"بوح" رواية أولى للفلسطينية ليلى حوراني / الحدث العام مقروءاً من نافذة الروح الفردية
2010-01-29
من أوليات المعرفة النقدية أن ننحّي جانبا معرفتنا بواقعية هذا التفصيل أو ذاك من أحداث رواية ما، ونحتكم إلى أن تلك الأحداث هي من نسيج مخيلة الكاتب. مع ذلك، وعلى رغم اقتناعي بصوابيّة هذا المفهوم النقدي فقد وجدتني في موقف مختلف وأنا أتابع سطور كتاب "بوح" (منشورات دار الآداب – بيروت – 2009) للفلسطينية ليلى حوراني، بسبب معرفتي الشاملة بكل السرديات التي روتها المؤلفة من حياتها وعنها، والتي تابعتها، وكاتبتها بعد طفلة في أعوامها الأولى كنت أراها في بيت والدها صديقي الكاتب فيصل حوراني.
اللعبة بدت لي أكثر صعوبة، ومعرفتي بتلك الأحداث والتفاصيل أضافت الى الكاتبة الشابة عبئا آخر: أن تقنعني بأن تلك "السيرة" الحقيقية والبالغة الواقعية، قد وجدت طريقها إلى صفحات الكتاب بفنيّة قادرة على نقلها من خانة المرويات، إلى مقام الأدب الروائي منه بالذات.
"بوح" حكايات حياة ترويها امرأة فلسطينية شابّة عاشت مع والدها محطّات انتقاله وتشرّده بين مدن وعواصم كثيرة، كانت كلّ واحدة منها تحمل وجعها الخاص، وأحداثها القاسية. وفي موازاة تلك الأحداث العامة ثمة خط درامي آخر يحكي حكايات العائلة، الأب والأم والزوجات والصديقات اللواتي عبرن حياة الأب وأثقلن بدرجات متفاوتة حياة الكاتبة – الراوية بأحزان جديدة.
هو كتاب حميم أيضا، ففيه تفتح ليلى حوراني صفحات عيشها إنطلاقا من صدقيّة عالية في التزام العنوان. فالبوح هنا ليس جريا وراء بريق تستخدمه اليوم أقلام نسائية لا تحصى للوصول الى القارئ، ولكنه كتابة تطلق للروح الداخلية أن تعبّر عن نفسها بصراحة جميلة لا تبتغي إثارة أحد قدر سعيها الى رسم لوحة بانورامية تتجاور في مساحاتها تفاصيل الأسى الداخلي بالرغبات، بالحدث العام، وأيضا بهواجس الكتابة ذاتها، إذ هي في المآل الأخير شهادة روحية على حياة امرأة فلسطينية ولدت وعاشت في الشتات، ولكنها ظلّت أسيرة ذلك الوجود القدري.
كتاب تنطلق فيه ليلى حوراني في حوار طويل، مسترسل، ومشبع بأناقة مزاوجة الخاص الفردي بالعام. فهي تقدم ما يقارب يوميات منتقاة بعناية من أزمنة متباعدة وقريبة، لكنها تحتفظ بروح إنسانية تجعلنا نعيش صور تلك الوقائع وإيقاعاتها: في حصار بيروت وويلات الحرب الدامية، تقدم ليلى حوراني بحدقتي مراهقة، علاقتها اليومية بالحرب والأب، وهي تفعل ذلك بدرجة عالية من الشفافية، فتشتبك خيوط الحرب بدمويتها، مع وقائع عائلية بالغة القسوة. فالبطولة الفردية في الشوارع المدمّرة، لا تخفي آلام المراهقة التي تعيش أولى خطوات الصبا في حالة صراع يومي مع حياة عائلية مثقلة بالحروب الصغيرة مع زوجة الأب الظالمة.
بكثير من الدّقة، تكتب عن مرحلة انهيار الإتحاد السوفياتي، وصور موسكو في تلك الأيام العاصفة، وحكاية حبّها الكبير الذي ينشأ هناك في المنفى البعيد، والذي تتتبّع الكاتبة خطواته كما لو أنها تكتب من يوميّات يضمّها دفترها الشخصي.
كتاب حار يفارق شروط الرواية بمعناها المألوف لكي يعثر على شروطه الخاصة التي تفرضها جمالياته ومضامينه. فنحن أمام حالة روائية تزدهي بكثافة حدثية تنجح الكاتبة في الزجّ بها في سياقات درامية حارّة ومفعمة بألق التشويق والرغبة في متابعة القراءة، وخصوصا أنها نجحت في الاستفادة من الواقعي وتمكّنت من جعله يتماهى بحرفية مع ما هو متخيل.
"بوح" هو أيضا كتاب وجد جميل، فيه الكثير من صراحة الرغبة في القبض على المهم والجوهري في حياة امرأة شابة، ترغب أن تقول شهادتها الروحية على عناوين سياسية كبرى، لكنها تصرّ أن تأتي تلك الشهادة من حدقة فردية بالغة الخصوصية، تجمع الخوف إلى الحب، إلى الممارسات الجنسية الأولى، من دون أن تغفل عن الرؤى الجميلة والمعبّرة لرحلات التشرّد التي عاشتها الكاتبة، والتي كان مهمّا لنا رؤيتها من نوافذ روح فتاة مراهقة عاشت فلسطينيتها بكل عصفها وقسوتها في ظروف إستثنائية.
هو أيضا كتاب أوّل يفاجئنا بهذه الكثافة من الأحداث التي تدهشنا جماليات انتقائها بعناية كي تكون متناً وحاشية لرحلة حياتية تغمرها القسوة، ولكنها تنبض بالجمال وتحضّنا على القراءة.
راسم المدهون
عن جريدة السفير
08-أيار-2021
06-حزيران-2020 | |
16-شباط-2011 | |
"كثيرة أنت" للشاعرة السورية سوزان ابراهيم وحيدة ولي ما لـيس لهنّ |
27-تموز-2010 |
23-تموز-2010 | |
09-أيار-2010 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |