الفنّ.. بين سؤالٍ وجواب ـ قراءة في نصّين لسامر أنور الشمالي(1) ـ
خاص ألف
2010-03-21
إذا كانت عمليّة تقديم إجاباتٍ حاسمةٍ على أسئلةٍ صعبةٍ هي أهمّ ما ينبغي على العلم أن يقوم به، فإنّ عمليّة إثارة الأسئلة نفسها، وتوجيه النظر إليها، والتنبيه على وجودها، تبدو على رأس المهمّات والأهداف التي يتطلّع الفنّ إلى أدائها...
وإذاً، فلا تعارض بين الفنّ والعلم، فلكلٍّ في الحياة دورٌ، ولكلٍّ أساليبُ ومناهجُ وآليّاتٌ في أداء هذا الدور وتجسيده.
وكذلك، لا مزيّة لأحدهما على الآخر، وإن كان ثمّة من يميل إلى الاعتقاد بأنّ الإنسان بدأ وجوده فنّاناً لا عالِماً. والفنّانُ القلِقُ المعذّبُ بالأسئلة فيه ما زال يسبقُ العالِمَ الفرِحَ المطمئنَّ إلى الإجابة. أي أنّ ثمّة ريادةً من نوعٍ ما للفنّ في اقتحام ما هو مجهولٌ وغامضٌ ومحيّرٌ من ظواهر هذا الوجود.
وفي كلّ الأحوال، وسواءٌ أكان الأمر على هذا النحو أم لا، فإنّ من أشدّ ما وثّق علاقة الإنسان بالفنّ هو تلك القدرة المبدعة على ابتكارِ الأسئلة، ونقلِ مستوى الصعوبة والتعقيد فيها إلى درجاتٍ تزداد في كلّ مرّةٍ إثارةً وتحفيزاً للعقل والخيال على حدٍّ سواء.
ولقد بدا أنّ ثمّة تقديراً لطبيعة هذا الدور الذي ألزم الفنُّ نفسه به، ونشأ نتيجةً لذلك اتّجاهٌ في فلسفة الفنّ يعفيه من مسؤوليّاتٍ ثبت أنّه لا يصلحُ لها، ولا تصلحُ هي له، ومن ذلك أنْ يسعى إلى تقديم قدرٍ ما من الأحكام القاطعة، أو الإجابات الحاسمة جنباً إلى جنبٍ مع الأسئلة التي لا ينفكّ يثيرها.
فإذا ما أخذنا هذا كلّه بعين الاعتبار، فسوف نكون أمام معيارٍ ـ يضافُ إلى معاييرَ أخرى ـ للتمييز بين فنٍّ من مستوى معيّنٍ من الجودة أو الجمال، وآخر دون ذلك، أو فوقه.. إنّه المعيارُ المرتبطُ بمقدار ما يثيره العمل الفنّيّ من أسئلة، ثمّ بطبيعة هذه الأسئلة، وعمق التصاقها بالإنسان ووجدانه وتاريخه..
l
وبالتطبيق العمليّ لهذا المعيار، تبدو هذه القصّة (أمسيةٌ بلا صباح) لسامر أنور الشمالي(2) نموذجاً لنصٍّ لا يكفّ عن إقلاق المتلقّي بدفعاتٍ متتاليةٍ من الأسئلة الكبرى، بل إنّ هذه الأسئلة لا تلتزم صيغةً واحدة مغلقةً، لأنّها متجدّدةٌ إثر كلّ قراءةٍ له.
تتحدّث القصّة عن شخصٍ ليس له اسمٌ ولا ملامح ولا هويّة، يلج لغرضٍ مجهول قاعةً بمعالم محدودةٍ لا تكفي للتعرّف إلى طبيعتها. ثمّة منصّةٌ ضخمةٌ مصنوعةٌ من أخشاب الأشجار المقطوعة، ومُحاضِرٌ يلقي كلمةً لا نعرف شيئاً عن مضمونها. الزائر يتابع المُحاضِر، دون أن يظهر عليه أنّه مهتمٌّ بشيءٍ ممّا يسمع. والمُحاضر يوالي الكلام دون أن يظهر عليه هو الآخر أنّه مهتمّ بإنهاء محاضرته. ثمّة زمنٌ يمضي، وها هو يرخي بظلاله على المشهد. حالةٌ من الانهيار المطلق أخذت تلتهم جميعَ مفرداته والعناصر المشترِكة في تكوينه. الموت هو المصير الذي انتهى إليه كلّ شيء. هذا ما يصل إليه الزائر.. وحين يقرّر المغادرة يكتشف أنّه هو نفسه قد فارق الحياة.. بل لقد فارقها منذ زمنٍ بعيدٍ جدّاً..
دوّامةٌ عنيفةٌ من الأسئلة يثيرها النصّ. وقد لا يكون ثمّة جدوى من السعي وراء أجوبةٍ مناسبةٍ لها. والواقع أنّ في النصّ ما يدعو إلى الاعتقاد بأنّه لم يُكتَبْ أصلاً لهذا الغرض. فهو لا يطرح نفسه ليكون أحجيةً تتحدّى ذكاء المتلقّي، وتستحثّه للعثور لها على حلولٍ منطقيّةٍ معقولة؛ بقدر ما كان يسعى إلى أن يكون (توثيقاً فنّياً إبداعيّاً) لهواجس مؤرّقةٍ ما زال الإنسان يعيشها، ويئنّ تحت وطأتها؛ أو ربّما يعتاش روحيّاً عليها، ويجدّد وجوده بها.
إنّ كلّ عنصرٍ من العناصر المكوّنة لعالم هذا النصّ قد يكون له ما يعادله في العالم الموضوعيّ الخارجيّ. غير أنّ قراءةً له تنهج هذا المنهج، أو تقتصر عليه في الأقلّ، من شأنها أن تفقده قدراً غير يسيرٍ من قيمته، لأنّها تفترض قابليّةً فيه للانغلاق، في حين هو مفتوحٌ على نحوٍ يتّسع لكلّ الاحتمالات..
بل إنّ في النصّ ما يشجّع على تجنّب قراءاتٍ من هذا النوع. ولعلّ العنوان (أمسيةٌ بلا صباح) يكفي وحده للتدليل على ذلك. فالصباح مقترنٌ دوماً بالوضوح، وفيه تكون معالم الأشياء مرئيّةً بطريقةٍ مباشرةٍ غير قابلةٍ للتأويل. وغيابُه يعني إغراق هذا كلّه في حالٍ من الغموض لا يقين معه..
هذه الأجواء تتواصل إلى ما بعد العنوان. فالمطلع لا يشير إلى صحوةٍ (واهنةٍ) وحسبُ، بل هي عابرةٌ أيضاً, ولا تستمرّ أكثر من هنيهة. يلي ذلك تصويرٌ لـ (طيفٍ هلاميٍّ يحوم كشبحٍ في مخيّلةٍ ليس لها تاريخ). ثمّة (ستائر سميكةٌ) أيضاً، و(مساءٌ لا ترصده الساعات، لهذا لن تعقبه شمسٌ ترتفع إلى قبّة السماء أبداً). ثمّ تتوالى بعد ذلك صورٌ أخرى تؤكّد هذه الأجواء العدميّة التي لا تحيل إلى معنى محدّدٍ يمكن الاطمئنان إليه، والوثوق به. (سكونٌ مطبق، أصداءُ بعيدة، حواسّ معطّلة، كلامٌ بلا معنى ولا غايةٍ ولا هدف، شخصٌ ليس لديه ما يفعله، وآخرُ يحاول دون جدوى أن يبدو كلامه كحقيقةٍ لا تقبل الجدل، جسدٌ يتضاءل، ثيابٌ رثّةٌ مقطّعة، مللٌ طويل، عينان كلَّ بصرُهما، جدرانٌ تقشّر دهانها، كراسيّ توشك على الانهيار، عظامٌ بشريّةٌ متداعيةٌ تكاد تتفتّت، كأسٌ فقد شفافيته، وماءٌ تبخّر منذ عهدٍ طويل..).
سلسلةٌ طويلة من عناصر ومشاهد وصورٍ رُكّبتْ على نحوٍ يجعلها متفلّتةً على الدوام من معنى محدّدٍ يمكن أن يضبطها. لكنّ هذه السلسلة نفسها سرعان ما تنفرط، ثمّ تختفي، ولا يعود لها من أثرٍ. إنّه الموت. الحقيقةُ الوحيدة التي ينطق بها النصّ، ويسمّيها. وقد جاء ليلتهم كلّ شيء، ويبدّد كلّ إمكانيةٍ للوصول إلى يقينٍ، مهما كان هشّاً أو متواضعاً:
(لم تخطر في ذهنه فكرة دفن الموتى الذين فقدوا لحمهم ودمهم منذ سنواتٍ طويلة.
فقط حاول الوقوف، دون أن يفكّر بالقيام بأيّ عمل.. ولكنّه لم يقدر على الوقوف على قدميه، بل على الإتيان بأدنى حركة، لأنّه اكتشف ـ متأخّراً جدّاً ـ أنّه منذ زمنٍ بعيدٍ فارقته الروح دون الأمل في العودة للحياة بأيّ طريقةٍ ما!)..
l
ولكن، أكان ذلك نوعاً من أنواع الفنّ العابث الذي ليس لديه ما يقوله أصلاً؟.. أكانت العدميّةُ فيه نتيجةً لرؤيةٍ مشوّشةٍ قاصرةٍ أكثر منها تعبيراً عن موقفٍ ناضجٍ واثقٍ من نفسه؟..
سؤالٌ لا يخلو من وجاهةٍ، لكنّ الإجابة عليه بالنفي ليست صعبةً جداً. ذلك أنّ تماسك النصّ، ووحدة أجزائه، ورصانة بنائه، والتدرّج المدروس في عرض الحالة، والربط المحكم بين مختلف العناصر.. إنّ ذلك كلّه يشير ـ فيما يشير ـ إلى وعيٍ ما، قد نختلف في تحديد ماهيّته، لكنّنا في النهاية نشعر به.
والواقع أنّ قوّة هذا النصّ إنّما تكمن ـ في تقديرنا ـ فيما ينفتح عليه من إمكانيّاتٍ غير محدودةٍ للتأويل، فهو نصٌّ يعيد إنتاج نفسه على نحوٍ متواصلٍ، لتصبح كلّ قراءةٍ له كتابةً جديدةً تزيده عمقاً وثراءً.
l
ولربّما كان من المفيد ها هنا أن نستحضر نصّاً آخر للكاتب نفسِه بعنوان (تصفيقٌ حتّى الموت)(3)، وهو يتحرّك ضمن أجواء تتقاطع إلى حدّ ما مع أجواء النصّ السابق. فثمّة مُحاضِرٌ أيضاً (جالسٌ على كرسيّ خيزران...، وأمامه طاولةٌ صغيرةٌ مغطّاةٌ بقطعة قماشٍ خضراء باهتة..). رتابةٌ وبطءٌ في الإيقاع، سرعان ما يبدّدهما أزيز رصاصةٍ تنطلق لتصيب المحاضر، وترديه قتيلاً. عمليّةُ اغتيالٍ إذاً، والمنطق يفترض في مثل هذه الحالة أن تسود حالةٌ من الاضطراب تمزّق صفوف الحاضرين، لكنّ النصّ كسر أفق التوقّع هذا، عبر مشهدٍ لا يخلو من الغرائبيّة، حيث ردودُ الأفعال الباردة، والتزامُ الحضور أماكنَهم، ثمّ التصفيقُ الذي ضجّت القاعةُ به.
المتلقّي قد تستوقفه في هذا النصّ جملةٌ من الالتقاطات الذكيّة، والصور البارعة، لاسيّما مشهد الستارة المهترئة الكالحة خلف المحاضر، والتي اهتزّت إثر انطلاق الرصاصة، تعبيراً غيرَ مباشرٍ عن اختراق الرصاصة رأسَه. ومنها كذلك مشهد خيط الدم وهو يسير بدءاً من الطاولة، ثمّ مروراً بالمنصّة، ووصولاً إلى الأسفل، ليتجمّع هناك تحت أحذية الجالسين مشكّلاً بركةً متوهّجةً بلون الجمر.
أضف إلى هذا كلّه ذلك الصوت الخارجيّ الذي كان يتدخّل بين الحين والآخر، ليزعزع بنية النصّ، ولكن، لا بقصد تقويضها وإلغائها وتجريدها من القيمة والأثر، بل ليعيد تشكيلَ الوعي بها، وتوجيهَه نحو احتمالاتٍ أخرى ممكنة:
ـ فجأةً (ربّما فجأةً)..
ـ وانسكبت بخطّ رفيعٍ أحمر (أحمر جدّاً)..
ـ من المؤكّد أنّه ميّتٌ (ميّت تماماً)..
ـ لكيلا يعرّضوا أنفسهم للخطر (وهذا عادةً ما يحدث)..
ـ كي لا يثيروا أدنى شبهةٍ بأنّهم هربوا من مكان الجريمة (وهذا واردٌ أيضاً)..
ـ على الرغم مـن كل الاحتمالات الممكنة (وغير الممكنة)..
ـ فلم يجدوا غير وسيلةٍ (قد تكون) وحيدة للتعبير عن وجودهم (في حال وجودهم)..
والواقع أنّ النصّ كان يمكن أن يكون مثالاً آخر على الكتابة المكتنزة التي لا تسلم نفسها للمتلقّي مجّاناً، إلاّ أنّ النهاية كانت على غير هذا النحو:
ـ ... سوى أن يواصلوا التصفيق للميت، الأكثر حياةً (حتّى بعد موته، منهم هم الأحياء)!...
هكذا وقع النصّ في فخّ المباشرة، وفضح نفسه، منتقلاً من أفق الدلالة المفتوحة إلى حالةٍ استُهلك فيها منذ القراءة الأولى، ولم يترك مجالاً للمتلقّي كي يمارس دوره في إعادة إنتاجه، أو تأويله، مع ما في ذلك من إثراءٍ له، وتأكيدٍ لهويّته من حيث هو عملٌ فنّيّ غايته أن يتساءل ويُقلق، أكثر ممّا يجيب ويُطَمْئِن.
وبالطبع، فما من شيءٍ يمكن أن يحول دون الزعم بأنّ نصّ (أمسيةٌ بلا صباح) كان يعالج قضيّة الموت من بعدها الوجوديّ، فثمّة معطياتٌ فيه تسمح بقراءةٍ من هذا النوع. إلاّ أنّنا لا نستطيع بالمقابل أن نرفض قراءةً مغايرةً قد ترى فيه إدانةً لحالةٍ من الانحطاط في القيم أخذت تغزو مجتمعاتِنا، حتّى حوّلتْها إلى كياناتٍ فاقدةٍ لكلّ مظاهر الحياة. كما أنّ ثمّة إمكانيّةً لقراءةٍ ثالثةٍ ذات طابعٍ سايكولوجيٍّ، ترى فيه تجسيداً فنّيّاً لحالةٍ من الحرمان، أو العجز، أو الاضطراب النفسيّ تعاني منها الشخصيّة الرئيسة.
وإذا كان الأمر على هذا القدر من التنوّع والغنى في إمكانيّات القراءة والتأويل في نصّ (أمسيةٌ بلا صباح)، فإنّ النصّ الآخر (تصفيقٌ حتّى الموت) بدا فقيراً بها إلى حدّ كبير. ورغم أنّ الحال كان يمكن أن يكون مختلفاً، إلاّ أنّ اللغة المباشرة في هجاء الجمهور وتمجيد المحاضِر القتيل (الميت الأكثر حياةً منهم هم الأحياء) جاءت لتوحّد مسارات القراءة ضمن خطّ وحيد، ملغيةً بذلك مساحاتٍ خصبةً كانت متاحةً أمام المتلقّي ليتفاعل مع النصّ، ويمارس دوره في إعادة الإنتاج بما يبرز القيم الجماليّة فيه، ويشخّص مواطن الإبداع..
l
الفارق بين النصّين (أمسيةٌ بلا صباح) و(تصفيقٌ حتّى الموت) إذاً هو الفارق بين الفنّ المخلص لذاته، الذي يحترم الطرف الآخر في معادلة الإبداع، أي المتلقّي، بحيث لا يجور عليه، ولا يسلبه حقّه في أن يكون له هامشٌ معقولٌ يتيح له التدخّل على نحوٍ إيجابيّ خلاّق؛ وبين النصّ الذي لا يثق بهذا المتلقّي، ويبادر على الدوام إلى قطع الطريق عليه بمقولاتٍ ناجزةٍ، وأحكامٍ قاطعةٍ، ممّا يجعله أقرب إلى طبيعة النصوص الإبلاغيّة المباشرة، منه إلى الفنّ ونزوعه الدائم نحو الإثارة والتحريض والقول.. ثمّ نقض القول..
النصان
أمسية بلا صباح
الصحوة الواهنة التي داهمته لهنيهة.. بدت كطيف هلامي يحوم كشبح بلا ملامح في مخيلة ليس لها تاريخ.
النور الكامد المتسلل من خلف ستائر سميكة صوّر له دون يقين أن الوقت لمساء لا ترصده الساعات، لهذا لن تعقبه شمس ترتفع إلى قبة السماء أبداً.
السكون المطبق للقاعة فرض سطوته، بحزم لا تخدشه غير أصداء بعيدة لأناس يتحركون بدأب في مكان آخر.
* * *
لم يفاجئه أنه وجد نفسه في ذاك المكان، وفي نفس الزمن ذاته دون مبرر. لأن الدهشة تحتاج إلى حواس تعمل بشكل جيد.
أمامه تماماً، ثمة منصة ضخمة مصنوعة من أخشاب الأشجار المقطوعة.
لم يكن ينصت لما يقول المحاضر لأنه لم يجد أن للكلام ثمة معنى، أو غاية أو هدفاً.
ولأنه ليس لديه ما يفعله، اكتفى بمتابعة المحاضر الذي يحاول دون جدوى أن يبدو كلامه كحقيقة لا تقبل الجدل.
المحاضر دون أن يتوقف عن الكلام زادت تجاعيد جبينه الضيق، وضاقت عيناه خلف نظارته السميكة، وزاد انتفاخ لغده المتهدل. كما اختبأت ملامح وجهه خلف شعر كثيف أسود طال مشكلاً لحية شعثاء غطت معظم وجهه، بينما شعر رأسه بهت لونه متحولاً إلى خصل بيضاء تساقطت بهدوء مطبق حول جسده الضخم الذي تضاءل تدريجياً حتى تهلهلت عليه ثياب تقطعت خيوطها فغدت رثة ممزقة.
ربما الملل الطويل دعاه لأن يجول في المكان بعينيه اللتين تحركتا بصعوبة، لعله يرى شيئاً آخر غير هيئة المحاضر المرعبة بقدر رصانتها.
لكنه لم يستطع رفع عينيه ـ التي كلّ بصرهما ـ إلى فوق، فاكتفى بتأمل الجدران التي سقط الدهان عنها. والأرضية المغطاة بطبقات من الوسخ، وظلال الكراسي التي توشك على الانهيار، وقد تداعت فوقها عظام بشرية تكاد تتفتت من وطأة الزمن والغبار الكثيف.
* * *
لم يفكر بإسكات المحاضر الذي لم يتوقف عن الكلام الصامت، برغم أنه لم يشرب قطرة ماء من الكأس الذي فقد شفافيته وتبخر ماؤه منذ عهد طويل.
أيضاً لم تخطر في ذهنه فكرة دفن الموتى الذين فقدوا لحمهم ودمهم منذ سنوات طويلة.
فقط حاول الوقوف، دون أن يفكر بالقيام بأي عمل.. ولكنه لم يقدر على الوقوف على قدميه، بل على الإتيان بأدنى حركة، لأنه اكتشف ـ متأخراً جداً ـ أنه منذ زمن بعيد.. فارقته الروح دون الأمل في العودة للحياة بأي طريقة ما!
l
تصفيق حتى الموت
الستارة الداكنة السواد مسدلة من ورائه. وهو جالس على كرسي خيزران يصدر أنيناً خافتاً كلما تحرك جسده النحيل. وأمامه طاولة صغيرة مغطاة بقطعة قماش خضراء باهتة اللون، عليها ميكروفون صغير، وكوب ماء فارغ. وأوراقه البيضاء الناصعة الموشاة بحروفه الزرقاء المنمنمة التي يقرأ منها للمستمعين المواجهين له في صفوف مرتبة بعناية.
فجأة (ربما فجأة)!
يدوي المكان بأزيز رصاصة واحدة..
ولكنها كانت كافية، كي تهتز بوضوح من خلفه الستارة المهترئة الكالحة، ويهوي ببطء على مساحة الخضرة للطاولة الصغيرة، وقد بدأ النزف..
.. دماء غزيرة تتدفق سائلة من رأسه الكبير، لونت الأوراق التي هوت ـ كأجنحة لطيور مصطادة ـ متناثرة من بين أنامله الراعشة، وانسكبت بخط رفيع أحمر (أحمر جداً) مـن الطاولة، نزولاً إلى المنصة، نحو الأسفل، حيث الجالسون، مشكلة تحت الأحذية، بركة متوهجة بلون الجمر لدماء طازجة، برائحة مالحة الحضور!
لم يهرعوا ليسعفوه، فلقد كان من المؤكد أنه ميت ( ميت تماماً)!
لم يركضوا ليلقوا القبض على القاتل قبل فراره، لكيلا يعرضوا أنفسهم للخطر (وهـذا عادة ما يحدث)!
لم يخرجوا من المكان، كي لا يثيروا أدنى شبهة بأنهم هربوا من مكان الجريمة (وهذا وارد أيضاً)!
ولكن على الرغم مـن كل الاحتمالات الممكنة (وغير الممكنة)!
كانوا منفعلين لأقصى درجة محتملة. فلم يجدوا غير وسيلة (قد تكون) وحيدة للتعبير عن وجودهم (في حال وجودهم)! سوى أن يواصلوا التصفيق للميت، الأكثر حياة (حتى بعد موته، منهم هم الأحياء)!
فضجت القاعة.. بالتصفيق!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) كاتب سوري من مدينة حمص. مواليد 1971. عضو اتّحاد الكتّاب العرب. من أعماله المطبوعة:
في القصّة: (في البحث عن الضياء، تصفيق حتّى الموت، ماء ودماء).
في الرواية: (سيرة ذاتيّة للجميع).
في أدب الأطفال: (الكاتب الصغير، كوكب النباتات المضيئة، كنوز المملكة الذهبيّة، كلّ الحكايات في قصّة واحدة).
(2) سامر أنور الشماليّ: ماء ودماء، اتّحاد الكتّاب العرب، دمشق، الطبعة الأولى 2006، ص ص (84 ـ 86).
(3) سامر أنور الشماليّ: تصفيق حتّى الموت، دار التوحيدي، حمص، الطبعة الأولى 2001، ص ص (8 ـ9).
نقل المواد من الموقع دون الإشارة إلى المصدر يعتبر سرقة. نرجو ممن ينقلون عنا ذكر المصدر.
في المستقبل سنعلن عن أسماء جميع المواقع التي تنقل عنا دون ذكر المصدر
ألف
08-أيار-2021
28-أيلول-2019 | |
06-تموز-2019 | |
26-كانون الثاني-2019 | |
17-شباط-2018 | |
13-كانون الثاني-2018 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |