محمد علي شمس الدين يرى أن الشعر يمرُّ في اختناقات يخلصه منها النثر
2009-12-12
شمس الدين: لماذا أستغني بسبب الإرهاب الحداثي عما أعطانيه الزمان؟
كتب قصيدة التفعيلة في خضم الصراع الشعري في لبنان حول شكل الكتابة الشعرية، وكتب شعراً ملتزماً بالقضية الجنوبية في ظلِّ نقاش محموم حول وظيفة الشعر. نشر أول كتبه 'قصائد مهرّبة إلى حبيبتي آسيا' في بداية الحرب وصعد مع صعودها لغة وأحداثاً وقضية. لكن الشاعر الذي اختار تفعيلة الفراهيدي، بدا حداثياً في سياق هذا النوع من الشعر. لم يستسلم لإغواء الصوت العالي في شعره، ولا نام في فيء القصائد التي غدت أغانيَ وطنية على ألسنة فناني اليسار والثورة الفلسطينية. كان محمد علي شمس الدين 'يحفر في الآبار' حيناً ويبني 'ممالك عالية' حيناً آخر إذا اقترضنا هاتين العبارتين من عنواني كتابيه. قلقه الشعري قاده إلى تنويع شكل قصيدته وتوسيع مضامينها، سواء تحدثنا عن الشعر الخليلي الكلاسيكي أم شعر التفعيلة أم قصيدة النثر بشكل موارب، أم تحدثنا عن اختبارات لغوية في جملته الشعرية، أم تحدثنا عن القضية الجنوبية والحب والعرفان والميتافيزيق والميثولوجيا والنبوة.
نهاية هذه السنة (2009) صدرت للشاعر الأعمال الشعرية الكاملة في مجلدين عن 'المؤسسة العربية للدراسات والنشر'، إضافة إلى كتاب نصوص بعنوان 'غرباء في مكانهم' عن الدار نفسها، وضمن فعاليات 'بيروت عاصمة عالمية للكتاب'. كما صدر له ديوان عن 'دار الآداب' بعنوان 'اليأس من الوردة'. هذا الحوار يبدأ من مناسبة النشر ويذهب إلى مطارح أبعد من المناسبة.
*صدرت لك أخيراً، مجموعة شعرية عن 'دار الآداب' بعنوان 'اليأس من الوردة'. في هذه المجموعة تذهب إلى تجريب كنت قد بدأته في دواوين سابقة، إذ تخلط ما بين الشعر العمودي وشعر التفعيلة وقصيدة النثر. ما الغاية من هذا الخلط أو التجريب؟
*ليس ثمة من غاية في استعمالي جميع الأشكال المعروفة في الكتابة الشعرية سوى القول، من خلال النصوص الشعرية، وبناء القصيدة، إن القصيدة (الشعر) تسبق النظريات والأشكال، والقول أيضاً إن ادعاء سقوط أشكال قديمة وأوزان قديمة، هو ادعاء مجاني، أثبتت التجربة الإبداعية المستمرة، فراغه. لقد ادعى الحداثيون في فرنسا وروسيا (المستقبليون) أن الكلاسيكية والرومانسية وما قبل الحداثة، ماتت ودفنت. وقاموا بهجاء الشعراء السابقين. فإذا بهؤلاء يطلعون لهم من المستقبل. فيكتور هوغو على سبيل المثال. لقد كتب فيه أوجين يونيسكو هجائيات (هوغوليات)، واعتبره مات إبداعياً، ماتت تجربته، فإذا بفرنسا عن بكرة أبيها تستيقظ على عام بكامله كرسته لفيكتور هوغو. المسألة مسألة وعي وفهم. اعتبر دعاة الحداثة الغربية، وقلدهم من بعد ذلك بعض دعاة الحداثة العربية، أن ما سبق الحداثة آل إلى المقبرة. ولم يفهموا أن التاريخ طائر وليس مدفناً، وأنه لا شيء يموت، وكل شيء يتحول. نعم. يتحول. أنا أقول إن كل الأشكال والأوزان والتوازنات والكسور والمعاني والإرث والتاريخ والمخيلة هي ملك يدي كشاعر. النثر ملك يدي كما الوزن، فلماذا أستغني مجاناً وعن طريق الوهم الحداثي أو الإرهاب الحداثي عن معطى أعطانيه الزمان؟ أنا حرٌّ في أن أوزن أو أكسر أو أنثر، ولآخر الحدود والتجربة الشعرية، وبلا خوف ولا محظور سوى شرط الإبداع في القصيدة. لا أتقصد التجريب. لست تجريبياً مختبرياً ولكنني أدع التجربة تحفر مجاريها كما تريد، بحرية تامة، بلا قمع نظري، وبلا تحفظات. شرط القصيدة عندي الاستجابة لندائها العذب والمجنون والحر. إنها كنبع ينبثق فجأة بين الجبال، ثم يحفر مجاريه في الأودية والسهول، يهندسها هوى جريان المياه.
تجريب خفي نثر جانبي
*إذا كنت ميالاً إلى التجريب كما تكشف قصائدك، لماذا لم تجرّب كتابة قصيدة النثر؟
*لست ميالاً إلى التجريب. أنا لا أشبه أدونيس أو سركون بولص أو كمال أبو ديب على سبيل المثال، في هندسة النص الشعري، والتشجير، والتنظيم المسبّق للدفقة الشعرية. لست شاعر تنظيم شعري بصري أو سمعي أو شكلاني بالمرة. إني شاعر انبثاق شعري. لا أرسم أشكالاً أملأها بالكلمات. بل أترك الدفقة الشعرية تندفع بكامل قوتها وحريتها ولاوعيها. وهي بعد ذلك تتخذ أشكالها وصورها وكلماتها وإيقاعاتها، بالحرية ذاتها التي تنبثق منها. ذلك لا يعني أن هذه الدفقة الشعرية، تأتي بلا تنظيم ولا حدود ولا بناء، بل هي كمولود يحمل معه، ملامحه ونسبه وجماله. أما بشأن قصيدة النثر، فأنا لم أجربها، بل كتبتها بالفعل وبدافع حرية الانبثاق الشعري، في نصوص كثيرة، في أن يأخذ هذه الصورة. خذ على سبيل المثال لا الحصر قصيدتي 'كسر الموج'، و'الحديقة النائمة' من ديوان ' يحرث في الآبار'، والقصائد 'ناي جلال الدين' و'النمر النائم' و'عبد الرحمن الخارج' في ديوان ' منازل النرد'، وقصيدتي 'الطعنة' و'يا ابن سينا يا أبي' من ديوان ' أناديك يا ملكي وحبيبي'، وقصيدتي 'تعب شهريار' و'إلى فرانز مارك' في ديوان ' الشوكة البنفسجية'، يضاف إليهما في الديوان عينه 'حوار الخوف' و'حوار الشجرة'، ثم ' سورة النشوة' في ديوان 'طيور إلى الشمس المرة'، يضاف إليها أربعة نصوص من كتاب 'حلقات العزلة' (هذا الأخير كتاب نثري في الأصل). نعم لقد أبحرت إبحاراً جميلاً وطويلاً في قصيدة النثر كتجربة شعرية. لكني لست شاعر قصيدة نثر. قلت إني شاعر حر وأكتب القصيدة المركبة. أنا، وبحق، شاعر غير مدرسي.
*لكنك أبديت موقفاً من قصيدة النثر ومن بعض شعرائها. في قصيدتك 'الهدهد' التي أهديتها إلى شوقي أبي شقرا، 'تسخر' منه هاجياً إياه في إشارة إلى ديوانه 'لا تأخذ تاج فتى الهيكل'. وتقول في قصيدتك هذه: 'لا تأخذ تاج فتى الهيكل/ خذ تاء التاج/ واصنع منها لغة الأبراج'، لتنهي القصيدة بالقول: 'لا يقع من برجك غير السنجاب' في إشارة إلى كتابه 'سنجاب يقع من البرج'!
*قصائدي على العموم تمد جسور حوار مع تجارب شعرية وفكرية ودينية كثيرة، ومع تجارب تشكيلية وموسيقية أيضاً. من بين قصائد الحوار قصيدة بعنوان 'الهدهد' أهديتها إلى الشاعر شوقي أبي شقرا، وهي إحدى قصائد ديوان 'أميرال الطيور' (1992). في الديوان قصيدة أخرى أهديتها إلى عبد الوهاب البياتي. قصيدة 'الهدهد' أغصان شعرية ممتدة لتتلاقى مع أغصان شوقي أبي شقرا، بل هي حوار إبداعي مع تجربته الشعرية. وأنا أحب تجربة هذا الشاعر، وأعتبرها تجربة رشيقة وخاصة ومرحة. وأنا ألعب معه وأحاوره، وفي ذلك حب وتواصل إنساني وإبداعي، فكيف يُفسّر ذلك على أنه هجاء؟ نصياً: أخذت من شوقي أبي شقرا عنوان ديوانه 'لا تأخذ تاج فتى الهيكل' وعليه كتبت لعبي معه. أنظر ماذا قلت: 'لا تأخذ تاج فتى الهيكل/ خذ تاء التاجْ/ واصنع منها/ لغة الأبراجْ/ خذ/ (إن شئت) الأمواجْ/ لكن/ إياك البحر/ فالبحر فتى وزواجْ/ وسفينتهم أنثى/ دع عنك سفينتهم/ وادخل من هذا الباب إلى اللابابْ/ يا أنت النافث من سُمّك في دسم الأعرابْ/ لم يسقط من أعلى برجك غير السنجابْ'. إن شرح هذه القصيدة أمر يطول. إنها لعب خطر مع تجربة شوقي أبي شقرا الشعرية النقدية للبلاغة العربية القديمة والجديدة، وكان بدأ بها الشاعر في 'أكياس الفقراء' (كتاب أبي شقرا الأول، وهو شعر تفعيلة) ثم غادرها. وأكنّي عن هذه البلاغة بالسفينة والبحر تلميحاً لما كان يروى عن العرب من أنهم صحراويون لم يركبوا البحر لأن السفينة أنثى والبحر ذكر. إني أسخر تماماً في هذه القصيدة كما سخر أبي شقرا. وهذا اللعب معه (كلٌّ على طريقته) تواصل وحب وليس كراهية.
حفيد الشيخ
*ثمة في الكتاب جانب عرفاني. هل هو نتيجة تأثر بالشعر العرفاني الفارسي الذي تجيد قراءته، أم بالشعر العربي الصوفي؟
*الجانب العرفاني في الكتاب مبثوث في جميع مفاصله. النصوص فيه ذات روح عرفانية ابتداء من 'أرسلت غزالاً نحو الشمس' حيث يجد الحلاج له امتدادات في القصيدة، مروراً بقصيدة 'أراك في الأراك'، أي أراك في شجر الأراك، وصولاً إلى قصائد 'تأويل الملاك'. أعتبر الميتافيزيك أصل الشعر. في الميتافيزيك يتشارك الدين والشعر ويتقاطعان. تاريخياً، كان للإسلام موقف متحفظ من الشعر والشعراء. وقد أعلى الإسلام في أول الدعوة، شأن الخطابة فوق شأن الشعر، ما لم يكن الشاعر ملتزماً بالدعوة الجديدة وقيمها وآدابها. بل أكثر من ذلك، لقد ورد في الذكر الحكيم ما يشكل قمعاً للشعر والشعراء 'الشعراء يتبعهم الغاوون/ ألم ترهم في كل واد يهيمون/ ويقولون ما لا يفعلون/ إلا الذين آمنوا...'. لكن الإسلام التاريخي عاد فتصالح مع الشعر من خلال الشعر العرفاني العظيم، ومن خلال شعراء من أمثال جلال الدين الرومي وحافظ الشيرازي وابن الفارض والعطار النيسابوري وسواهم ممن فهموا روح الإسلام وروح الشعر ولم يجدوا بينهما تعارضاً بل وجدوا تآلفاً إنسانياً فذاً. واكتسحوا بأشعارهم العالم الغربي، فتجد شاعر ألمانيا الأعظم غوته يكتب متأثراً بحافظ الشيرازي 'الديوان الشرقي للشاعر الغربي'، وترى فيكتور هوغو وبوشكين وشعراء الصوفية الرومانسية الألمان يتشربون روح الإسلام من خلال الشعراء العرفانيين الإسلاميين الكبار. ذلك أنهم أسسوا رؤاهم الشعرية على المخيلة ووحدة الوجود والحب. نعم بيني وبين هؤلاء جميعاً أواصر وتداخل. يضاف إلى ذلك نشأتي الدينية في بيت الجد الشيخ، وانجذابي المبكر لأذان الفجر، والتداخل مع عناصر الطبيعة من رياح وغيوم وأنهار وشموس وأقمار وغبار في الجنوب اللبناني حيث ولدت ونشأت. إني مشرقي في شعري بامتياز. إن نصف ديوان 'أناديك يا ملكي وحبيبي' إلى جبران. قصيدة 'ذكر ما حصل للنبي حين أحب' قصيدة طالعة من هناك. من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار. صحيح أنك تجد مناطق وصوراً محسوسة وجسدية وبوحية في القصائد، لكن كل شيء فيها، محسوس وملموس ومعاش، تراه مغسولاً بماء الغيب. لا شعر بلا ماء الغيب.
*كيف تشرح هذا المنحى الميتافيزقي والديني كما وصفت نفسك في مقدمة ديوانك 'شيرازيات' الذي هو كتاب تناص وإعادة كتابة فوق كتابة الشاعر الفارسي الشهير حافظ الشيرازي؟
*يوم فرك نيتشه يديه فرحاً وقال: 'انتهى الأمر، مات الله'، لم يكن قد قتل إلا نفسه. الله ضرورة بشرية. الظواهر الفيزيائية والكيميائية والطبيعية بذاتها بكماء. الكائن البشري مفطور على السؤال عما خلف الظواهر. هنا كان لا بد له من أن يقع، بالفطرة، على الفلسفة، والدين، والشعر، والفن، في لحظة وقوعه على العلم والتجريب العلمي. هل أنا شاعر ميتافيزيك؟ نعم أنا هو. من قلب الإحساس والحدس إلى آخر التأويل والسؤال، أنا هو. لذلك غالباً ما تتقاطع بروق الشعر لديَّ ببروق قديمة وحديثة هي بروق إشراقية. إنها تأتي من نواح عديدة. من شمس محمد وابن عربي وحافظ وجلال الدين الرومي والحلاج والقديس أوغسطين وجبران. وهي كائنة في سورة الرحمن، كينونتها في أدعية الزهّاد وفي الناي الذي خاطبه جلال الدين الرومي في 'المثنوي'. تسأل: ما صلة هذا بالحداثة؟ وأجيب ما الحداثة؟ وما قبلها؟ وما بعدها؟ إذا كانت الحداثة مؤسسة على العلوم والتقنيات والبناء والتفكيك فإنها هي، وما بعدها، أوليا انتباهاً كبيراً للمخيلة الموصلة إلى حدود الجنون.... في الشطح الصوفي لا وجود للعقل. والرؤيا الشعرية المتجددة، الحديثة والمركبة، لا تكتفي بالانتباه للتقنيات المتطورة، والعالم الآلي المدهش، والاستهلاك واليومي والعادي والعابر، واللاشيء... إلخ، بل تطرح على هذا التطور أسئلتها. لهذه الناحية، أنا أميل إلى أشعار رينه شار بالفرنسية. إنه يحاول، ما زال يحاول، معنى ما، حتى لو اصطدم بالفراغ.... شعري شعر أسئلة وجودية واحتمالات. ولا تكفيني لا هذه الشموس ولا هذه الأقمار ولا هذه الآلات. لا يشفي شغفي سوى الغيب. لهذا أرى الحداثة وما بعدها بمثابة تفصيل في قضية الشعر. كذلك ما قبل الحداثة، أي التراث الكلاسيكي بكامله. فالشعر يبدأ من حيث ينتهي كل شيء.
*في هذا الكتاب، 'اليأس من الوردة'، استخدام للرموز الدينية مثل الحسين، وقد سبق لك استخدام رموز مثل محمد وعلي وعيسى وموسى. ألا تظن أن الميثولوجيا استنفدت في الشعر العربي المعاصر مع بدر شاكر السياب وصلاح عبد الصبور وخليل حاوي وأدونيس ويوسف الخال وتوفيق صايغ وغيرهم من الشعراء الذين عمدوا إلى الأساطير الدينية والكنعانية وسواها في أشعارهم؟
*تستطيع إضافة يوحنا المعمدان وبلقيس وليلى وسقراط وكل الإرث الديني والفلسفي والأسطوري. ولو أردت السؤال عن شاعر أوغل في الأساطير والثقافات حتى يكاد يمسحها، لكان السؤال عن ت. س. إليوت، لا عن السياب وحاوي وأدونيس. لا تستهلك التواريخ ولا تستهلك الأساطير. وكلما ازدادت وتكدّست بين يدي الشاعر، ازدادت حيرته من أين يبدأ؟ أو كيف يدخل وكيف يخرج. لقد أسست، مثلاً، على 'ليلى' عشرة أصوات، كان أسس عليها قبلي قيس ثم شوقي، ولك أن تسأل هنا عن أية 'ليلى' كتبت. فهي لا تشبه سواها إلا في الرسم. بل لعلني كتبت 'اللاليلى'- إن صحت العبارة ووفت بما أقصد- أكثر مما كتبت 'الليلى'. في مقطع أقول: 'علّقت على باب الدنيا قلباً مطعونْ/ وصلبت جناح الطير على جذع الزيتون/ ونقشت على عنقي سيفاً/ وعلى هدبي سيف مسنونْ/ وشنقت الشمس بأعتابي/ وصفعت قفا القمر المفتون/ لا قيس أحبَّ ولا ليلى/ عرفتْ وجهاً للمجنونْ'. هذه واحدة. وهي من 'قصائد مهرّبة إلى حبيبتي آسيا' (1975). لو انتقلت إلى ديوان 'الغيوم التي في الضواحي' (2006)، لوجدت وجهاً آخر لليلى. أقول: '... ولكن ما حيّر العقل حتى براه الجنونْ/ أن ليلى التي متُّ في حبها ألف عام/ تخونْ'. فأي الليالي كتبت؟ وأي الليالي رأيت؟ فالشعر على ما أرى تأويل وتأويل التأويل.
المدن دون أهلها
*صدر لك كتاب ضمن فعاليات 'بيروت عاصمة عالمية للكتاب' بعنوان 'غرباء في مكانهم'. في هذا الكتاب الذي يحوي نصوصاً عن المكان تخلص إلى نتيجة مفادها 'ما من مدينة يملكها أهلها'. كيف تترجم هذا الكلام في الثقافة والسياسة في بلد كلبنان؟
*كتاب 'غرباء في مكانهم' نصوص نثرية إبداعية، هي في مجملها قصص قصيرة، حول المكان الذي هو بيروت، حيث التحولات الكثيرة في المكان والسكان، وحيث البحر، وما أعطته المخيلة من نعم الحكاية. هذه الحكاية القديمة التي كرّسها مبدعون قبلنا، واستأنفناها نحن، ليستأنفها من بعدنا آخرون... القاص والروائي الراحل محمد عيتاني في كتابه 'أشياء لا تموت' هو مرجع مهم لاستئناف الحكاية. لذا أهديت القسم الأول من الكتاب له. أما القسم الثاني المسمّى 'بين الألف والباء' فيجمعه بالقسم الأول ما يجمع بين الأوعية المتصلة من ماء الحكاية. ذلك أن المدن والممالك والتواريخ بكاملها ليست سوى حكايات تُستأنف. وجملة ' ما من مدينة يملكها أهلها' جملة تنطوي على حقيقة تاريخية. يقول ابن خلدون في 'المقدمة' إن المدن في حاضرها أشبه بجوارها منها بماضيها. بمعنى أن دمشق اليوم على سبيل المثال، لا يمكن أن تعطيك صورة عن دمشق الأمويين. وبغداد اليوم هي أبعد ما تكون عن بغداد العباسيين. وبيروت اليوم أبعد ما تكون عن بيروت نهاية القرن المنصرم. لذا فالقراءة مطلوبة، والعمق والتأويل أيضاً.
*ألا يحيل هذا الكلام على السياسة، إذ خرج الكثير من الكلام عن استهداف بيروت واستعمار بيروت واستباحة بيروت من قبل الشيعة ('حركة أمل' و'حزب الله') على خلفية الصراعات السياسية في البلد منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري سنة 2005؟
*إذا كان لنصوص 'غرباء في مكانهم' إيحاء سياسي ما أو اجتماعي، فليس أقل من إيحاء ابن خلدون. أنا أستهين بالسياسة السائدة في لبنان، وأعتبرها تعوق التأمل والإبداع. هكذا أنظر إلى هذه السياسة، كيفما قلبتها، ورتبت أعدادها.
*في هذا الكتاب كتابة عن أمكنة بيروتية. إنه كتاب شبيه بما فعله الروائي الراحل محمد عيتاني في 'أشياء لا تموت' والذي أهديته القسم الأول من الكتاب. إلى أي حد يتداخل هذان العملان؟
*نعم. ثمة تداخل إبداعي بين هذا الكتاب وكتاب ' أشياء لا تموت' لمحمد عيتاني. وربما وجدت أن صنيعي الإبداعي على حافظ الشيرازي في ' شيرازيات'، قريب من صنيعي الإبداعي على 'أشياء على تموت' في ' غرباء في مكانهم'. لقد بنيت على أساس، وهدّمت وغيّرت وشذبت واقترحت وطوّرت، لكي أكون في النتيجة، كما في الشعر، هنا في النثر، نفسي. لقد منحتني فرصة كتابة 'غرباء في مكانهم' كتابة سردية قصصية، القدرة على التنفس... إن اختناقاً ما في الشعر جعلته يتنفس في السرد والقص.
حصاد شعري
*صدرت لك هذه السنة أيضاً الأعمال الشعرية الكاملة عن 'المؤسسة العربية للدراسات والنشر' في مجلدين كبيرين. ماذا يعني لك صدور أعمال كاملة؟ هل هي فرصة للاحتفال؟ فرصة للتأمل في نتاجك مرة واحدة وفي لحظة واحدة أم ثمة معانٍ لهذا الحدث؟
*إصدار الأعمال الشعرية من العام 1975 تاريخ صدور ' قصائد مهرّبة إلى حبيبتي آسيا'، إلى العام 2006 تاريخ صدور ' الغيوم التي في الضواحي'، في جزأين عن 'المؤسسة العربية للدراسات والنشر'، يشكل بالنسبة إليَّ محطة جمع للنتاج الشعري دونما تفريط بأي ديوان من الدواوين، وهو مجموع للآخرين أكثر مما هو مجموع لي. أعني بالآخرين، القرّاء والدارسين العاديين والأكاديميين الذين كثيراً ما يقومون بتقديم أطروحاتهم الجامعية (ماجستير ودكتوراه) حول هذا الشعر، ويفتقدون ديواناً من هنا وديواناً من هناك، وذلك بعد نفاد الطبعات المنفردة للدواوين.
*هل غيّرت شيئاً في أعمالك السابقة؟( أذكر أنك بدلت لفظة في قصيدة 'زينب' التي غناها المطرب وليد توفيق، فوضعت لفظة 'وجه الموت' بدل 'هذا الله' في الجملة التي تقول فيها 'ونعاتب هذا الله قليلاً' ).
*غيّرت كلمات قليلة لا تتجاوز الثلاث لضرورات فكرية وإبداعية، من بينها ما ذكرت. لكن ما كتب قد كتب.
*حين تنظر إلى نتاجك الشعري كاملاً بماذا تشعر؟ ما الذي أضفته أنت الذي بدأت شاعراً 'جنوبياً في 'قصائد مهرّبة إلى حبيبتي آسيا' وانتهيت كونياً مع كتاب مثل ' شيرازيات' و' أميرال الطيور'؟
*أشعر بمزيج من الرهبة والحبور والخوف. لقد أضفت إلى 'قصائد مهربة إلى حبيبتي آسيا' هذا النتاج بكامله.
*كتبت قصيدة تفعيلة في موازاة صعود قصيدة النثر في لبنان مع الجيل الذي سبقك (أدونيس، أنسي الحاج، شوقي أبي شقرا، فؤاد رفقة، عصام محفوظ...) ثم مع جيلك (بول شاوول، وديع سعادة، حمزة عبود، عباس بيضون...). كانت قصائدك إلى جانب قصائد شعراء الجنوب أمثال شوقي بزيع وجودت فخر الدين وحسن عبد الله ومحمد العبد الله والياس لحود وغيرهم تعطي مشروعية جديدة لقصيدة التفعيلة. لكن استمراركم في كتابة هذه القصيدة شكل انتكاسة للتحديث الشعري في لبنان؟
*أعتقد أن هناك اختناقاً في الشعر، بصيغه وإيقاعاته كلها: في قصيدة الوزن كما في قصيدة النثر. ما فعلته هو أنني كتبت أشعاري بمزاج الحرية والاستجابة للنداء الداخلي. ولا أعتبر أن هذا النداء كان واضحاً وتعليمياً وشعارياً. إنه غامض. شعري غامض. لكنني استجبت للنداء الغامض بصدق. أنا مريض بالشعر... لنعد إلى تصنيف الشعر إلى شعر وزن وشعر نثر. نظرياً أقول إن الشعر فوق أشكاله. وأرى أن المنجز العظيم لعصور الحداثة الغربية والعربية والعالمية كان في إخراج الشعر من سجن الوزن وحده. نظرية الشعر القديمة في التراث العربي نظرية فلسفية بمقدار ما هي أدبية. قال بها الفارابي وابن سينا تأسيساً على نظرية أرسطو في الشعر. وحدوا الشعر بالمحاكاة والوزن. المحاكاة هي المخيلة والوزن هو تكرار نمطي محسوب لنوتات موسيقية (تفعيلات). فلا شعر بلا مخيلة ولا شعر بلا وزن. جاءت الحداثة لتخرج الشعر من الشرط الآسر للوزن. استبدلوا الوزن بالإيقاع Rhytmus (باللاتينية). والإيقاع ليس هو الوزن. إن في الوزن إيقاعاً ضرورياً، ولكن لا وجود بالضرورة للوزن في الإيقاع.. حسناً.. لقد تم توسيع فسحة الموسيقى في الشعر. ودخل السرد والنثر إلى الساحة بأبهة. ولكن... إذا لم يعد الوزن شرطاً ضرورياً للشعر، فهو ما زال وسيظل قائماً وموجوداً كمعطى، كمكتسب، كاحتمال، كصيغة من صيغ الشعر.... وقد لاحظت أنه على امتداد التاريخ، كان الشعر يمر في اختناقات فيأتي النثر ليخلصه ويسعفه. اختناقات الشعر كانت شبيهة باختناقات السير. يأتي شرطي السير (النثر) فينظم السير ويفرج الاختناقات. في أساس الشعرية العربية الحديثة إرث كبير من النثر الفني جاء على يد ترجمة العهد القديم والعهد الجديد بقلم الشيخ إبراهيم اليازجي بخاصة سفر 'نشيد الأناشيد'. كذلك قل في نثر فرانسيس المراش الحلبي وجبران والريحاني ونعيمة. اليوم أرى اختناقاً قوياً في قصائد النثر، ولا أرى سبيلاً للخروج من هذا الاختناق إلا بالوزن، ببعضه، بكله، بما يشبهه.... هنا تسألني كيف أكتب؟ وماذا أكتب؟ أكتب بحرية. أكتب القصيدة المركبة، وأعتبر جميع المنجز التاريخي والتجريب والنثر والوزن و.... و... مادة أولية لفجر القصيدة.. وأسأل تجاه الوزن: لماذا نسقط مجاناً جواهرنا التي هي لنا؟ وأسأل تجاه قصيدة النثر: لماذا لا نوسّع احتمالات الشعر؟
*إلى أي حد شكلت قضية الجنوب الصاعدة آنذاك، مع الاجتياح الإسرائيلي سنة 1978 وما تلاه من اجتياحات واعتداءات، رافعة لشعرك؟
*لا رافعة لشعري سوى ذاته، أي قدرته على الأخذ والتحويل. الجنوب والتواريخ والواقع، كل ذلك بكامله ينتهي حين تبتدئ القصيدة.
*في شعرك نبوة. ثمة صوت نبي ظاهر في عدد من قصائدك. ألا تظن أن الشعر الحديث، موجة الشعر الواقعي أو اليومي أو الهامشي أو الظاهري (نسبة إلى ظاهرة) دفع بشعر النبوات إلى الخلف، تلك النبوات التي سادت مع جبران خليل جبران وسعيد عقل وصولاً إلى أنسي الحاج في بعض جوانبه؟
*في شعري نبوءة كما فيه جسدية. في شعري لاهوت يومي وأرضي إذا أردت. مع ملاحظة جوهرية حول صنوف الإبداع الشعري، فهي تتعايش وتتفاعل ولا تتلاغى. في الشعر، تجري الأمور على أساس الزمن الدائري: هوميروس والمتنبي وشكسبير والمعري حاضرون معاً على أرض واحدة، مع إليوت وعبد الصبور والماغوط وشار ونيرودا وسواهم. لذا شعر التفاصيل ليس امتيازاً على شعر النبوة. وشعر النبوة لا يلغي شعر اللعنة. الشعراء الملاعين شعراء كبار تماماً كما هو جبران شاعر عظيم. نبوي عظيم.
*غنى لك فنانون ملتزمون أمثال مارسيل خليفة وأحمد قعبور. كيف تنظر إلى قصائدك المغناة؟
*لم يؤثر الغناء عليها كقصائد، كشعر. فهي لم تكتب أصلاً لكي تغنى. وإذا كان في شعري عرق غنائي، ففيه أيضاً درامية وملحمية وسرد وصمت... و......و...... مما يصعب على المغني غناؤه. المغني يغني الشعر الغنائي المحض. وشعري ليس كذلك. وليس لديَّ رغبة في أن تغنى قصائدي.
كتاباً كتاباً
*إذا أردت الحديث عن بعض كتبك التي شكلت في رأيي مفاصل محورية في تجربتك الشعرية، أبدأ بديوان 'قصائدك مهرّبة إلى حبيبتي آسيا' (1975). في هذا الكتاب تحديث في البناء والمعنى، عبارات لاوعية. كما أنه أول كتاب يعمد إلى إبدال الأساطير الكنعانية والتموزية بالأساطير الجنوبية الشيعية إلى حد ما. ما تعليقك على هذا؟
*رأيك في 'قصائد مهرّبة إلى حبيبتي آسيا' في موقعه. ولكن ديوان 'اليأس من الوردة' الأخير (2009) هو الأصفى والأخطر.
*إذا كان 'قصائد مهرّبة إلى حبيبتي آسيا' يحوي الكثير من اللعب والجمل المندفعة التي تختزن شعراً رمزياً، فإن كتاب 'غيم لأحلام الملك المخلوع' (1977) أكثر مباشرة، يذهب مباشرة إلى موضوعات بعينها، ولا سيما الحرب. كما أنك في هذا الكتاب تعلن انتماء جنوبياً صريحاً. هل تظن أن الحرب حرفت مسيرتك الشعرية، وبالتالي مسيرتك السياسية- العقائدية؟
*لا أظن أنه كان للحوادث والحروب والسياسات تأثير يذكر على شعري. حين أعدت قراءته (في مناسبة صدور الأعمال الكاملة) لفت انتباهي حرية المخيلة وشطحها أكثر مما لفتت انتباهي الاستجابة لحدث من الأحداث أو واقعة من الوقائع حتى لو ذكرتها. الحيلة الشعرية والمخيلة هما أساس الكتابة لديّ.
*في كتاب 'الشوكة البنفسجية' (1981) ثمة تكثيف للركز. كما أنك تعلن فيه الحب صريحاً وواضحاً. هل كان هذا الكتاب أول نتيجة للتأثيرات العالمية في شعرك كما يبدو من خلال قصائد كتبتها إلى رامبو وهنري ميلر على سبيل المثال؟
*أوافقك لجهة التكثيف والتواصل مع رموز كثيرة. ما أسميه أوعية متصلة.
*في 'أما آن للرقص أن ينتهي' (1988) تبدو تأثيرات قصيدة النثر، تحديداً شعراء الثمانينات في لبنان، كما في قصيدة 'يوميات الصمت'. هل هذا استنتاج صحيح؟ هل تأثرت بشعراء لاحقين عليك؟
*كلا لم أتأثر بأحد. ولكنني أحببت شعراء لا يشبهونني.
*في 'منازل النرد' (1999) تكثيف للتاريخ ورموزه (الحسين بن علي، عبد الرحمن الداخل، ابن خلدون، أبو حيان التوحيدي، أبو العلاء المعري، علي بن أبي طالب، امرؤ القيس، المخترع الجنوبي حسن كامل الصباح...). لماذا غالباً تستلهم التاريخ؟
*أنا أطير فوق التاريخ. التاريخ إما تحت قدمي وإما تحت نظري.
*في 'ممالك عالية' (2002) يصل التجريب اللغوي أقصاه. في قصيدة 'جملة واحدة' تكتب نصاً طويلاً بلا علامات ترقيم حيث الجمل متواصلة بنفس واحد. ألا تخشى أن يغدو التجريب نوعاً من البهلوانية؟
*الشعر هو الفارق بين التجريب والبهلوانية، فإذا خانني أنسحب إلى الظلام.
*في 'شيرازيات' (2005) ترجمت حافظ الشيرازي شعراً منظوماً. كانت عملية تأليف أكثر منها ترجمة. ماذا تقول في هذا الشأن تحديداً؟ ولماذا الشيرازي؟
*الشيرازي (حافظ) هو كجبران وابن عربي (في قصيدة 'شمس محمد')، شقيق النفس، وقسيم الروح والقصيدة. هي أشجار اختارها طائري فحط عليها. فإذا حدّقت في المشهد سترى الطائر ولا ترى الشجرة. خذ على سبيل المثال قصيدة ' أناديك يا ملكي وحبيبي' والمقصود جبران.
*ثمة قراءة باطنية للتدين في كتاب 'شيرازيات'، قراءة عرفانية أكثر منها دينية. هل هو التشيّع مرة أخرى؟
*كلا بل العرفانية. فحافظ الشيرازي لم يكن شيعياً مذهباً بل كان سنياً.
*في 'الغيوم التي في الضواحي' (2006) تعود إلى الجنوب كموضوع شعري، وذلك إثر حرب تموز( يوليو) 2006. دائماً تردك الحرب إلى المكان الأول الذي عشت فيه وإلى الشعر الأول الذي كتبته. هل أنت راضٍ عن هذه العودة؟
*لا أعلم. لا أفكر في ذلك. لم أفكر في ذلك. لكن 'الغيوم التي في الضواحي' مشهد ورمز وصيرورة. فأنا من أول ما فتحت عيني على مشهد الغيوم في الأفق، كانت تنتابني تجاه حركتها وتشكلها قشعريرة كالسحر، فأقف أمامها مشدوهاً، وأسمّيها 'سينما الكون'.
القدس العربي 11/12/2009
ناظم السيد
08-أيار-2021
حازم صاغية في ’مذكرات رندا الترانس’: سيرة ذاتية تتجاوز الذات ولغة ملتبسة تعكس الالتباس الجنسي |
06-نيسان-2010 |
محمد علي شمس الدين يرى أن الشعر يمرُّ في اختناقات يخلصه منها النثر |
12-كانون الأول-2009 |
10-تموز-2007 | |
28-حزيران-2007 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |