من مآسي الزمان
خاص ألف
2009-11-16
لأننا في عالمٍ ممزقٍ من كلِّ الجهات , تتقاذُفُه رياحُ القمعِ و القبح و العنفِ و الاستبداد .. فما علينا إلا العملُ جادينَ على البحثِ عن أيةِ بواباتٍ و لو ضيقةٍ لإدخال ما نستطيعُ من علوم الجمال و الأخلاق و الحريات و المحبةِ و الروحانياتِ لتطهيرِ النفوسِ و الأيامِ من أدرانِ الخرابِ المعرّشِ و المشرِّش بينَ الأناملِ فوقَ الرموش ..
ما علينا إلا العودةُ إلى القوى الحيّةِ الكامنةِ في دواخلنا , قوى الوعي و الفن و الإبداع , لأن ليسَ سواها بقادرٍ على التأسيسِِ لمستقبلٍ مزنّرٍ بالجمالِ يمكنُ أن يَليقَ بكنه الإنسان وطاقاته , ويعززُه سيداً للمخلوقات .
و لأن هذا الواقع يرفلُ بالحاقدين وبالمتجبرين , يرفلُ بكراهية الكل للكل , واقعٌ فقد بديهيات الالتزام بالقانون أو حتّى بالعرفِ الاجتماعي , فأصبح يفيضُ بالزنا الفكري و المعرفي و الاجتماعي لنرى اللقطاء الذين تطاولوا ليطالوا كل شيء ,يتحكموا بالعباد و البلاد .
كيف لا وهذه أزمنتهم المكدّسة بالعهر و بالفقر و بالقهقهات .. ..
لذا لا بدّ من الفن عامة و الشعر خاصّة باعتباره الشكل الأهم و لأرقى لأي نشاط اجتماعي .. لا بدّ منه ليطهّر الإنسان مما تراكم من تشوهات وأدرانٍ أفرزت نظماً طفيليةً ذميمة ليطهره نعم و هذه هي وظيفة من وظائفه كما يراها أرسطو في (فن الشعر ) .
لابدَّ منه لتعزيز كل القيم و الأخلاق التي ترقى به ليتبوأ مكانته كخليفة الله على أرضه ..لتعزيز الجمال و التدرب على تأمله و معايشته , الجمال الذي نادى به ديستوفسكي كمنقذ للبشرية .
و نلاحظ الآنَ أن هذه الزياداتِ في التشويه لم تشكلْ صدمةً عند المجتمع لضرورة التوجه نحو علاقاتٍ جماليةٍ على مستوى الذاتِ و الموضوع من خلالِ البحثِ عن بديهيةِ و فطريةِ الإنسان قبل تولّد الصراعات التاريخيةِ التي ولّدت الانقسامات على صعدٍ عدّةٍ .. لا بل على العكسِ إذ نجدُ الإصرار في الإمعانِ بسراديبِ الحياةِ وأقبيتها الرطبةِ التي وشمتنا بعفنها و رائحتها الممتدةِ إلى أقاصي نبضنا.
.. نجدُ الابتعادَ و العزوفَ عنِ الفنِ عامةً و الأدبِ أو الشعر خاصةً وما هذا إلا عزوفٌ عن الجمالِ بوصفه حقيقةً مثلى .. عزوفٌ عن وعي و تأملِ الذاتِ التي بحاجةٍ لمجموعةِ علاقاتٍ سليمةٍ مع الظواهرِ و الأشياءِ المحيطةِ لتحققَ توازنَها , وتحددُ موقفَها تجاه العالم .
.. لذالك نحاول دائما الهروب إلى ظلال وأفياء القصيدة لمواجهة الواقع الذي يضيق فيه كل شيء على كل شيء" النفوس , القيم , السماء , الأرض , .. لخ "
دائما نحاول رسم الآفاق التي نتشهى , نحاول من خلال الشعر تجميل صباحاتنا الخجولة , نحاول تجميع بعض زهور الياسمين و القرنفل و النرجس و.. و..في وعاء أيامنا المحزنة آملين تبديد بعض أحزاننا مع كل فنجان قهوة أو أغنية لفيروز أو ابتسامة الأمهات لأطفالهنَّ ..
مع دفقة نهر تجاه تربتنا .. مع اشراقة شمس على أزهار شرفة من نحب
مع رفّة جنح طيرٍ في سموات الله المغلقة ..
نحاولُ من خلالِ الشعر أن نردّ بعضاً من مآسي الزمان عن وجوهنا التي تزداد يباسا كصفصاف فقد التراب الماء الهواء وأخذت ريح الفصول ترتّل على أغصانه مواويل النساء الباكيات بمرارة الفقد فوق شاهدات القبور..
فما الشعر إلا تلكَ الأمداء و لأنداء التي نحتاجها كي نمعن في حبونا و عدونا نحوى سواقي الطفولة التي مشيناها حفاة إلا من الحب و القهقهات .. الأمداء التي تمدّنا بنواحنا وبكائنا وصراخنا وعويلنا .. ووجوهنا نحو الله لا يفصلنا عنه فاصل .
الشعر... تلك الأسئلة الكبرى التي تنتظر الإجابات .. تلك الغمامات السابحة في سماء الله التي تحنُّ علينا من قيظ صيفٍ ملّه الناس.. تلك الملامح التي ترسمها الدهشة فوق وجوه القدّيسين و الكهنة و الصوفيين لحظة مشاهدتهم هالة النور الإلهي .
..تلك الحقول التي تشع في ليالي الصيف , حقول القمح الحنون الذي يفيض على كل المخلوقات بوافر روحه.. يفيض على مفردات المكان وكل أبناء الزمان
الشعر تلك الكروم المعلقة بأعيننا وقلوبنا , تنتظرنا و تحنُّ إلينا وعلينا ككرَّمها
.. كروم الدروب الطويلة و العمر المديد ..
الشعر تلك الينابيع التي جمعتنا حولها حفاة وركضنا على حوافها نشدُّ السماء إلينا بأناشيد وأهازيج كل الأمهات و الجدات.. نرسم ما زنرنا الله به من براءة وعشق على وجه ماء.
الشعر ..أسئلةٌ راكمتها حالات الخوف , القلق , التأمل , البكاء , بكاء النساء على جثث أزواجهن.. أشقائهنَّ .. وحين بكاء الرجال على مرأى من أولادهم الضالعين في النحولة و لانحناء و الجوع .
الشعر تلك العيون التي تنتقل بين خرابات الحروب وازدحام السماء بكتل الحديد , و هدير المجنزرات على ضفاف نهر ودروب القرى .. وبين الله الذي في الأعالي .
الشعر حنين وطن .. حنين أم على وحيدها المتأخر في مساءات الحروب.
... حنو الماء على صفصاف الدروب وانحناات أغصانها على وجه هذا الماء .
... حنو الدنان على ندمائها ..
اشتياق الطفل لهدهدات أم كومتها القذائف في الصباح .
... هلع صغار المدارس عند قصف ساحاتها واشتعال النار في محافظهم .
الشعر .. صوت الحزين على غيابات أنامله عن الربابات أو غيابا ته في أوتار الربابات التي أدمعتها المواويل فأطلقت مناديلها أثواب صلاة لأمهات الكنائس ولأديرة .
الشعر إمعان في التأمل اليفيض ملائكة ورسلاً وقدِّيسين ويفيض ديانات شتّى .
الشعر .. تهاليل البحار بقدوم نهر وافدٍ للتو من عمق التلال وأقاصي السهول .
.. فرح وابتهال دجلة عند لقياه الفرات
... شعور المرأة الحامل بعد طول انتظار بحراك الجنين فتطوقه بكلها و بالدموع .
... نواح الحمام اليمام وكلُّ الطيور عند سماعهم كل العباد ترتل والأيادي تجاه السماء صلاة الاستسقاء بعيد موات فراخها في أسفل العشِّ .
الشعر .. ذاك العتاب الجميل بين الورد وقطرة الماء اذاء التأخر عن موعدها ..
... بين الشجرة والريح اذاء قسوته ولإفراط بالتعذيب المحبب لها
بين السماء وسطوح المنازل في الرافدين عند كلِّ مساء, فأولئك الممددون يشدون السماء بموال واحدٍ ويحمّلون في عرباتها ذاك العتاب الجميل , فتموج الكواكب بدمع حنون وينأى المسيح بوجهه عنّا وعيناه يغرقهما الدمع .. الفرات المعمد باللهب .
الشعر صراخ نخيل الفرات بكل السماء .. بكل المتكئين على سرر و ال ينعمون بحور عين وبعض غلمان وفاكهة ولحم الطير وما يتخيرون .. ألؤلؤ المكنون .
الشعر صراخ الفرات بكل السماء .... :
أهذا يليقْ ..؟
يا اله الفواجع ارفع الفخ
عن رقبة الطير
علَّ يعودُ إليه.. إلينا الشهيقْ
يا إله الخليقةِ خفف قليلاً
من الطعناتِ
صنيعتكَ الآن يلفحها وهجُ
موتٍ .. أهذا يليقْ ...؟
يا اله الخليقة .. كلُّ السماوات والأرض
حولي تضيقْ .!
الشعر كل هذا وذاك ..
لذلك نحاول الهروب إليه لمواجهة عفن وتعفن الزمان و المكان بأبنائه و سادته الهلاميين الذين يشبّون في " الظلامات" الرطبة و الأقبية ال تفوح كراهية وحقداً
لكلّ الأشياء .
عباس حيروقة
[email protected]
××××
نقل المواد من الموقع دون الإشارة إلى المصدر يعتبر سرقة. نرجو ممن ينقلون عنا ذكر المصدر.
في المستقبل سنعلن عن أسماء جميع المواقع التي تنقل عنا دون ذكر المصدر
ألف
08-أيار-2021
07-آذار-2011 | |
18-شباط-2011 | |
09-كانون الثاني-2011 | |
27-كانون الأول-2010 | |
22-كانون الأول-2010 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |