينتصر للشعر الذي يصالح الواقع ويعود يه سالما من هتاف الحماسات المشبوهة،بريئا من دم الأيديولوجيات ا لتي تساقطت الواحدة بعد الأخرى
سوف تبدو قصائد هذه المجموعة كما لو إنها يوميات، ستبدو أيضا شذرات سردية جاءت أسطرها على وفق التقطيع الشعري وهي كذلك بما إنها تعوِّل أساسا على السرد وتقنياته المستحدثة وتعززه بلغة بالغت في نثريتها أحيانا غير إن القصيدة لن تفقد شعريتها تشدُّ الأعصاب متخلقة من التوتر الذي سيزداد حدة كلما تنكَّب الشاعر الأعراف ونسف المعايير وقواعدها وتجنب الانضباط ليكسر النماذج العليا ويخلخل المفاهيم فيربك الذائقة التي استأنست غريزيا بالذاكرة وما انتظم من القول وإذ يصدر هذا النص عن انتباه متوتر لتحولات الثقافة والجمال فالقصيدة هنا ليست من الشعر المكثف المقطر بما يستوجبه من صورة مركبة الاستعارة ولغة مشحونة الدلالات وإيقاع متناسق الوحدات.
هي قصيدة تهتف بشواغلها دونما مساحيق ولا رتوشات تجميلية،تقول همومها دون اكروباتية لغوية بأسلوب نثري في غاية البساطة كما: ’’في نهاية الأسبوع لن يكون الطقس جيدا/ مع ذلك سنذهب للسباحة/ وسترتدين ما يوهك الجديد/ ستشوي اللحم / احضري دجاجة وسجقا، أيضاً/ فليفلة وبصلا، إضافة إلى رقائق بطاطا فواكه وجبنة وخبزاً/ أنا أتكفل بالمنقل والنبيذ/... وفي قصيدة أخرى بعنوان ’’ الاسطوانة السابقة يقول: ’’أغلق كمبيوتره المحمول/ تجاوز الصالة/ قطر نفسه حتى محطة المترو/ أخذ السلالم الميكانيكية، انحدر إلى الأسفل/ على وقع الصرير المعدني/ .. أما قصيدة’’ ماذا تريدين أن أقول لك؟’’ فتبدأ كالتالي: ’’أكلمك من هاتف عمومي/ متعب ولم أنم ليلة أمس، المطر يسقط منذ أسبوع/ أخرج لي روحي/ كانبإمكانك أ، تتصلي / أو أن ترسلي لي إيميلا صغيرا/ ماذا تريدين ان أقول لك/...الخ الخ.
ليس من شك إن هذه الشواهد المقتطعة من بعض قصائد المجموعة هي مقاطع سردية بالأساس تدعمها لغة نثرية مفرطة في بساطتها جلب الشاعر مفرداتها من اليومي العابر دونما اشتغال بلاغي عليها، لغة تخاطب الناس فيما بينهم، الكلام العادي بكل دفقه الحراري بخشونته وليونته، صداميته ورقته جفافه وطراوته بمثل هذا لكلام صنعت هذه القصائد قاموسها الخاص: كمبيوتر محمول/ موبايل بريد الكتروني/ طنجرة/ أيميل/ الكبُّوت/ الكوموددينة/ ..الخ من مصطلحات العصر الحديث في التخاطب بين الناس والتحاور بينهم وما يزيد من قوة حضور السرد هنا أن كل القصائد هي عبارة على حوار بين الشاعر والواقع بشأن هذا الضمير العظيم المخاطب المؤنث المفرد وكأنما الشاعر في مونولوج داخلي حول هذه الحبيبة التي هجرته للريح والغربة والعزلة أو هو في حوار مع أشياء الواقع حول هذه الحبيبة أيضا التي تركته متسكعا على الأرصفة متشردا بين الحانات وفي مواضع أخرى هو في حوار معها بشأنها، لقد تضافرت عدة عناصر لتعزز السرد هنا وتقوي حضوره لكن هذه المقتطفات ليست كل القصيدة هي جسور يمدها الشاعر لتسهل له العبور إلى الكون الشعري.
السرد في خدمة الشعر
لقد وجدت قصيدة النثر عند صالح دياب معادلا يعوض الفراغ الذي أحدثه تخليها عن الإيقاع الخارجي والإطاحة بسلطة البلاغة غير إنها وما يعتمل فيها من خلايا سردية وما يجري فيها من حركة متسارعة متضاربة، متشابهة ستشكل صورة كلية هي في الآخر صورة شعرية استوعب الشاعر عناصرها وقدر زوايا التقاطها وأتقن تركيب أجزائها فراوغ السياق من ناحية وخان أفق انتظار القارئ من ناحية ثانية وأحدث تلك الهزة / الدهشة التي هي من شأن الصورة الشعرية ذات المرقى الجمالي فقط:’’أشبه ببئر في ليلة ظلماء / أمسك بقمر وقع للتو/ في مياهه ميتا/ ’’من قصيدة النمرة المناسبة"" وانظر إلى الضباب/ يمشي على غير هدى/ خلف ديك بري/’’من قصيدة جنوب غرب فرنسا.. ’’ في الزوايا هناك، في أوراق التوت التي تتطاير كسرب من افئران الصفراء/ صادفت لأول مرة حياتي/واجتزت الباب الذي تركته على الدوان مواربا، ولم تجتزه الريح"
تأتي هذه الصور المصنوعة بدقة لتؤكد شعرية القصيدة عند صالح دياب هذه الشعرية المتخففة من سلطة البلاغة و الفالتة من سلطة قوانين الإيقاع المألوفة لتصنع إيقاعها بنفسها من خلال تصالحها مع الذات والإنصات لهمومها والشارع ينبض فيها.
تتوغل قصائد هذه المجموعة الشعرية الأخيرة لصالح دياب في نفس الاتجاه الذي دشنته قصيدة النثر مع جيل الرواد الثاني ألا وهو تحرير الشعر من مهام لا تعنيه وتخليصه من مشقة القيام ببطولات ليست له.
ها هو الشاعر يعود إلى الشارع متصالحا مع نثريات الحياة يعلي من شأنها فليس ثمة من قضية سياسية أو انطولوجية او عقائدية أهم من قضية الإنسان في الشارع.
التاريخ: Tuesday, September 01
اسم الصفحة: المدى الثقافي
08-أيار-2021
15-آب-2020 | |
09-تشرين الثاني-2009 | |
31-تشرين الأول-2009 | |
27-تشرين الأول-2009 | |
13-حزيران-2008 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |