تفضل اقعد قدام!
2009-12-11
في ظهيرة تموزية حارقة كنت أقف وزوجتي أمام الفندق. لولا موعد غداء في بيت صديق ألحَّ، بشكل مزعج، على حضورنا لما غادرنا بهو الفندق المكيف. إنها ساعة الذروة. الشمس تقف عمودية فوق الرؤوس. السيارات تطارد بعضها بعضاً على طول الشارع العريض الذي لا يعبره، في ذروة الحرّ هذه وانفلات الأعصاب، سوى المقامرين. مرت سيارات أجرة عديدة تقل ركاباً وأخرى فارغة إلا من سائقيها الذين لم يكلفوا أنفسهم عناء الالتفات إلينا. أخيراً توقفت سيارة أجرة. فتحتُ الباب الخلفي وصعدنا، زوجتي وأنا، نقطر عرقاً. لم تتحرك السيارة. كان السائق ينظر إلينا من مرآته. لم أفهم. أعدت التأكيد على العنوان الذي نقصده، فقد ظننت أنه لم يسمعني أول مرة. لكن السيارة لم تتحرك. ظل السائق يحدجني من مرآته بنظرة ذات دلالة. قلت له: في إشي؟
فقال: إيوه في. فقلت: شو؟ فقـــــال وهو يوالي النظر اليّ من المرآة: تفضل أقعد قدام! أدركت لحظتها لِمَ لم يتحـــرك السائق. فقلت له: هذه زوجتي وهذا دفتر العائلة. أخرجت دفتر العــــائلة، فعلاً، من حقيبتي وعرضته عليه. لكن السائق لم يعره اهتماما. فقال وهو يواصل النظر اليّ من المــــرآة: دفتر عائــــلة ما دفــــتر عائلة ما بعرف. بدك تقــــعد قدام ولا بتنزل من السيارة؟ الحرّ الشديد واصرار السائق على أن أجلس بجانبه كادا يفقدانني أعصابي. تعرف زوجتي فورتي العصبية وتخشى عواقبها. تعرف أيضا أننا لن نجد سيارة أجرة بسهولة فقالت لي تفادياً للأسوأ: روح اقعد قدام.
خطر لي أن الأمر يتعلق بزوجتي.. التي لم يصدق السائق أنها زوجتي رغم أنني عرضت عليه اثباتا حكومياً على صحة زعمي لا يرقى إليه الشك، ورغم أن كل شيء فينا يدل على أننا طاعنان في الزواج والأمومة والأبوة. كان قد مضى وقت طويل جداً على وجودي خارج البلد وتنقلي في بلدان عديدة لم يصادفني فيها أمر كهذا. ففي البلدان التي أقمت فيها لا يجلس الراكب بجانب السائق. الطبيعي أن يجلس في الخلف. إنها حركة اتوماتيكية يقوم بها الناس من دون تفكير.
حاولت أن أحلل موقف السائق. تصرفه لم يكن وليد لحظة مزاجية سيئة. الأمر، إذن، يتعلق بعرف. بعادة. وبجلوسي إلى جانب زوجتي في المقعد الخلفي خرقت عرفاً واجتزت حدود 'المتواضع' عليه في المدينة التي غادرتها في وقت لم تكن فيه سيارات الأجرة شائعة، ولا أعرف، بالتالي، التدبير المناسب لاستقلالها.
في صيف السنة التالية لم تكن زوجتي معي. ذهبت لزيارة أمي في مستشفى عسكري يقع على أطراف العاصمة. سيارات الأجرة التي تصل الى هناك قليلة، لكني ظفرت، بعد انتظار طويل، بواحدة. نسيت موقف العام الماضي وعلى نحو اتوماتيكي جلست في المقعد الخلفي. لكن السيارة لم تتحرك. نظرت الى مرآة السائق الأمامية. رأيته ينظر الي. لم تكن عيناه بضراوة سائق العام الماضي. لكن موقفه كان كذلك. كان شاباً قادماً الى البلاد من موجة نزوح جماعية حدثت في بلد تعرض للاحتلال. قلت له، وأنا أنظر إليه في المرآة: شو الحكاية؟ فقال: أبدا. فقلت له: بدك تمشي ولا شو؟ فقال: مش أحسن تقعد قدام؟ فقلت: لأ، مش أحسن. فقال: ليش حضرتك منرفز؟ فقلت له: شي بينرفز. فقال: ليش لا سمح الله؟ فقلت: لأنو حضرتك ما بدك تتحرك الا إذا قعدت قدام، وأنا ما بدي أقعد قدام، شو رأيك؟ فقال: على راحتك. وانطلقت السيارة. قررت هذه المرة أن لا أقدم تنازلاً كما فعلت العام الماضي كرمى لزوجتي وتجنباً للشرشحة التي يمكن أن تترتب على تلاسني مع سائق سيارة أجرة. كنت مستعداً هذه المرة للتلاسن بل أتوق إليه. لم تكن كلمة 'على راحتك' نهاية المطاف. لم يقبل السائق الشاب، على ما يبدو، أن ينتهي الأمر بانتصار سريع لصالح الراكب الذي خرق عرفاً متواضعاً عليه، أو ربما أراد أن يعرف طينة هذا الراكب الجريء الذي قرر، عن سبق اصرار وترصد، أن يجلس في المقعد الخلفي. بدا لي أنه لم يصادف وضعاً كهذا من قبل. نظر إليّ السائق الشاب من المرآة وقال: واضح إنو حضرتك مش من هون. فقلت له ماذا يعني بذلك. فقال: مش من البلد. فقلت له باقتضاب: لأ، من هون. فقال: أكيد مغترب. وافقته على استنتاجه، ثم أخبرني أنه كان مغتربا مثلي وأنه حاصل على شهادة في كذا وأن ظروف نزوح عائلته الاجباري من بلد الاغتراب أجبرته على أن يعمل سائق سيارة أجرة. تباسط الكلام بيننا وهدوء نبرته دفعاني لاستقصاء جذر مشكلة جلوس الراكب في المقعد الخلفي في بلادي التي غادرتها منذ زمن طويل. قلت له: أنا بعرف ليش بدك اياني اقعد قدام. فقال: ليش؟ فقلت له: لأنو راح تفكر إنك شوفير عندي. تفاجأ بكلامي. واصلت: إنت شو بتشتغل؟ فقال: سائق تكسي. فقلت له: تقصد سيارة أجرة؟ فقال: مثل ما بدك. فقلت: لأ مش مثل ما بدي. أولاً كلمة شوفير مش عيب. هاي شغلتك. وظيفتك إللي بتعيش منها. يمكن تكون السيارة إلك ويمكن لأ، بس بكل الاحوال هاي مش سيارتك الشخصية، مكتوب عليها سيارة أجرة، رخصتها رخصة سيارة أجرة، وعشان هيك إنت شغلت العداد من أول ما ركبت، يعني بلشت تحسب الأجرة إللي راح أدفعها إلك. فقال: ولو، السيارة على حسابك. أخبرته أن الأمر ليس خدمة شخصية. فأنا لا أعرفه. ولا هو يعرفني. وأن ما بيننا تعاقد محدود. هو يوصلني الى العنوان الذي أقصده وأنا أدفع له مقابل ذلك أجرته، وهذا في صلب رخصة عمله. وبما إنني استأجرت سيارته لفترة من الوقت، وبما انها مرخصة قانونيا على هذا الأساس، فمن حقي أن أجلس في المقعد الذي يريحني. صمت السائق الشاب. ظننت أنني فزت عليه بالضربة القاضية. ولكن قبل أن أهبـــط من السيارة نصحني أن لا أدخل في هذا الجدل مرة أخرى فليس كل الســــائقين 'متفهميـــن' للأمر مثله!
زرت بلاداً عربية عديدة. لم تصادفني مشكلة أين أجلس في سيارة أجرة. طبعاً لا يمكن أن تصادف المرء مشكلة من هذا النوع في الغرب أو الشرق. لكن في عاصمة بلادي لم يتحول العمل، على ما يبدو، الى قيمة بحد ذاتها. إنه لا يزال مرتبطاً بأخلاقيات فلاحية، أو بدوية، متجذرة، بسياق اجتماعي كامل يحضر فيه اسم العائلة أو العشيرة أو المكان الذي تحدر منه أبوه وجده. العاصمة صارت غولاً عمرانياً وبشرياً، متاهة من الطرق والجسور والأنفاق والمولات، ولكنها مع ذلك لم تستطع تمدين، حتى الآن، سكانها الذين يتحدر معظمهم من جذور فلاحية أو بدوية. لم تصهرهم في مرجل اجتماع المدينة وقيمها رغم كل مظاهر التقدم العمراني المادية الطابع. لا يأنف الرجل أو الشاب أن يعمل سائق سيارة أجرة ولكنه في الوقت ذاته يرفض أن يدخل في التعاقد الاجتماعي والسلوكي الضمني الذي تفرضه عليه طبيعة عمله. فالجلوس في المقعد الخلفي لسيارة الأجرة يعتبر، في وضعية اجتماعية كهذه، إهانة شخصية: شو أنا بشتغل شوفير عند اللي خلفك!
08-أيار-2021
29-كانون الأول-2018 | |
22-كانون الأول-2018 | |
15-كانون الأول-2018 | |
21-أيلول-2012 | |
04-آذار-2012 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |