الدين ورجالاته ..وأسئلة الزمان المديد
خاص ألف
2010-12-22
تاريخياً لم يكن الدين عند الساسة غاية أبداً , بل وسيلة يستخدمونها لتطويع وتجيش الجماعة للعمل تحت ألويتهم, أولاً لتثبيت حكمهم وتمكينهم من القضاء على معارضيهم أو ما قد يطلقون عليه المرتد, ومن ثم التوسع لاحتلال المزيد من الأراضي وجني الخراج أو الضرائب وتمتيع الرعية والتمتع بأجمل النساء والعذراوات من سبايا الحروب .
الساسة الذين لا يبذلون جهداً أو يجدون طول عناء في البحث عن زبانيتهم ليقلدونهم المكانة التي يشتهونها أو يحلمون بها , لا بل على العكس تماماً يجدونهم يتهافتون على أبوابهم بكامل زيهم الكهنوتي البرّاق طالبين الرشد والنصح كبرنامج عمل لهم وللرعية الرعاع .
إنهم الذين يطلقون على أنفسهم أو نطلق عليهم (( رجالات الدين )).. الذين همهم وهدفهم وغايتهم إيجاد مخرج وتبرير لمراهقات ساساتهم , يجرون النصوص من أعناقها , يلوونها لا لإيجاد مخرج لمظلوم أو مقهور أو جائع أو حتى لتطبيق حكم الله على الكفرة والزنادقة لا بل لتصدير هذا القائد أو الأمير أو الخليفة كمنفّذ لحكم الله الحق , والأمثلة جمة تكاد تشمل تاريخ الإنسان عامة .
إنهم الساسة الذين يجعلون من الدين مطية لهم ولرجالاتهم لتحقيق كما قلنا مكاسب هشة لا تورث العباد والبلاد سوى الويلات على المدى الطويل ولكنهم ...؟؟!!
وقد حفلت كتب التاريخ والتراث حتى الشفاهي منه بأمثلة حيّة بيّنت للعامة والخاصة ماهية الدور المرعب الذي لعبته هذه الطبقة من جهل وتجهيل لكل مفردات الزمان والمكان .
كما تناول الآدب العربي والعالمي(( رواية ومسرحا وقصصا )) هذه الظاهرة وبين منعكساتها على المنظومة الأخلاقية المجتمعية وما يمكن أن تخلفّفه من خراب زمكاني قد يمتد لأجيال وأجيال.
لن نتوسع في ذكر وتعداد أشكال وأسماء الأعمال الأدبية وكتابها ولكن نتناول نموذجا هاما لكاتب هام جدا ترك إرثا أدبيا جمّا, أثّر وسيبقى يؤثر في الحراك الثقافي العالمي ...لينهل من تجربته وحيويتها العديد من الكتاب والشعراء..
يستعيرون حزنه وقلقه وصوفيته الفريدة ,شعره ومسرحه ورواياته,
يستعيرون علاقته مع الله مع النص مع العقل مع النقل
يستعيرون ,حيويته وأسئلته الكبيرة ليحاولوا معاودة طرحها ولكن بشكل شبه مشّوه والأمثلة متوافرة جدا ..
نتناول رواية هامة مشغول عليها بتقانة كاتب خبر أدواته والحياة
إنها رواية الأخوة الأعداء
للروائي نيكوس كازانتزاكي والتي جاء بها ليوضح وبكثير من الجرأة ملامح الدور الخطير و المرعب الذي لعبه ويلعبونه رجالات ينعتون أنفسهم وينعتونهم برجال الدين ولكن أي دين هذا الذي يحل للأخ قتل أخيه وللقبيلة قتل شيخها والتمثيل بجثته على مرأى الله, أي دين يبيح ترك الأطفال يتضرعون جوعاً .. يموتون ولا يدفنون .. أو إن يدفنون تنّتشل جثثهم إلى البراري ؟؟!
يتناول كازانتزاكي كل هذا ليبين كم من الخساسة يمكن أن تختزنها وتمارسها النفس البشرية حتى على أبنائها فكيف يكون ذلك على غيرها من خلق الله .
يتناول دور رجال الدين المشوه إزاء هذه الحرب , فنلاحظ الرهبان يجولون المدن والقرى على ظهر الحمير ليجمعوا بعض ما يمكن أن يجمعوه للسيدة العذراء تحت حجج وذرائع شتّى من الأهالي الذين يتضرّعون جوعاً .. إضافةً إلى ذلكَ يشدّون من عزيمة الأهالي على القتل من باب أنهم لسان الله أو لسان السيدة العذراء .
في حين الجميع يعلم أن الرب قال : ليس بخوراً أريد ولا صلوات ولا لحماً ! فافتحوا مخازنكم ووزّعوا الخير على الفقراء وانتشروا في الأرض لتعلنوا كلمة المسيح المحبّة والعدالة والسلام "ص87 .. إلا أنه الراهب يدخل القرية وينادي : أمنحكم بركتي يا أبنائي وتمنحكم السيدة العذراء بركتها أيضاً , اذهبوا إلى بيوتكم وابحثوا عن هباتكم للسيدة العذراء نقوداً أو خبزاً أو خمراً أو جبناً أو صوفاً أو زيتاً أو أي شيء وأحضروا ما لديكم وتعالوا لتركعوا .. اركعوا ففي هذا الصندوق يرقد حزام مريم المقدّس ص35 .
ويتابع الراهب بعد سؤال أهل القرية له عن الأنصار الحمر فيقول : اقتلوا اقتلوا هذا ما تقوله لكم السيدة العذراء , اقتلوا الأنصار لأنهم كلاب وليسوا بشراً .
ويبين الكاتب في متن الرواية أيضاً أن أصحاب القبعات الحمراء اشتغلوا على هذه الظاهرة , فأرسلوا بعض رجالهم بزي الرهبان وأعطوهم العظة ليتحدثوا بها أمام البسطاء كي يجمعوا ما يجمعوه لهم ومن جهة أخرى يحضّوهم على القتل قتل أصحاب القبعات السود ليكسبوا الخلاص .
هذه حالة ... أما الحالة الأخرى لرجال الدين ودورهم الحضاري والذي لا يمثل الدين الحق وحسب بل يمثل كل القيم والمبادئ التي دعا إليها العقل والمنطق والتي تلتقي في السعي بكل الوسائل لتخليص العالم كل العالم من قبح الحرب وتداعياته..لتخليص العالم من الاقتتال والعمل على بناء الإنسان وتعزيزه كخليفة الله على هذه الأرض .
الحالة الأخرى والتي تحدثنا مسبقاً عنها مطولاً يمثلها القسيس ياناروس والذي يخجل من الحياة هذه , لواقع الاقتتال الداخلي .
الأب ياناروس الذي كان ينظر إلى الطرفين نظرة واحدةً , نظرة أمل وألم ...أملاً أن تنتهي هذه الخدعة الكبرى , وألماً على ما يراق من دماء وما يرتفع من عويل النساء الثكالى فيفتح زراعيه ويصيح (المحبة .. المحبة يا أبنائي .. كفى دماً يا أبنائي .. يا أخوتي لا تصدقوا الحمر ولا تصدقوا السود ولكن تصالحوا أنتم ) إلا أن الكلمة الطيبة دائماً لا تجد الآذان الصاغية , ودائماً الرصاص يخنق كل الهتافات ليبقى النشيج والعويل يسيّج هذه البقعة من الأرض .
إنه الأب ياناروس رجل الدين من حيث هو حسب رأي ماركس وعي الذات والشعور بالذات لدى الإنسان , وهذا يؤكد ما ذهبنا إليه سابقاً من أن الشعور موطن المعرفة والوجود معاً .
روايةٌ يريد كاتبها أن يقول فيها الأشياء الكثيرة والهامة عن حراك عام عاشته البلاد , بصياغة لغوية ماتعة تمتلك القارئ وتساعده على طرح المزيد من ذات الأسئلة التي تؤرق الكاتب من حيث هي أسئلة وجودية متأصّلة في الوعي .. وعي الموجودات , وعي الذات . يطرحها لتثبيتها في أذهان الناس كل الناس .. إنها أسئلة العارف , أسئلة استنكارية ربما لا استفهامية .. كيف لا واليونان هي الشمس التي أشرقت على البشرية , فمن الصعب أن تتملكها الغربان ويعيث بأوابدها وحضارتها لقطاء ذاك الزمان .
إنه التعلق الذي عكسه هذا التغنّي بثرى اليونان والذي جاء بيّناً على لسان الشخصية الأم في هذا العمل وهو الأب "ياناروس" إذ رسم ملامح هذه العلاقة باحتفائية لا بالكنيسة وموجوداتها أو بالقرية وحاراتها وتلالها .. لكنها علاقة هذا الرجل القديس باليونان كل اليونان .
- إذا احتضنت في نفسك اليونان فسوف تشعر في داخلك بخفقات المجد كله ص160
- أيتها اليونان لست سوى مجد وجوع , لست سوى روح وقدماك في رأسك . لكن يجب أن لا تموتي يا أمنا , لن نتركك ص234
إذاً كازانتزاكي ومن باب المسؤولية الثقافية والقومية يمجّد هذا التراث من حيث هو "مخزون نفسي للجماهير " (منذ آلاف السنين عجن اليونانيون هذا التراب بالدم والعرق والدموع , فهو ترابنا ! لن ندع أحداً يمدّ إليه قدمه فالموت أهون من ذلكَ ) ص158 .
إذاً وبعد هذه المقاربة المتواضعة لفهوم الدين شبه السائد كخطاب بملامحه الواسمة على كل الصعد ودون حصره بجغرافية ما , إذ نقول كم نحن توّاقون لتعزيز الدين كمفهوم متعلّق بحقيقته المعروفة بذاته , الدين كسلوك وعمل ومعاملة..
فأنا وأنت وهو وهي و...الخ ننتمي لدين ما ونمثله بقدرما نعي ذاتنا أولاً وشعورنا بها وبضرورة تحصينها من التهالك والتهتك أمام بوابات الجهل والتجهيل ..
ننتمي بقدر ما نقدم من عون ومنفعة للأهل وللأصدقاء وللجيران وللعالم أجمع ..
نحن(( ديّنون )) من الانتماء الفعلي للدين بقدر ما نعمل على رفع مستوى وسوية الإنسان وكرامته معرفيا أخلاقيا اجتماعيا ماديا و..الخ
ديّنون بقدر ما نساهم بأعمار هذا الكون ونشر به وعليه السلام والبياض الجميل .
ديّنون بقدر رفضنا أدلجة الدين وتسيس الدين وعسكرة الدين ..بقدر تمتعنا وسعينا لرفع مستوى المنسوب الحيوي في الذهنية والعقلية الزمكانية لننأى بها عما قد يشوبها من نقصٍ في البداهة ..
نحن ننتمي إلى الدين بالقدر الذي نمتلكه من القدرة على التخلي عن القيم السلبية المتراكمة والمتجذرة في بنيتنا لاجتماعية وامتلاكنا لموقف نقدي فعال والذي يمكننا من البحث عن أدوات التغيير الجاثمة وراءَ بابين الحرية والمعرفة بغض النظر عن أيهما شرط للآخر , هل الحرية تستوجب المعرفة أولاً أم المعرفة تستوجب الحرية , تاركين الحديث في هذا المجال لموضع آخر .
ننتمي إلى الدين بقدر الانتماء إلى الإيمان مع التفريق بينهما تماما, والعمل على تعزيز سياسة واحدة متكاملة منقذة ومناسبة لكل الحالات الزمكانية تاريخياً ألا وهي سياسة العقل
العقل وحسب والذي به ننمِّي ونطوّر بداخلنا كمجتمعات إنسانية الإنسان وتعزيزه كسيد المخلوقات ..
عباس حيروقة
[email protected]
08-أيار-2021
07-آذار-2011 | |
18-شباط-2011 | |
09-كانون الثاني-2011 | |
27-كانون الأول-2010 | |
22-كانون الأول-2010 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |