Alef Logo
كشاف الوراقين
              

وليمة سليم بركات المتنقلة

عزت القمحاوي

2010-03-01


بعض الكتاب يولدون على أرض التهتك المباركة، وبعضهم تحرمه المصادفات المدبرة جيداً من هذه النعمة؛ فينتظر حتى يصل إلى السن التي يفقد فيها القدرة على الاحتشام. سليم بركات من النوع الأخير، وقد وصل أخيراً إلى هذه السن. وشاهدي روايته الجديدة ’هياج الأوز’.
انعطافة ستضع الكثيرين أمام مفاجأة، إذ ينقلب سليم بركات على تاريخه الفني ليقدم عملاً مختلفاً تماماً، له ملامح الروايات الرائجة؛ حيث الكثير من المشهيات الإيروتيكية التي ينتظرها قارئ ’البيست سيللر’، لكن التهتك الذي يمارسه بركات في هذه الرواية هو بالأساس تهتك لغوي، يودع به الشاعر هاجس الكمال الذي منع رواياته السابقة من أن تكون روايات.
لسليم بركات مريدون كثر، لست من بينهم، إذ أرى أنه لا يعيش على سجيته مع اللغة. هل منعته مصادفة العرق مع مصادفة الهجرة من أن يكون على سجيته مع اللغة، وجعلته مهووساً بكمال بلاغي ونحوي؟ أتساءل فقط، وليس من حقي أن أجزم، لكن من حقي أن أعتقد أن الكمال اللغوي، لا يجب أن يكون من الشواغل الأساسية للرواية. ولهذا لم أكن أخجل من الاعتراف، أمام مريدي بركات، بأنني لا أستطيع قراءة رواياته مثلما لا أخجل من الاعتراف بأنني لم أتمكن من الوقوف على سر عظمة عوليس.
’ ’ ’
في ’هياج الأوز’ مارس سليم بركات حريته مع اللغة، وعاش على سجيته مع معارفه وخبرات حياته، وصارت الرواية عنده لعباً خالصاً وتقاسماً للمتع مع القارئ. وليس أمتع من الجنس والطعام، وقد اقتفى سليم بركات في روايته الجديدة اثر العظماء المجهولين مبدعي ’ألف ليلة وليلة’ في ولعهم بالطعام والجنس.
من لم يعرفوا الشاعر الكاتب شخصياً، من أمثالي، عرفوا علاقته بالطبخ من خلال نص لمحمود درويش في ’أثر الفراشة’ يصف فيه سليم عندما يجر عربته إلى السوق ليتخير من اللحم ’الأقرب من الطبيعة’ مشيراً إلى امتيازه في الطبخ: شعر اليد.
هو، بشهادة درويش، كاتب لاحم، وفي الرواية يضع النباتيين مع المثليين والسحاقيات في ربطة واحدة من أديان العالم الجديد. وفي المقابل يستعرض حبه للطعوم الأصلية، مصحوباً بذم ألعاب التمويه والغش كما في رقائق اللحم ’الشاورما’ التي يسوقونها للسويديين الطيبين باسم الكباب!
ألزم سليم نفسه بمشهد واحد صنع منه رواية من ثلاثمائة صفحة؛ حيث تجتمع عشر نساء كرديات في المهجر السويدي ببيت إحداهن بالتناوب مساء كل سبت على وليمة متنقلة عامرة بأطعمة الحنين وأطعمة التكيف مع المكان الجديد، وشراب من العالمين ودخان وكثير من الثرثرة، معظمها حول الجنس بإلحاح يصل حد الهذيان والابتهال إلى كل صلب وطري من خضار المائدة لكي يتحول لحماً حياً.
لكن هذه الخفة شديدة الخداع؛ فلم يتنكر بركات لتاريخه، ولا أظن أن كاتباً يستطيع التخلي، في لحظة الكتابة، عن تكوينه الثقافي أو عن المنظور الذي يطل منه على الحياة بناء على هذا التكوين.
قد يبدأ الحوار بسؤال توجهه إحداهن إلى أخرى إن كانت قد اشترت كلباً كما كانت تنوي. السؤال يستدعي بالطبع الرابطة الأكثر ابتذالاً، لكنه يضع على لسان إحداهن ’درخو’ ما يجعلنا نفكر في حالات الولع بالكلاب والحيوانات المنزلية، التي ربما لم نتوقف أمامها من قبل بهذا العمق؛ حيث كل مكان يدخله كلب فيه استغلال للكلب، من لا تجد شخصاً تكلمه تأتي بكلب، من لا تجد من يصغي إليها تأتي بكلب، من تتعرض للخذلان في تربية أولادها تأتي بكلب، من تريد النباح على جارة تملك كلباً، تأتي بكلب ينبح على الجارة، من تريد أن تتبنى طفلاً يتيماً تتبنى كلباً وتسميه باسم طفل يتيم. وعندما تسألها زليخا: ما الأسماء الخاصة بأطفال يتامى؟ تجيب درخو: ’كل اسم يطلق على كلب أو كلبة، هو اسم طفل يتيم لم يتبنه أحد’!
زنتانا امرأة أخرى، هاجرت مع زوجها ابن خالتها، وفي السنة الرابعة من زواجهما، سنة الكفر بخلاص جسدها في مهب رجل واحد، طلبت منه أن يأذن لها بعبودية جديدة: البحث عن حرية!
’ ’ ’
هكذا تأتي المفارقات والأفكار التي يسربها الراوي على لسان شخصياته. وبين سطور الثرثرة التي تبدو مجانية على مدار الفصول الولائم، وفي عتمة ليالي الاشتهاء الطويلة ينام الهم الإنساني العميق للمهاجرات والمهاجرين، كما تنام النار تحت رمادها.
كلهن تركن أزواجاً، مستمتعات بحرية الوحدة وملسوعات بنارها ونار حضانة أطفال يكبرون على عادات مجتمع جديد، بحيث تضيف كل سنة جديدة حاجزاً إضافياً من الجليد بين الأم وأولاها وبناتها، يبدأ الأمر بالترفع عن الولائم وطنية المنبع، وينتهي بتقاسم الفراش مع صديق على الطريقة الأوروبية.
النساء والرجال الذين تخلوا عنهن أو تخلين عنهم، ليسوا هنا أو هناك. فائض الحرية يبدو خانقاً ومبلبلاً أحياناً، مثل هواء جبلي يداهم رئتي سجين
فائض الحنين لا يصيب المهاجر ببلبلة أو باحتراق أقل؛ إذ لا يمكن للشوق أن يحجب حقيقة أن مسقط الرأس بلا إنترنت، وهو سبب كاف للتردد في العودة ولو على سبيل الزيارة!
حنين صاف للأرض والأهل والطعام الكردي، وعلاقات مصلحة مدمرة للروح، إذ يبقى الوطن مدداً جنسياً في صفقات تبادل للمنافع، الخروج إلى جنة السويد مقابل زيجة غير متكافئة ’في العشرين من عمرها استوردت شيراز زوجاً من بلدة درباسية بشمال سوريا، هو ابن أخي زوج أمها’.
استيراد شيراز لوسام شتو أثمر ثلاثة أبناء وطلاقاً سريعاً؛ لكن رغبة رابو بردغيلي في استيراد زوجة انتهت بمأساة؛ حيث اختار الكهل فتاة في الثامنة عشرة من ’قامشلو’ وقبل الخطوة الأخيرة تراجع أبوها، وعرف المهاجر أن حسن عباسو الأرمل الذي يماثله عمراً قدم مهراً أكبر مع قائمة من المحاذير ضد إرسال الفتاة إلى السويد التي لا يتوقف النكاح في حدائقها وباصاتها ومحطات قطاراتها. ولم يدعه المهاجر يستمتع بعروسه، لا هو ولا أياً من السبعة والعشرين شخصاً الذين سعوا في وقف صفقة رابو؛ حيث تلقى كل منهم خطاباً مجهول المرسل من السويد رداً على خطاب مزعوم:’نتفهم استياءك من النظام. نتفهم رغبتك في تحطيمه بأي وسيلة، لست وحدك…’.
انتقام ثقيل، لكن القارئ سيغفر عبث ذكر إوز عبست له الأقدار؛ ولا نعرف إن كان مريدو سليم بركات القديم سيغفرون له هذه الرواية اللعوب!
عن جريدة القدس العربي 28/2/2010

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

وليمة سليم بركات المتنقلة

19-تشرين الأول-2019

وليمة سليم بركات المتنقلة

01-آذار-2010

فضيلة الشيخ المدرب!

31-كانون الثاني-2010

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow