الإطار التاريخي للإنجيل
2010-02-08
لقد ظهرت الأناجيل الأربعة في وقت موثّق لنا كل التوثيق، ونعرف الكثير عن أحداثه وشخصياته. في ذلك العصر كانت الكتابة التاريخية قد بلغت درجة عالية من النضج، وكان أصحابها يتّبعون مناهج متطورة في التوثيق وتقصي الحقائق. ولكن مؤلفي الأناجيل لم يكونوا مؤرخين بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، ولم يكن بين أيديهم وثائق مكتوبة عن حياة يسوع وما جرى له قبل عقود عديدة مضت، وإنما أخبار متداولة شفاهة تلونت عبر الزمن بالتطورات اللاهوتية ضمن الفكر المسيحي، وبالآراء ووجهات النظر المتخالفة للمجموعات المسيحية، فانتقى كل منهم ما انتقى وأسقط ما أسقط. وهم في اختيارهم للمعلومات لم يكونوا يتوخون الدقة التاريخية وإنما دعم وتقوية الإيمان، وتقديم الإرشاد للمجموعات المسيحية. وهذه العلمية الانتقائية قد ترافقت مع عملية تأويلية من شأنها إعادة صنع الحدث بطريقة خلاقة، لا مجرد روايته كما وصل إلى الكاتب. وعلى الرغم من ذلك فقد قدم لنا الإنجيليون إطاراً جغرافياً وطبوغرافياً واضحاً للحدث، وكان يسوع يتحرك على مسرح واقعي نستطيع مطابقته اليوم على خارطة فلسطين في تلك الأيام. كما قدموا لنا إطاراً زمنياً عاشت فيه مجموعة من الشخصيات التاريخية الموثقة لنا بدقة في المصادر الخارجية، وأهمهم:
1- هيرود الكبير، الذي عينه الإمبراطور أوغسطس ملكاً على فلسطين، ثم ضم إلى ممتلكاته مناطق شرقي الأردن ووصلت سلطته إلى حوران في الجنوب السوري. وقد دام حكمه من عام 37 ق م إلى 4 ق م. تميز هيرود بالقسوة والبطش وحكم مملكته بقبضة من حديد، وكان متحمساً للثقافة الهيلينية كارهاً لليهود والثقافة اليهودية. اشتهر بأعمال البناء والتشييد، وكان من جملة أعماله إعادة بناء وتوسيع هيكل أورشليم وجعله درة معابد الشرق في زمانه. وحسب رواية متى فإن يسوع قد وُلد في أواخر عهد.
2- أرخيلاوس، ابن هيرود الكبير. عينه الرومان حاكماً على مقاطعتي اليهودية والسامرة بعد تقسيم مملكة أبيه. وقد قمع عشية تسلمه للسلطة تمرداً لليهود في أورشليم وقتل منهم ثلاثة آلاف. ولكن الإمبراطور أوغسطس خلعه من مُلكه بسبب سوء حكمه عام 6م، وأعاد السلطة في المقاطعتين إلى ولاة رومانيين. وفي عهده عادت العائلة المقدسة من مصر.
3- هيرود أنتيباس (4 ق م – 39م)، الابن الثاني لهيرود الكبير. عينه أوغسطس حاكماً على الجليل وبيرايا (شرقي الأردن)، وبقي في منصبه أكثر من أربعين سنة. وعندما ارتقى العرش الإمبراطور كاليغولا غضب عليه ونفاه إلى ليون في فرنسا. يرتبط اسمه في الأناجيل الإزائية بمقتل يوحنا المعمدان، وبمحاكمة يسوع.
4- فيليبُس (4 ق م – 34م)، الابن الثالث لهيرود الكبير. وقد أُعطي حكم مناطق سوريا الجنوبية (الطراخونية في اللجاة، إيطورية في البقاع، والجولان). وبقي في منصبه أكثر من أربعين سنة، وارتبط اسمه في الإنجيل بظهور يوحنا المعمدان.
5- قيرينيوس. المفوض العام الروماني في سورية من عام 6 إلى 7م، وفي عهده جرى الإحصاء السكاني الذي تحدث عنه لوقا.
6- بيلاطس البنطي (26-36م). الوالي الروماني على مقاطعتي اليهودية والسامرة، وكان مقره الرسمي في مدينة قيسارية على الساحل الفلسطيني لا في أورشليم، وكان يصعد إلى دار الولاية في أورشليم ليقضي للشعب هناك. ارتبط اسمه في الأناجيل بمحاكمة يسوع.
7- قيافا، رئيس الكهنة في أورشليم من عام 27 إلى عام 36م. وكان منصب رئيس الكهنة في تلك الأيام في يد الإدارة الرومانية، تُعيّن من تشاء وتعزل من تشاء.
8- حنان، أوحنانيا. رئيس الكهنة في أورشليم من عام 6 إلى 15م. خلعه الوالي الروماني على اليهودية فاليروس جراتوس واستبدله بأحد أولاده، ولكنه بقي أكثر الكهنة نفوذاً وبقي يحمل لقب رئيس الكهنة. وكان حما الرئيس الفعلي قيافا الذي كان دمية بيده. ارتبط اسما هذين الكاهنين بمحاكمة يسوع.
9- يوحنا المعمدان. وهو أيضاً شخصية تاريخية موثقة، وقد أورد المؤرخ يوسيفوس عدداً من الأخبار المتعلقة به، والتي نستطيع الآن مقاطعتها مع أحداث تاريخية معروفة مثل حرب ملك الأنباط الحارثة الثاني مع هيرود أنتيباس ملك الجليل. وقد بدأ التبشير في السنة الخامسة عشر من حكم تيبيريوس (لوقا 3: 1) أي عام 29م.
10-وقد ذكرت أسفار العهد الجديد عدداً من الأباطرة الرومان ممن تعيننا فترات حكمهم على رسم الإطار التاريخي لأحداث الإنجيل، ومنهم أوغسطس وكلاوديوس وتيبيريوس.
إننا لا نستطيع لوم مؤلفي الإنجيل عما لم يوردوه، لأن ما أوردوه كان في رأيهم كافياً للغرض الذي من أجله دُوّنت الأناجيل، وهو إعلان يسوع مسيحاً يفتتح بقدومه الثاني ملكوت السماوات، وبالتالي فقد أسقطوا كل ما لا يمت بصلة إلى غرضهم هذا. يضاف إلى ذلك أن هؤلاء المؤلفين كانوا يكتبون مادتهم بعد مضي أكثر من أربعين سنة على الأحداث التي يروونها، وكانت الحرب اليهودية-الرومانية (66-70م) قد أدت إلى مقتل الكثيرين ممن رأوا يسوع وسمعوا منه، وإلى ضياع الوثائق المكتوبة في حال وجودها. وعلى ما يقوله يوسيفوس فإن أكثر من مليون شخص قد لقوا حتفهم أثناء حصار أورشليم ثم اقتحامها عام 70م وإحراقها وتدمير هيكلها، هذا عدا عن الذين قتلوا أثناء قيام القائد الروماني تيتوس بتمشيط الجليل وأراضي اليهودية قبل إلقائه الحصار على العاصمة. ففي الجليل موطن يسوع وتلاميذه قام الرومان بقتل كل قادر على حمل السلاح، حتى أن بحر الجليل (= طبريا) تحول إلى بركة من الدم والنار والجثث الطافية. وخلال عملية التمشيط هذه كان الناس يهربون من وجه الجيش الروماني نحو أورشليم المحصنة التي ضاقت بالعدد الكبير من النازحين إليها، وهذا هو السبب وراء ذلك العدد الكبير من القتلى الذي خلفه اقتحام المدينة. وأما الذين نجوا بحياتهم فقد بيعوا في أسواق النخاسة، حتى صار سعر العبد اليهودي أرخص من سعر الحمار. وبما أن المسيحيين في ذلك الوقت لم يكونوا قد تميزوا عن اليهود، فلا بد من أن عدداً كبيراً منهم قد لقي حتفه، لاسيما وأن الوفيات كانت مرتفعة في صفوف العجزة وكبار السن، وبينهم العديد ممن عاصروا أحداث الإنجيل. وأما من نجا بحياته من هؤلاء فقد صار إلى حالة من الشرود وبلبلة الذهن وضعف الذاكرة، لا تسمح لهم بتقديم شهادة متماسكة يُركن إليها.
إن قليل المعلومات الذي حفظه لنا الإنجيليون قد لا يكفي في حد ذاته لوضع إطار تاريخي وكرونولوجي دقيق لسيرة يسوع، ولكنه يصلح لرسم شبكة من التقاطعات بين المفاصل الرئيسة للرواية الإنجيلية والمصادر الخارجية، تقودنا إما إلى إثبات هذه الرواية أو إلى نفيها. وهذا ما سنعمد إليه فيما يلي بعد استبعاد قصة الميلاد العذري وبقية الغيبيات الواردة في الأناجيل، لأنها تنتمي إلى مجال العقيدة والتقوى الدينية لا إلى مجال التاريخ. وقد اخترنا ثلاثة مفاصل رئيسة من أجل مقاطعتها مع ما صرنا نعرفه من أحداث تلك الفترة، وهي: 1- الصلب. 2- الظهور العلني بعد المعمودية. 3- الميلاد. ومصدرنا التاريخي الرئيس هو كتاب «عاديات اليهود – Antiquities of th Jews» للمؤرخ اليهودي يوسيفوس.
1- الصلب:
نفهم من الرواية الإنجيلية أن نشاط يسوع التبشيري قد ابتدأ قبل زمن قصير من قيام هيرود أنتيباس بسجن يوحنا المعمدان، وأن صلبه قد جرى بعد زمن ليس بالبعيد من إعدامه، عندما كان بيلاطس والياً على اليهودية وقيافا رئيساً للكهنة. وهذا ما يعطينا شيئاً ملموساً ننطلق منه. فلقد ابتدأت فترة ولاية بيلاطس على اليهودية والسامرة عام 27م، وانتهت إما في أواخر عام 36م أو في أوائل عام 37م، عندما أمره المفوض الروماني العام في سورية المدعو فيتيليوس بالتوجه إلى روما من أجل استجوابه من قبل الإمبراطور تيبيريوس بخصوص التهم الموجهة إليه من قبل اليهود والسامريين بالقسوة والظلم وسوء استخدام السلطة. وبعد ذلك حضر فيتيليوس بنفسه إلى أورشليم في عيد الفصح من عام 37م، بعد أن وصلته أخبار عن تململ اليهود وإمكانية حدوث فتنة عامة نتيجة لفساد حكم بيلاطس. وهناك قام بعزل قيافا من منصب الكاهن الأعلى وعيّن آخر بدلاً عنه. من هنا نستطيع تحديد آخر تاريخ ممكن لصلب يسوع في عيد الفصح من عام 36م.
ومن الممكن أيضاً وجود صلة بين صلب يسوع وعزل الشخصيتين الرئيستين المسؤولتين عن ذلك، أي بيلاطس وقيافا، وذلك مقارنة مع ما حدث بعد ذلك عام 62م، عندما جرى عزل رئيس كهنة آخر لأنه عقد اجتماعاً غير قانوني للسنهدرين، واستصدر منه حكماً بالموت رجماً على يعقوب الأخ الأكبر ليسوع وأحد أعمدة كنيسة أورشليم، مستغلاً فترة الفراغ الواقعة بين سفر الوالي القديم ووصول الوالي الجديد الذي يُفترض به إعطاء الموافقة على أي اجتماع للسنهدرين.(1)
2- المعمودية والظهور العلني:
يورد لنا مرقس الخبر التالي عن اعتقال يوحنا ومقتله:
" كان هيرود (أنتيباس) قد أرسل إلى يوحنا من أمسكه وأوثقه في السجن، من أجل هيروديا امرأة أخيه فيلبس لأنه تزوجها (في حياة أخيه). فكان يوحنا يقول له: لا يحق لك أن تأخذ امرأة أخيك. وكانت هيروديا ناقمة عليه تريد قتله فلا تستطيع، لأن هيرود كان يهاب يوحنا لعلمه أنه رجل قديس وبار، وكان يحميه. وجاء يوم مؤات لها إذ أقام هيرودوس مأدبة في ذكرى مولده للأشراف والقواد وأعيان الجليل. فدخلت ابنة هيروديا ورقصت فأعجبت هيرود والمدعوين. فقال الملك للفتاة: سلي ما شئت أعطيكِ. وأقسم لها. فخرجت وسألت أمها ماذا أطلب؟ فقالت: رأس يوحنا المعمدان على طبق. فاغتم الملك، ولكنه من أجل الأيمان التي أقسمها بمسمع من المدعوين لم يشأ أن يرد طلبها. فأرسل الملك من ساعته حاجباً وأمره بأن يأتي برأسه، فمضى وضرب عنقه في السجن وأتى بالرأس على طبق." (مرقس 6: 16-29 قارن مع متى 14: 3-12).
يورد لنا يوسيفوس خبراً مشابهاً للرواية الإنجيلية، ولكنه يضيف إليه أحداثاً تساعدنا في مهمتنا الاستقصائية هذه. فبعد زواج هيرود من امرأة أخيه فيلبُس (الابن الثالث لهيرود الكبير)، لم تقبل زوجته الأولى ابنة الحارثة (الرابع) ملك الأنباط (9ق.م- 40م) بهذا الوضع، وفرت عائدة إلى عاصمة أبيها في البتراء. ورداً على هذه الإهانة قرر الحارثة شن الحرب على هيرود وراح يعد العدة لذلك وينتظر الظروف المؤاتية. وعندما سمع هيرود بخروج الحارثة إليه، دفع قواته إلى قلعة مخايروس الواقعة إلى الشرق من البحر الأحمر على الحدود الفاصلة بين ممتلكاته وممتلكات الحارثة، واتخذ منها مقراً لقيادته. وإلى هذه القلعة ساق يوحنا سجياً لخوفه من تأليب الشعب عليه خلال هذه المرحلة، ثم أمر بإعدامه. في شتاء عام 35-36م وقع الصدام بين الجانبين ومُني هيرود بهزيمة منكرة أمام قوات الحارثة، فعاد إلى الجليل وأرسل إلى راعيه الإمبراطور تيبيريوس يطلب منه عوناً على الحارثة. فأمر الإمبراطور مفوضه العام على سوريا فيتيليوس (الذي استلم مهام منصبه عام 35م) أن يجرّد حملة ضد الأنباط ويأتي بالحارثة مكبلاً بالأصفاد أو يبعث إليه بخبر مقتله. وعندما استكمل فيتيليوس استعداداته من أجل الخروج إلى الحارثة، جاءه خبر وفاة الإمبراطور تيبيريوس التي حصلت في شهر آذار/مارس من عام 37م. فتريث في انتظار تعليمات جديدة.(2)
اعتماداً على رواية يوسيفوس هذه، وما زوّدْنا أحداثها بتواريخ مما صرنا نعرفه الآن، نستطيع وضع مقتل يوحنا في عام 35م وعلى الأرجح في آواخر الربيع قبل بضعة أشهر من المعركة التي جرت في شتاء 35-36م بين الحارثة وهيرود. وعليه فإن معمودية يسوع (وظهوره العلني) قد جرت إما في أواخر عام 34م أو في مطلع ربيع عام 35م. وهذا ما يتفق والتاريخ الذي استنتجناه لصلبه وهو ربيع عام 36م.
3- الميلاد:
يقول لنا متى إن يسوع قد وُلد في عهد الملك هيرود الكبير في بيت لحم، وإن يوسف النجار قد هرب مع أسرته إلى مصر لأن هيرود كان يطلب قتل الطفل يسوع. وعندما سمع بخبر وفاة هيرود عاد إلى اليهودية ليجد أرخلاوس ابن هيرود حاكماً على اليهودية. وبما أن هيرود قد توفي عام 4 ق.م، فإن سفر العائلة المقدسة إلى مصر وإقامتها فيها ثم العودة إلى اليهودية قد استغرقت على أقل تقدير عامين من الزمان، وعليه تكون ولادة يسوع قد وقعت عام 6ق.م. وهذا يعني اعتماداً على استنتاجاتنا السابقة، أن يسوع قد باشر كرازته وهو في سن الواحدة والأربعين (6ق. م + 35م)، وأنه صُلب وهو في سن الثانية والأربعين. وهذا مستبعد لأنه حينها كان على أبواب الكهول، بينما تكشف لنا سيرته عن شباب متدفق وحيوية بالغة، ولأن لوقا يقول لنا: "وكان يسوع في بدء رسالته في نحو الثلاثين من عمره" (لوقا 3: 23). فهل سنجد عند لوقا ما يؤيد استنتاجاتنا؟
يقول لنا لوقا إن يسوع وُلد في سنة الإحصاء العام الذي أمر به القيصر أوغسطس عندما كان كيرينيوس مفوضاً عاماً في سوريا. ونحن نعلم سواء من يوسيفوس أم من المصادر الرومانية أن هذا الإحصاء كان يجري كل أربع عشرة سنة من أجل تحديث قوائم المكلفين بالضريبة، وأن الإحصاء المذكور عند لوقا قد جرى نحو عام 6م. وهذا يعني أن يسوع في بدء رسالته عام 35م كان له تسعة وعشرين سنة، وأنه صُلب وهو في نحو الثلاثين. الأمر الذي يأتي في اتفاق مع روح النص الإنجيلي ومع نتائجنا.
ولدينا في الإنجيل أحداث تدل على أنه السنة التي بشر بها يسوع كانت سنة لتحصيل الضرائب على إجمالي الدخل (= ضريبة مقطوعة) من المكلفين الذين وردت أسماؤهم في قوائم الإحصاء الذي كان يتم كل 14 سنة، وكانت هذه الضريبة تُدعى بضريبة القيصر. فإذا كانت سنة الإحصاء التي ولد فيها يسوع تُؤرّخ بـ6م على ما أوردناه أعلاه، فإن سنة الإحصاء التالية ستكون في عام 20م (6+14)، والتي تليها في عام 34م (20+14). وبناء علي ذلك يكون عام 35م هو عام تحصيل الضرائب التي أُعدت قوائمها في العام السابق.
من هذه الأحداث الدالّة على سنة الإحصاء، أن الكهنة أرسلوا إلى يسوع جواسيس ليأخذوه بكلمة ضد روما فيسلمونه إلى المحاكمة. فجاؤوا وسألوه: يا معلم. أَيحلُّ لنا أن ندفع الجزية إلى قيصر؟ ففطن لمكرهم فقال لهم: أروني ديناراً! لمن الصورة التي عليه والكتابة؟ فقالوا: لقيصر. فقال لهم: أعطوا إذاً لقيصر ما لقيصر، ولله ما لله (لوقا 20: 1-26 قارن مع مرقس 12: 13-17 ومع متى 22: 15-22). وقبل ذلك حصل لغط بين اليهود لأن يسوع اختار في مدينة أريحا أن يبيت في منزل عشّار (= جابي ضريبة) اسمه زكا، وقالوا إنه يحب مخالطة الخاطئين وحثالة الناس (لوقا 19: 1-7). ومن الأقوال المبكرة ليسوع التي لا يمكن فهمها إلا في ضوء سنة الإحصاء وتحصيل الضريبة، إعلانه في نهاية خطابه في مجمع الناصرة أنه "يكرز بسنة مقبولة للرب" (لوقا 4: 16-19). أي أنه أعلن سنته هذه سنة مقدس في مقابل إعلانها من قبل السلطات الرومانية سنة إحصاء ضريبي وتحصيل. ومما يدل على أن الناس في تلك السنة قد رزحوا تحت أثقال ضرائب باهظة، أن المفوض الروماني فيتيليوس عندما قدم إلى أورشليم في السنة التالية (راجع أعلاه) قد أعفى المواطنين من ضريبة الثمار والخضار، في محاولة منه للتخفيف من تذمر الناس. ومثل هذا الإجراء كان من صلاحياته على عكس ضريبة القيصر.
لقد ترافقت سنة كرازة يسوع مع فترة تميزت بالاضطراب والغليان. فهيرود أنتيباس المكروه من قبل الجليليين كان في حالة حرب مع الحارثة، وقد حرك قواته العاملة في شرقي الأردن، وهو يخشى من انتفاضة شعبية ضده لاسيما بعد إعدامه ليوحنا المعمدان. وكانت تصله أخبار كرازة يسوع وتبشيره بقرب حلول ملكوت الرب، الأمر الذي ضاعف من قلقه من تأثير هذا المبشر الجديد الذي خلف يوحنا، وكان يفكر جدياً بالتخلص منه (لوقا 13: 21-23). ولم يكن وضع بيلاطس بأفضل حالاً، فقد زاد من نقمة اليهود عليه عندما استخدم أموال الهيكل المقدسة لتمويل مشروع جر مياه الشرب إلى أورشليم، فخرجت الحشود تندد بهذا الانتهاك لحرمة الهيكل، ولكن بيلاطس دس بينهم شرطته السريين الذين انقضوا عليهم طعناً بالخناجر عندما رفضوا الأوامر بالتفرق، وقتلت منهم الكثير. ويوسيفوس الذي ينقل لنا هذا الخبر، ينتقل بعده مباشرة إلى القول: "في ذلك الزمان عاش إنسان حكيم اسمه يسوع…" (إلى آخر الخبر الذي أوردناه في الحلقة السابقة من هذه الدراسة). ويبدو أن عدداً من الجليليين كانوا بين المحتجين وأوقع جنود بيلاطس بينهم إصابات قاتلة. ولدينا في إنجيل لوقا خبر مقتضب وغامض لا يمكن تفسيره إلا على ضوء هذه الواقعة: "وكان حاضراً في ذلك الوقت قوم يخبرونه عن الجليليين الذين خلط بيلاطس دمهم بذبائحهم" (لوقا 13: 1).
ولم يكن وضع بيلاطس مع السامريين أفضل حالاً. فقد كان اليهود السامريون في ذلك الوقت يتوقعون أيضاً شخصية مسيحانية يدعى الطاحب، سوف يستخرج لهم تابوت العهد ومحتوياته من تحت جبل جرزيم حيث دُفن هناك منذ زمن بعيد. ثم ظهر رجل ادعى أنه الطاحب المنتظر تبعه خلق كثير سار بهم إلى جبل جرزيم. ولكن بيلاطس رأى في هذه الدعوة الدينية بداية فتنة سياسية، فأرسل قوة عسكرية لقمعها وقتل الكثيرين من أتباع الطاحب ثم حاكم قادة الحركة وأعدمهم. فكتب مجلس السامريين إلى المفوض فيتيليوس يتهمون بيلاطس بقتل الأبرياء. هذه الحادثة التي يرويها يوسيفوس تلقي ضوءاً على موقف يسوع الحذر من لقب المسيح، نقرأ في إنجيل لوقا: "فقال لهم: وأنتم مَن تقولون أني أنا؟ فأجاب بطرس: مسيح الله. فانتهرهم وأوصى ألا يقولوا ذلك لأحد" (لوقا 9: 20-21). وفي إنجيل متى: "حينئذ أوصى تلاميذه أن لا يقولوا لأحد عنه أنه يسوع المسيح" (متى 16: 20).
إن هذا العرض السريع للأوضاع العامة في فلسطين خلال حياة يسوع، وما بيّناه من تقاطع أحداث تلك الفترة وشخصياتها مع المفاصل الرئيسة وبعض الأحداث العابرة وغير المفهومة أحياناً في الرواية الإنجيلية، يجعل حياة يسوع ترتسم أمام أعيننا على خلفية تاريخية واضحة كل الوضوح، كما يجعل من القول بلا تاريخية يسوع أطروحة لا يمكن الدفاع عنها.
بقي علينا أن نوضح واحدة من مفارقات التاريخ، وهي ولادة يسوع المسيح وفق تقويمنا السائد قبل 6 أو 4 سنوات من بداية التاريخ الميلادي، لا في اليوم الأول من السنة الميلادية المتعارف عليها. فهذه المفارقة راجعة إلى خطأ ارتكبه أول من خطرت له فكرة تقسيم التاريخ إلى ما قبل ميلاد يسوع وما بعده، وهو الراهب Dionysius Exigus الذي عاش في روما في القرن السادس الميلادي ووضع أول تقويم يقوم على سنة ميلاد يسوع، والتي اعتبرها متطابقة مع سنة وفاة الملك هيرود الكبير. ولكنه أخطأ في حساب تاريخ وفاة هيرود (أي عام 4ق.م) ودفعه إلى الأمام أربع سنوات، وبذلك تطابق عنده التاريخان. وعندما قامت الدراسات اللاحقة بتصحيح تاريخ وفاة هيرود بقي التقويم على حاله.
الهوامش:
1 - من أجل الأخبار التي أوردها هنا مقتبسة عن يوسيفوس راجع: H. Sconfield, The Passover Plot, Element Books, Great Britain, 1966. part.2, ch.6.
2- إضافة إلى المرجع السابق، انظر أخبار الحارثة الرابع وما جرى له مع هيرود في كتاب: - د. إحسان عباس: تاريخ دولة الأنباط، دار الشروق، 1987، ص 57-65.
عن موقع الأوان
NEO
2013-12-30
يعني يسوع ولد "6ق.م" بحسب متى أم "6م" بحسب لوقا؟وماذا عن إمكانية انه ولد قبل 14 عام من إحصاء "6م" اي في عام "8_7 ق.م" وبالتالي تتفق روايتا متى ولوقا؟ هل كان كيرينيوس مفوضا عاما على سورية تحت اوغسطس قيصر في هذا العام ايضا؟ وبالتالي صلب وهو في "8ق.م+36م" الرابعة والاربعين من عمره! مع العلم بأن الحسابات الفلكية تشير إلى النجم المذكور عند المجوس بتاريخ 7ق.م بالفعل.
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
01-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
13-شباط-2021 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |