عجز المؤلّفة ـ موت النصّ
2010-04-18
كيمياء النصوص:
نظريّاً: عندما تتناسل النصوص فالقراءات لا بدّ أن تتناسل أيضاً. ولمّا كان (عجز المؤلّفة) لروضة البلوشي نصوصاً في نصّ، كان لا بدّ للقراءة أن تتتبّع النصّ، والنصوصَ فيه أيضاً. والقضيّة ليست في تحديد تلك النصوص، وعزلها، بل في اجتراح آليّات القراءة التي تصلح لكلٍّ منها. والخوف هنا من أن تكون الحصيلة عملاً تلفيقيّاً تتراكم فيه القراءات على نحوٍ يفتقر إلى الاتّساق والانسجام. لكنّ (عجز المؤلّفة) يحلّ المعضلة. فهو لا يجمع نصّاً إلى آخر، بل فيه. بمعنى أنّه يوحّد بينهما. (كيمياءُ نصوصٍ) إذاً. ثمّة نصوصٌ تتوالد ذاتيّاً، أي بالخضوع لقوانين يفرضها العمل نفسه، ومن الداخل. لذلك كان (عجز المؤلّفة) نصّاً واحداً في الحقيقة. وما النصوص الأخرى سوى عناصر لا قيمة لها في ذاتها. بل لا وجود.
كيف؟..
في (عجز المؤلّفة) يمكن التمييز بين:
1ـ العمل: ونعني به تلك الكتابةَ التي تحمل عنوان (عجز المؤلّفة) لصاحبتها الإماراتيّة (روضة البلوشي)، والتي تجدها أمامك في كيانها المادّيّ الملموس ممدّدةً على الورق، ببدايتها (العنوان)، ونهايتها (كنت أبكي!). كتلة عناصرها لغويّةٌ (صوتيّة، وصرفيّة، وتركيبيّة). وهي بالتأكيد ليست كتلةً صمّاء، منغلقةً على ذاتها. هي بلا شكّ تمتلك ـ شأنها في ذلك شأن أيّ عملٍ آخر ـ امتداداتٍ في التاريخ والثقافة والحياة. هي جزءٌ حميمٌ من شخصيّة صاحبتها (الكاتبة)، ثمّ من البيئة التي أنتجتها، والثقافة التي تكوّنت في رحمها، واللغة التي أفصحت عن نفسها بها، والتراث الذي هي حصيلة كمٍّ هائلٍ منه.
(عجز المؤلّفة) بوصفه عملاً لا يمكن اختزاله في كيانٍ مادّيّ محدود. إنّه يتجاوز ذاته. يخرج من الداخل الذي هو فيه إلى الخارج الذي هو منه. ثمّ، في فعلٍ معاكس، يسحب الخارج إليه، ليجعله جزءاً منه. هو ليس نفسه. ولذلك يصبح نهباً لقراءاتٍ لا نهائيّة، تتناوله بصفته تأريخاً تارةً، أو وثيقةً اجتماعيّةً تارةً أخرى، وقد يتحوّل إلى مدوّنةٍ في اللغة، أو اعترافٍ شخصيّ.. أو سوى ذلك ممّا لا يقبل الحصر من إمكانات القراءة..
2ـ النصّ: ونعني به (العملَ) نفسَه، ولكن بعد أن انقطع الماءُ والهواء عنه، وتعلّق في الفراغ. لقد قلنا إنّ لكلّ (عملٍ) امتداداتٍ في الخارج. وقد يكون من المناسب أن يفرّغ قارئٌ ما نفسه للبحث في هذه الامتدادات، وقد تكون النتائج على قدرٍ عظيمٍ من الأهمّيّة. لكنّنا هنا سنختار لأنفسنا وجهةً أخرى. اهتمامنا سيكون منصبّاً على (النصّ)، لا على (العمل). ومعنى ذلك أنّنا سنقتصر في بحثنا ـ إلاّ إذا دعت إلى غير ذلك ضرورةٌ ما ـ على التفاعلات الداخليّة بين العناصر المختلفة المكوّنة للنصّ، والتي أفضت في النهاية إلى ولادته كما هو.
وسيكون أوّل ما نعمد إليه لتأكيد هذا التوجّه أن نجرّد المؤلّفة (روضة البلوشي) من شخصيّتها الحقيقيّة، لتتحوّل إلى شخصيّةٍ اعتباريّة. أو لنقلْ إنّنا سنواصل البحث في حضورها داخل النصّ، ولكن لا بوصفها شخصاً، بل شخصيّة. شخصيّة الراوي (الراوية إذا شئت) في النصّ. بل سنمضي أبعد من ذلك، لنجرّدها من اسمها. ستكون بلا اسم. تماماً كما أراد لها النصّ نفسه.
لكنّ النصّ مع ذلك لا يدعنا بسلام. فهو يبدأ كما تبدأ كلّ النصوص القصصيّة الأخرى. ثمّة راوٍ، ورواية:
(كان يقف أمامي فارداً قامته بلا اكتراث وفي يده سيجارة مارلبورو جديدة..).
(يقف): هو ـ المرويّ عنه.
(أمامي): أنا ـ الراوية التي كانت مؤلّفةً، فقتلناها شخصاً، وأحييناها شخصيّة.
شخصيّة الراوية (ولا أعني شخصها) تمارس دورها حتى الآن بالطريقة الهادئة المتوقّعة في نصوصٍ من هذا النوع. لكنّ المشهد التالي يضعنا أمام إشكاليّةٍ مفاجئة:
(وعلى الفور أمسكت بورقة وقلم وبدأت بكتابة الفقرة الأولى).
ثمّة نصّ آخر جديد يتكوّن إذاً. نصّ يولد في نصّ.
3ـ النصّ في النصّ: ونعني به النصّ الجديد الذي تحوّل النصّ الأوّل (عجز المؤلّفة) إلى رحمٍ له. النصّ الأول كان برواية (المؤلّفة) التي قتلنا شخصها، فأضحت مجرّد شخصيّةٍ تروي. لكنّها الآن تنهض من رمادها، لتستعيد دورها مؤلّفةً لنصّ جديد. مؤلّفةٌ تموت. وأخرى تعيش.
النصّ الأوّل يبدأ هكذا: (كان يقف أمامي...).
والثاني يبدأ: (الرجل حبيبي يقف أمامي...).
مؤلّفتان، إحداهما خلعت لحمها ودمها، لتكون كائناً من ورق. وأخرى تنهض من الورق، لتسوّد الورق، فِعْلَ الأشخاص الذين هم لحمٌ ودم.
تناقضٌ يفضي إلى صراع. كما لو أنّ الورق لا يتّسع لكلتيهما. ولذلك كانت كلّ منهما تسعى إلى إزاحة الأخرى. كلّ منهما تريد لنصّها أن يخنق الآخر.
النصّ يروي حكايةً ما. والنصّ الذي فيه يحرّفها. يروي الحكاية بطريقةٍ خاصّةٍ تكتسب معها وجوداً آخر شديد الاختلاف. النصّ في النصّ مرتبطٌ بمضيفه، ومستقلّ عنه في آن. مرتبطٌ به لأنّه يستمدّ مادّته الأوّليّة منه. ومستقلّ عنه لأنّه يعيد صياغة هذه المادّة على نحوٍ تفقد معه خواصّها الأصليّة، لتصبح مادّةً جديدة. ولذلك كان النصّ في النصّ نصّاً قائماً بذاته.
صراع النصوص:
بالعودة إلى الصراع بين النصّين (النصّ، والنصّ فيه) نجد أنفسنا أمام مأساةٍ مركّبة. ثمّة مأساةُ المرأة التي يروي النصّ حكايتها مع زوجها المتسلّط. وثمّة مأساةُ المؤلّفة في النصّ الآخر الذي تكابد كي تستعيد وجودها عبره.
في النصّ الأوّل يعود الرجل إلى منزله في وقتٍ متأخّر. وبطريقةٍ مهينة يوقظ زوجته الحامل لتحضّر له طعاماً. لكنّ الزوجة وقد جرحتها الإهانة ترفض أن تنصاع لأمره، فاحتدم بينهما شجارٌ عنيف، تعرّضت خلاله إلى صفعةٍ قويّة أطاحت بها أرضاً. يرتطم رأسها بكرسيّ خشبيّ، وينزف منها دمٌ غزير يلطّخ ثوبها الأبيض الجميل. الزوج يتركها، وهي تئنّ وتطلب النجدة بعد أن أخذت تنزف من الأسفل أيضاً، وينصرف إلى الهاتف ليجري اتّصالاً مع إحدى عشيقاته.
إنسانيّاً: لديك الكثير مما يبرّر مشاعر التعاطف التي يمكن أن تتملّكك تجاه المرأة.
وفنّيّاً: لديك الكثير أيضاً ممّا يمكن أن تبرّر به أيّ شكوكٍ قد تساورك.
في النصّ كنّا أمام حالةٍ تكاد تكون نمطيّةً في كثيرٍ من الكتابات التي تنتجها المرأة العربيّة في تناولها لعلاقتها بشريكها في الوجود (الرجل). ثمّة المرأة الضحيّة، الضعيفة، المغتصبة، المعتدى عليها في كرامتها وحرّيّتها وإرادتها وسائر حقوقها. وثمّة الرجل المتسلّط، المتجبّر، المتكبّر، المتضخّمة ذاته إلى حدّ فقد معه كلّ حسّ بإنسانيّة الآخر. صورةٌ هي هي في معظم ما يكتب حول طرفي العلاقة في مجتمعاتنا.
قد يكون ذلك هو الواقع فعلاً. والأكيد أنّه كذلك في جانبٍ كبيرٍ منه على الأقلّ. ولكن، متى كانت القصّة (والفنّ عموماً) مجرّد نسخٍ للواقع؟.. للفنّ اشتراطاته، وقوانينه، وهو بخضوعه لها مطالبٌ على الدوام ألاّ ينظر إلى الواقع بعين المؤرّخ، أو المصلح، أو الواعظ.. الظلم الذي تتعرّض له المرأة في مجتمعاتنا أمرٌ بيّن، ولكن أين الفنّ في نصّ لا يصنع أكثر من أن يروي حكايةً أخرى من الحكايات التي تمثّله، مهما كانت درجة بشاعتها وقسوتها؟..
النصّ (عجز المؤلّفة) يروي حكايةً من هذا النوع، وبهذه المواصفات. لكنّ حكماً عليه بالاقتصار على ما ينطق به هو ذاته فيه إجحافٌ له.. إنّ نصّاً آخر فيه يستصرخنا للنظر فيما ينطق به أيضاً..
l (كان يقف أمامي فارداً قامته بلا اكتراث وفي يده سيجارة مارلبورو جديدة)..
النصّ يبدأ بهذا المشهد، حيث:
ـ (يقف أمامي): المواجهة، والاستعداد لخوض جولةٍ جديدةٍ في الصراع.
ـ (فارداً قامته): إحساسه المتضخّم بذاته.
ـ (بلا اكتراث): التجاهل، وانعدام الإحساس بوجود الطرف الآخر.
لكنّ النصّ الآخر يعيد إخراج المشهد على نحوٍ مختلف:
(الرجل حبيبي يقف أمامي بعد أن أطلق شعر رأسه الذي استطال حتى كتفيه وقد أمسك بين إصبعيه سيجارة مارلبورو جديدة).
في الصياغة الجديدة غابت عبارة (بلا اكتراث)، وحضرت بديلاً عنها عبارة (حبيبي). كما غابت عبارة (فارداً قامته) الطافحة ذكورة، لتحلّ محلّها عبارةٌ أخرى لعلّها أقرب إلى عالم الأنوثة الرقيقة الشفّافة (بعد أن أطلق شعر رأسه الذي استطال حتّى كتفيه). ثمّ غابت (اليد) بما تحيل إليه من دلالاتٍ ترتبط بالقوّة والبطش، لتصبح (إصبعين).
l (ثم أخرج ولاّعة فضّيّة من جيبه، وقرّبها من إصبع المارلبورو التي تشبّثت بها أسنانه).
مرّةً أخرى يُعاد إخراجُ المشهد إخراجاً جديداً:
(ها هو ذا يخرج ولاّعته الفضّيّة التي أهديته إيّاها قبل عام من الآن وذلك في عيد ميلاده الثاني والثلاثين ويرفعها إلى فمه كالوردة، يشعل بها سيجارته ويدخّنها على مهل بالطريقة ذاتها التي يشعل بها حواسّي حينما يسحبني ويضمّني بين ذراعيه).
في المشهد الجديد تخلع الأفعال عن نفسها صيغة الماضي: (أخرج، قرّبها، تشبّثت)، لتتحوّل إلى أفعالٍ مضارعة: (يخرج، يرفعها، يشعل، يدخّنها...). أكان ذلك لرغبةٍ دفينةٍ في أن تتواصل الحالة. أن تتدفّق. ألاّ تتحوّل إلى مجرّد ذكريات، أو أحلامٍ منطفئة؟..
ثمّ جاءت الإضافات الأخرى:
ـ (ولاّعته الفضّيّة): في النصّ الأولّ كانت الولاّعة (ولاّعةً) بصيغة التنكير التي تجعلها بلا قيمة، لأنّها تساوي بينها وبين أيّ ولاّعةٍ أخرى. أمّا هنا فهي (ولاّعته) هو، أي المعرّفة به، والتي لا تماثلها، ولا تساويها، ولا تتفوّق عليها بالقيمة ولاّعةٌ أخرى.. النصّ ـ بتعريف الولاّعة ـ أعطاها تاريخاً خاصّاً بها. أخرجها من شيئيّتها، لتكون لها روحٌ مستمدّةٌ من روح صاحبها.
ـ (التي أهديته إيّاها قبل عام...): الولاّعة المعرّفة بصاحبها لم تعد ولاّعةً وحسب. هي هديّة. إنّها العلاقة الطبيعيّة المنطقيّة التي ينبغي أن تربط بين الشريكين. علاقة الحبّ، حيث يحتفل كلّ منهما بالآخر. يشعره بوجوده. بأهمّيّته. بحقّه في أن يكون محبوباً.
ـ (في عيد ميلاده الثاني والثلاثين): ماذا لو اكتفى النصّ بعبارة (في عيد ميلاده)؟. لكنّ التفصيل هنا يحيي العلاقة. يجسّدها في حقائق وأرقام. يعزّز من إحساسنا بصدقها وواقعيّتها.
ـ (يرفعها إلى فمه كالوردة): عبارةٌ من شأنها أن تقضي على جفاف المشهد، كما يمكن أن نشعر به في الصياغة الأولى.
ـ (ويدخّنها على مهل بالطريقة ذاتها التي يشعل بها حواسّي حينما يسحبني ويضمّني بين ذراعيه): التدخين لم يعد مجرّد حركاتٍ آليّةٍ باردة يؤدّيها الرجل، بل أصبحت مناسبةً لاستدعاء لحظاتِ حبٍّ حميمةٍ بين الطرفين.
l ثمّ يأتي المشهد الثالث: (سعل لمرّتين أو لثلاث وبصق على الجدار).
أمام هذا المشهد تجد المرأة المؤلّفة نفسها عاجزةً عن فعل شيء. السعال، والبصاق. كيف يمكن أن تجد لهذين الفعلين مكاناً في نصّها الجديد؟. كيف لها أن تخفي بذاءتهما؟.. المرأة المؤلّفة تتجاهل المشهد برمّته:
(لكنّني لم أدوّن ذلك لأنّه لم يكن شيئاً ضروريّاً يستحقّ التدوين).
l في المشهد الرابع اتّجه الرجل (صوب النافذة وبدأ يدندن بصوته الأجشّ أغنية شعبيّة قديمة).
الأغنية الشعبيّة القديمة تتحوّل في النصّ الجديد إلى أغنيةٍ فيروزيّة. هل حدث ذلك لأنّها شعبيّةٌ أوّلاً (وعي قاصر)، وقديمةٌ ثانياً (ثقافة تقليديّة)؟. هل يمكن أن نفهم ذلك على أنّه توقٌ إلى التغيير؟.. رغبةٌ في التمرّد؟..
النصّان حتى الآن يتشكّلان في مسارين متوازيين، مع فارقٍ صغير. فالنصّ الأوّل يسبق الثاني على الدوام، وبخطوةٍ واحدة. النصّ الأوّل ينقل حدثاً. ثمّ يأتي الثاني ليعيد صياغته. أو لعلّه يقوم بعمليّة تنقيةٍ له ممّا لا يتّفق مع موقف مؤلّفته ونظرتها إلى الحياة. مؤلّفة النصّ الأوّل (أعني راويته) شديدة الالتصاق بالواقع، ويهمّها على الدوام أن تكون أمينةً في تصويره، مهما كانت الصورة مقزّزةً أو قاسيةً أو بشعة. وراوية النصّ الثاني (أعني مؤلّفته) تريد أن تصنع واقعاً جديداً خاصّاً بها. أو هي (على نحوٍ أكثر دقّة) تعيد تشكيل الواقع الذي صوّره النصّ الأوّل، مستخدمةً العناصر المكوّنة له نفسها، ولكن في ترتيبٍ مختلف، وضمن أجواء مختلفة.
نصّان متناقضان. كلّ منهما يريد أن يلغي الآخر. أن يمحوه. ولكن..
موت النصوص:
بعيداً عن صراع النصوص، وبالعودة إلى صراع الشخصيّات تتعرّض المرأة إلى الإهانة من الرجل:
(غير أنّ المرأة الشاحبة ذات البطن المنتفخ والتي لم تكن تشخر في منامها جرحتها إهانته ورفضت أن تنصاع لأمره فاحتدم بينهما شجار عنيف تبادلا على إثره شتائم نابية... ولأن المشهد كان ممتلئاً بضجيج لا يطاق قررت أن أتجاهلهما وأنا أحاول أن أكتب:
"كان حبيبي يتقلّب على سريره لكي ينام").
المرأة المؤلّفة تستخدم هنا عبارة (أحاول). قبل ذلك كانت العبارات المستخدمة من نوع: (وعلى الفور أمسكت بورقة وقلم..، فكتبت..، فدونت التالي...). أفعالٌ مباشرة وسريعة. ثقةٌ في النفس ووضوحٌ في الرؤية. أمّا الآن فثمّة تردّد، أو على الأقلّ تفكيرٌ وإجهادٌ للنفس.. الأمر الذي تؤكّده العبارة التالية:
(لكني شخبطت عليها لأكتبها بشكلٍ أكثر دقة، وأنا أركز على الورقة: "وفي محاولة جادة منه للنوم، تقلب حبيبي على سريره...").
الكتابة تمحو نفسها بنفسها. تنهار. ولكي تنهض على قدميها ثانيةً فهي بحاجةٍ إلى طاقةٍ إضافيّة تستحضرها عبر التركيز على الورقة. ضجيج النصّ الأوّل يشوّش على مؤلّفة النصّ الثاني. اللحظات الأولى للانتصار.
ومع اشتداد الضجيج في النصّ الأوّل (الصرصور الضخم ـ يشوّش على حاسّة البصر، رنين الهاتف ـ يشوّش على حاسّة السمع، رائحة البصل الأخضر وبراز الأطفال الرضّع ـ يشوّش على حاسّة الشمّ) تبدو الكتابة فعلاً مستحيلاً. لقد تعطّلت الحواسّ. انقطعت إمكانيّة التواصل. وقد جاء نفاد الحبر تعبيراً كنائيّاً عن ذلك كلّه:
(بدا وكأن الحبر سينفد، وكأن أحرف الكتابة قد صارت باهتة فهززت القلم عدة مرات قبل أن أواصل: "همس في أذنها بشاعرية أخاذة...").
نصّ يحتضر. نصّ يكتبه الحلم، ويمحوه الواقع.
(كنت سأكتب ذلك، كنت سأكتبه قبل أن ينتهي الحبر، كنت سأكتبه لأتخلص من ألم الكتابة عنه، لكني لم أستطع أن أدون شيئاً من كلامه، ولم أستطع أن أصل إلى نقطة النهاية).
المرأة في النصّ الأوّل تموت، أو هي في طريقها إلى الموت، لكنّ النصّ باق. وفي الثاني يموت النصّ، وتحيا المرأة / المؤلّفة. مؤلّفةٌ، ولا نصّ. ورقٌ، ولا كتابة.
النهاية كانت مأساويّةً في الصراع بشقّيه. الصراع بين الرجل والمرأة في النصّ الأوّل. ثمّ بين النصّ والنصّ الذي فيه. موت..
كلام النصوص:
في محاضرةٍ له يميّز الروائيّ والناقد الفرنسيّ (ألان روب غرييه) بين نمطين من الكتّاب. النمط الأوّل يمثّله كاتبٌ فهم مشكلات العالم وراح يتحدّث لكي يعبّر عنها ويفسّرها..، والنمط الثاني يمثّله كاتبٌ بدأ الكتابة تحديداً لأنّه لا يفهم ما الذي يحدث. أمّا فيما يخصّه هو فيقول: (في الكتابة ثمّة أمرٌ يأتي ويوقفني في مواجهة العالم. هناك شيءٌ في العالم لا أفهمه، وأنا عاجزٌ حتّى عن صياغة عدم فهمي له. هناك مسافةٌ. هناك هوّةٌ بين العالم وبيني. ولهذا السبب، بالتحديد، أتكلّم).
ثمّة عجزٌ إذاً يعاني منه الكاتب المعاصر، وهو عجزٌ ـ كما يمكن أن نستنتج من كلام ألان روب غرييه ـ يتبدّى على مستويين:
ـ عجز عن الفهم: وهي حالةٌ يمكن للمرء أن يقدّرها، لأنّه ما من شخصٍ لم يعايشها في لحظةٍ من اللحظات، أو موقفٍ من المواقف.
ـ وعجز عن التعبير عن حالة عدم الفهم: وهو ما ينبغي أن يستوقفنا قليلاً، لا لندرة حدوثه ـ فهو كالنوع السابق من العجز يتكرّر كثيراً ـ، بل لما رتّب عليه ألان روب غرييه من نتائج. ذلك أنّ ثمّة عجزاً عن الفهم، وقد بلغ من الحدّة والعمق مبلغاً أعجز صاحبه حتّى عن التعبير عن إحساسه به. ومع ذلك، بل ربّما بسبب ذلك، يندفع ألان روب غرييه إلى التعبير. حسناً. فما الذي كان يسعى إليه وهو يعرف سلفاً أنّه عاجزٌ عن الفهم أوّلاً، وعن التعبير ثانياً؟.. كيف يغامر بكتابةٍ يحكم عليها مسبقاً بالإخفاق طالما أنّها مرهونةٌ بالعجز؟..
في (عجز المؤلّفة) كنّا أمام مقاربةٍ فنّيّةٍ لإشكاليّة العجز في مستوييه. في النصّ الأوّل حكايةٌ ما. وفي الثاني مؤلّفةٌ تراقب. لكنّها لا تستوعب. حكايةٌ لا يمكن فهمها، أو تفسيرها. ما من قيمةٍ أخلاقيّةٍ أو إنسانيّةٍ يمكن أن تبرّرها. كان ذلك هو المستوى الأوّل للعجز.
ثم جاءت الكتابة، لتعيد صياغة الحكاية. لتنقذ الضحايا فيها من جنون الظلم والاضطهاد والجهل. لكنّ العجز في مستواه الثاني يحول دون اكتمال هذه الكتابة.
وبسببٍ من هذا العجز (في مستوييه معاً) جاء (عجز المؤلّفة). (عجز المؤلّفة) حصيلة عجزين: عجز عن الفهم، وعجز عن التعبير. (عجز المؤلّفة) لم يكن يتحدّث عن رجلٍ وامرأة. الرجل والمرأة فيه مجرّد شكل. أو قُلْ: هما مجرّد هامش. هو نصٌّ (في الكتابة). كتابةٌ في الكتابة. لغةٌ في اللغة. نصٌّ في النصّ.
(عجز المؤلّفة) لم يكن ينظر إلى الخارج. عينه كانت نحو الداخل. كان يتأمّل ذاته وهو يُكتَب.. ثمّ يُكتَب.. ثمّ يُمحى...
وهو في النهاية حمل عنوان (عجز المؤلّفة)، أمّا (عجز المرأة) فعنوانٌ لنصّ آخر توهّمناه نحن. (عجز المرأة) هو النصّ الذي كتبناه نحن، وها هو يضيع منّا في البياض. نعم. العجز هو عجز المؤلّفة. العجز الذي يعني (المحو / الموت). والمؤلّفة التي تعني (الكتابة / النصّ).
ـــــــــــــــــــــ
عجز المؤلفة
ـ روضة البلوشي
كان يقف أمامي فارداً قامته بلا اكتراث وفي يده سيجارة مارلبورو جديدة.. وعلى الفور أمسكت بورقة وقلم وبدأت بكتابة الفقرة الأولى:
"الرجل حبيبي يقف أمامي بعد أن أطلق شعر رأسه الذي استطال حتى كتفيه وقد أمسك بين إصبعيه سيجارة مارلبورو جديدة".
ثم أخرج ولاعة فضية من جيبه وقربها من إصبع المارلبورو التي تشبثت بها أسنانه فكتبت:
"ها هو ذا يخرج ولاعته الفضية التي أهديته إياها قبل عام من الآن وذلك في عيد ميلاده الثاني والثلاثين ويرفعها إلى فمه كالوردة، يشعل بها سيجارته ويدخنها على مهل بالطريقة ذاتها التي يشعل بها حواسي حينما يسحبني ويضمني بين ذراعيه".
سعل لمرتين أو لثلاث وبصق على الجدار ولكني لم أدون ذلك لأنه لم يكن شيئاً ضرورياً يستحق التدوين.
وفي غياب القمر وبرودة الليل الطويل اتجه صوب النافذة وبدأ يدندن بصوته الأجش أغنية شعبية قديمة وأنا أدندن على الورقة التي اندلق فيها صوت فيروز:
"هالأوضة وحدا بتسهر وبيوت الأرض تنام و تحت قناديل الياسمين انت وانا مخبايين" .
عندما انتهى من نوبة التدخين والغناء شرب كأساً من البيرة الباردة وخرجت كلمة أح من فمه رخيصة وبشكل جنسي فاضح قبل أن يتجشأ ببطء، لم أدون ذلك أيضاً لأنه بدا أمراً كريهاً وغير لائق وكاد أن يسبب لي الغثيان.
تثاءب بطريقة فظة أصدر في نهايتها صوتاً مزعجاً أقرب إلى عواء طرزاني وهو يهرش رأسه وأسفل بطنه المتهدل وكان يجب أن أكتب شيئاً فدونت التالي:
"ها هو النعاس يدب في عينيه المنهكتين فيطبق جفنيه ويعيد فتحهما من جديد ليتحول بياضهما إلى لونٍ أحمر حزين".
نهض باتجاه غرفة النوم فتبعته بهدوء وحذر كي لا يشعر بي وأنا مستغرقة في تدوين الحدث: "حبيبي المنهك ينهض من مكانه بهدوء ويمشى باتجاه غرفة النوم التي لم تكن تبعد سوى خطوات قليلة".
عندما دخل إلى الغرفة لكز جسداً طرياً ومستلقياً على السرير المزدوج وهو يصرخ:
ـ هيا انهضي وحضري لي شيئاً آكله.
فكتبت: "ورغم أنه لم يذق لقمة واحدة منذ الصباح إلا أنه لم يكن يشعر بجوع، لذا ألقى برأسه المثقل على الوسادة وحاول أن يستسلم للنوم غير أنه لم يستطع".
لكز الجسد المستلقي للمرة الثانية قبل أن يقرص الذراع بقوة فتأوهت المرأة التي إلى جانبه ونهضت بصعوبة ليبرز انتفاخ بطنها فيما هي توبخه: آااي.. يا مجرم.
نهرها بانفعال وعصبية: انهضي وكفي عن هذا الشخير المزعج، لم أتزوج بكِ لأجل الفراش فقط، بل لتخدميني أيضاً.
غير أن المرأة الشاحبة ذات البطن المنتفخ والتي لم تكن تشخر في منامها جرحتها إهانته ورفضت أن تنصاع لأمره فاحتدم بينهما شجار عنيف تبادلا على إثره شتائم نابية بدأها هو بقوله الحمارة بنت الحمار، ولأن المشهد كان ممتلئاً بضجيج لا يطاق قررت أن أتجاهلهما وأنا أحاول أن أكتب:
"كان حبيبي يتقلب على سريره لكي ينام"
لكني شخبطت عليها لأكتبها بشكلٍ أكثر دقة وأنا أركز على الورقة:
"وفي محاولة جادة منه للنوم، تقلب حبيبي على سريره ثم على الكنبة، لكن أنهاراً من الأرق بدأت تتسرب من جسده مما جعله يقفز من موضعه قفزة هائلة ليتجه بعدها إلى الكوميدينو حيث وضع هاتفه المحمول وضغط على عدة أرقام بشكل سريع وحاسم".
كان الزوجان لا يزالان يتشاجران عندما جذبها من ذراعها العارية ببطش وقسوة ليوجه إلى وجهها الجميل صفعة عنيفة أودت بها خطوة إلى الخلف حيث فشلت في التشبث بالكرسي الخشبي فارتطم رأسها به وبدا أن الدم الذي ينزف بغزارة سيلطخ ثوبها الأبيض الجميل بلونٍ أحمر بشع.
كان غاضباً جداً وبدأ بتحطيم كل ما أمامه دون أن يتوقف عن هيجانه الحيواني للحظة، قال كلاماً كثيراً عن الماضي وعن أوهام الحب وعن دبلة الخطوبة وسفالة أبيها وإخوتها وقيمة أثاث المنزل والوظيفة الحقيرة والراتب الأكثر حقارة وعن معنى الوطن وعن فاتورة الكهرباء وحذائه البالي وموبايله المسروق وزوجة صديقه المثيرة والملائكة التي تلعنها كل يوم حتى تصبح.
بدا سكراناً ولم أكن متأكدة من حقيقة سكره وإلا كنت قد دونته دون أدنى مواربة، ومع ذلك قررت أن أختبئ أسفل السرير خوفاً من أن يصيبني بأذى شبيه بالذي أصاب المرأة الشاحبة، في تلك اللحظة مرق صرصور ضخم من أمامي فذعرت بشدة وكدت أصرخ ولكني كتمت صرختي المفزوعة وتمنيت لو أغلق عيني وأفتحهما ويختفي كل هذا المشهد المريع معه.
في أسفل ذلك الظل القاتم والذي كانت تفوح منه رائحة بصل أخضر وبراز أطفالٍ رضّع كتبت:
"كان الهاتف لا يزال يرن بإصرار، يرن دون توقف، يرن بتسول وشفقة، وعندما شعر حبيبي باليأس وقرر إغلاقه استجاب الطرف الآخر للنداء لكن دون أن يصدر عنه أي صوت".
بدا وكأن الحبر سينفد، وكأن أحرف الكتابة قد صارت باهتة فهززت القلم عدة مرات قبل أن أواصل:
"همس في أذنها بشاعرية أخاذة، همس لها بصوته الذي يسيل عذباً كالموسيقى وكالإنسانية المفرطة".
توقفت لأفكر بالذي ينبغي أن يبوح به بعد أن رُفعت السماعة، في الوقت الذي كنت أحاول فيه تجاهل نحيب المرأة الشاحبة ذات البطن المنتفخ والتي بدأت تنزف من الأسفل أيضاً وهي تئن وتطلب النجدة لأنها ستموت إن لم يلحقوا بها، طرأ لي أن أتخيل المشهد التالي، فكتبت عبارته المتوسلة إليها:
ـ تعرفين بأني متعب.. وبأني مريض عندما أفتقد عينيكِ.. وبأن كل هذا يحدث لأني أحبك.
كنت سأكتب ذلك، كنت سأكتبه قبل أن ينتهي الحبر، كنت سأكتبه لأتخلص من ألم الكتابة عنه، لكني لم أستطع أن أدون شيئاً من كلامه، ولم أستطع أن أصل إلى نقطة النهاية، خيل إلي بأني أسمع أغنية أعرفها جيداً وكانت تصدر من بقعة ما من الغرفة، كان الصوت الأجش قريباً جداً وكان لرجلٍ يختبئ أسفل السرير إلى جانبي وهو يردد منتحباً:
"هالأوضة وحدا بتسهر وانت وانا مخبايين
مخبايين
مخبايين"
كنتُ أبكي!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
النشر الورقي مجلة روافد
النشر الألكتروني خاص ألف
08-أيار-2021
28-أيلول-2019 | |
06-تموز-2019 | |
26-كانون الثاني-2019 | |
17-شباط-2018 | |
13-كانون الثاني-2018 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |