تحوّلات في ملامح شخصيّة العامل في القصة القصيرة الإماراتيّة
2010-05-01
تستوقف المرءَ على الدوام، وهو يتأمّل التجربةَ القصصيّةَ الإماراتيّة في مختلف مراحلها، ظاهرةُ الالتصاق الشديد بالواقع، والاهتمامِ العميق بالإنسان فيه. وبعيداً عن أحكام القيمة التي تستند إلى معايير قد يقبلها البعضُ وقد يرفضها البعضُ الآخر، فإنّ القصّة الإماراتيّة ـ وقد قطعت هذا الشوطَ البعيدَ كلّه في رصد التحوّلات الكبرى التي عاشتها المنطقة، وملاحقتِها أوّلاً بأوّل ـ قدّمت في النهاية مادّةً غنيّةً يمكن الوثوقُ بها في دراساتٍ تاريخيّةٍ أو اجتماعيّةٍ تسلّط الضوءَ على أحداثٍ أو وقائعَ أو ظواهرَ اعتادت المصادرُ التقليديّةُ لدراساتٍ من هذا النوع إغفالَها أو الغضّ من شأنها.
إنّ القول بأهمّيّة هذا الجانب التوثيقيّ في القصّة الإماراتيّة لا يعني إنكار الجانب الفنّيّ الذي لا نشكّ في أنّ نماذج قصصيّةً كثيرةً قد أولته عنايةً فائقة، لكنّها رغبةٌ في رصد ظاهرةٍ مطّردةٍ، لم تخلُ مرحلةٌ من المراحل التي مرّت بها القصّة الإماراتيّة من بروزها على هذا النحو أو ذاك، وفي هذه الدرجة من الوضوح أو تلك.
وعليه، فإنّ الحديث عن التوثيق في هذه القصّة ليس حكماً عليها، أو تقييماً لها، بل هو مجرّد توصيفٍ من شأنه أن يساعد في فهمهما، أو تفسير بعض الإشكاليّات التي أحاطت بنشأتها، ثمّ استمرّت ترافقها في مراحل أخرى تطوّرت إليها.
وقد يكون من المناسب في هذا السياق أن يشير المرءُ إلى صورة الإنسان العامل، بوصفها مثالاً ناصعاً على طريقةٍ في التعبير عن الواقع، أخذت بها هذه القصّة نفسَها منذ البدايات، واستمرّت معها إلى ما بعد ذلك.
1ـ مرحلة التأسيس:
وبالعودة إلى النماذج المستلهَمة من مرحلة ما قبل اكتشاف النفط يمكن الزعمُ بأنّ خطوط هذه الصورة تركّزت على جوانبَ في شخصيّة العامل تكاد لا تتغيّر. فثمّة الإنسانُ المكافح الذي يصارع أنواعاً مختلفةً من التحدّيات، ثمّ ينتصر عليها بفعل إرادته، ورغبته في الدفاع عن وجوده أوّلاً، وقبل كلّ شيء.
لقد ارتبط العملُ بالحياة، وكان ثمّة تشديدٌ متّصلٌ على أنّ القعود عن العمل لسببٍ أو لآخر يعني الهلاك. ففي قصّة (عاشق البحر) لإبراهيم مبارك نجد أنفسنا أمام رجلٍ عجوزٍ ترك الزمن أثره واضحاً في جسده: (فهذه العروق البارزة والممتدّة كأعمدةٍ خشبيّةٍ في أسقف المباني العتيقة تحكي آثار مقاومة الزمن، والشقوق في الكفّين دليلٌ على أنّها لم تكن تصفّق عاطلةً ولم ينم صاحبها على أريكةٍ وثيرة).. وقد وصلت به شيخوختُه إلى حالٍ أعجزتْه عن العمل، فكان مصيره الموت، وعندما عثروا على جثّته، لم يجدوا في جيوبه ما يدلّ على هويّته.. كان ثمّة ورقةٌ صغيرةٌ فقط (أضاع العرقُ الكثير من بياناتها، وفي خانة المهنة كلمةٌ لم تُعرف بالضبط ما هي. قد تكون "عامل" أو "عاطل").
لقد بدا العاملُ في معظم قصص هذه المرحلة يخوض صراعاً قدريّاً تتعدّد أشكاله، فهو صراعٌ مع الشيخوخة، أو المرض، أو الطبيعة، أو سواها من القوى التي لا يملك الإنسان سلطةً مباشرةً للتحكّم بها أو السيطرة عليها. والمثير في الأمر هو غياب البعد الطبقيّ عن هذا الصراع. إذ قلّما وجدنا نصوصاً تفسّر بؤس العامل بما يمكن أن يتعرّض له من استغلالٍ أو حرمانٍ للحقوق أو امتهانٍ للكرامة. فالبحّار في قصّة (غواية) لعبد الحميد أحمد تتساقط أعضاء جسده تباعاً وهو يتقدّم نحو البحر، إلى أن ينهار عند سقوط الرأس، لتكون تلك نهايته الفجائعيّة. المشهد يبدو لأوّل وهلةٍ فانتازيّاً مغرقاً في اللامعقول، لكنّ دلالاته واضحةٌ مع ذلك، فالبحر استنزف حياة هذا الرجل شيئاً فشيئاً. ولكن من المسؤول؟.. إنّه البحر نفسه: (ثمّة شيطانٌ أو قوّةٌ أو إحساسٌ قاتلٌ يدفعه إلى الماء دفعاً).
2ـ مرحلة التحوّل:
أمّا في مرحلة ما بعد اكتشاف النفط، والتغيّرات الحادّة التي عاشتها البلاد إثر ذلك، وما رافقها من رخاءٍ اقتصاديّ، وانقلابٍ في مفهوم العمل ووسائله ومجالاته، فقد شهدت القصّة عزوفاً عن معالجة قضايا العامل الإماراتيّ لصالح العمالة الوافدة التي أخذت تغزو بأعدادٍ كبيرةٍ شتّى مجالات الحياة، محدثةً بذلك سلسلةً عنيفةً من الهزّات أصابت كيان المجتمع في أعمق بناه وأشدّها حيويّةً وحساسيةً. لقد خلّف ذلك كلّه أثراً بالغاً في حياة البشر وسلوكهم وطرائق تفكيرهم. فراشد في قصة (سقم ـ الخروج عن القاعدة) لمحمّد المر نموذجٌ للإنسان الذي شوّهت هذه المتغيّرات شخصيّته. إنّه يستشعر الكارثة في كلّ ما يحيط به، وقد يبالغ فيطلق أوصافاً جارحةً ولا منطقيّةً على أفواج العمّال التي رآها تغزو مجتمعه: (ماذا ينتظرون من عمّالٍ يدويّين يعيشون كلّ عشرة في حجرةٍ واحدة، ويعملون أكثر من عشر ساعات في اليوم؟. هؤلاء الناس لا بدّ أن يشذّوا جنسيّاً ويخرج منهم المجرمون والمضطربون عصبيّاً والمتوتّرون).
لكنّنا مع ذلك لم نعدم وقفاتٍ تبدو أكثر تأنّياً وهدوءاً تجاه قضيّة العامل الوافد، حيث حاول عدد من القاصّين أن يحرّروا هذا العامل من إطار النظرة الضيّقة التي لا ترى فيه سوى مهنته، ليعيدوا إليه هويّته الإنسانيّة. لذلك وجدنا أنفسنا إزاء نصوصٍ دافئةٍ تسعى إلى الكشف عن ثراء العالم الداخليّ لشخصيّة العامل المهاجر، كما في هذا المقطع من قصة (شتاء) لإبراهيم مبارك، حيث يخاطب الراوي شخصيّة العامل كومار: (عندما تأوي إلى ذاتك يوقظك صدى الذاكرة، تتجسّد في اللاشعور الرغبة والاشتياق لحضن امرأة، تغسل رغبتك وتروّض جموحك..).
أمّا الإماراتيّ نفسه فقد سرقه العمل من حياته، وزجّ به في دوّامةٍ لا تنتهي، بحيث تقطّعت الصلةُ بينه وبين محيطه الاجتماعيّ، فابتعد عن عائلته، وفقد إحساسه بالانتماء، ما ولدّ شرخاً عميقاً بينه وبين الآخرين. لقد كان وقت (حارث بن حميد) بطل قصّة (السيّد غير موجود) لناصر جبران حافلاً بالمقابلات. (اهتماماته كثيرةٌ، وتجارته في ازدياد، حياته سفر، والظفر بلقائه ضربٌ من الحظّ ما لم يكن مرتّباً له مسبقاً). إنّها إدانةٌ قويّةٌ لأسلوبٍ جديدٍ في الحياة لا يجد معه الإنسان متّسعاً من الوقت للقاء أبنائه وأبويه، فضلاً عن أصدقائه.
وفي مطلق الحالات فقد ظلّت شخصيّة العامل نموذجاً ذهنيّاً يمثّل أفكاراً أكثر ممّا يمثّل أشخاصاً واقعيّين. فثمّة العامل الوافد الذي لا تختلف ملامحه وسيرة حياته من قصّةٍ إلى أخرى، وثمّة الإماراتيّ العامل الذي يظلّ هو هو، لا يتغيّر دوره، أو موقعه، أو نوع معاناته.
3ـ مرحلة الولادة الجديدة:
ثمّ جاءت المرحلة الثالثة التي أسّست لها مجموعةٌ من الأصوات الجديدة من الجيل الذي تجاوز آثار الصدمة، واستوعبها، وتفاعل معها تفاعلاً إيجابيّاً لم يقتصر على مجرّد الرفض أو التشكيك، بل تعدّاه إلى محاولة الفهم والاستيعاب والوصول إلى صيغةٍ توائم بين الأصالة التي يجب المحافظة عليها من جهة، وبين الحاجة إلى الانخراط في العصر ومقتضياته من جهةٍ أخرى.
لقد قدّمت قصص هذه المرحلة شخصيّة العامل في معالجاتٍ بدت أكثر هدوءاً، وضمن رؤى أشدّ واقعيّةً ونضجاً وعمقاً. كما أنّ مشاعر الخوف والتوجّس القديمة (المبرّرة طبعاً بحكم الظرف التاريخيّ والاجتماعيّ الذي نشأت في ظلّه) اختفت، لتحلّ محلّها مشاعر أخرى مرتبطةٌ بوعيٍ عميقٍ ودالّ. لكنّ ما لم يظهر واضحاً بعد هو ذلك البعد الذي عانت قصص المراحل السابقة من غيابه، ونعني به البعد الطبقيّ. صحيحٌ أنّ القصّة الجديدة أخذت تعالج مشكلة العامل لا بوصفه نموذجاً، بل كائناً حيّاً، وصحيحٌ أنّ شخصيّة العامل تحرّرت من طابعها النمطيّ (المثاليّ)، وتجسّدت أمامنا شخصاً واقعيّاً من لحمٍ ودم، لكنّ بؤس العامل ظلّ مطروحاً كما لو أنّه قدر، أي دون خوضٍ صريحٍ وواضحٍ في الأسباب والعوامل المفضية إليه. نزعم ذلك رغم الإشارات التي تضمّنتها بعض القصص، كتلك التي وردت في قصة (حفيف المرآة) لروضة البلوشي، حيث يتعرّض فيروز خان سائق حافلة الطالبات إلى شتيمة، (فيفتح عينيه إلى آخر مدى باحثاً من خلال مرآته عن صاحبة الصوت المواربة وهو يعلم بأنّه أشدّ عجزاً من الردّ عليها، فلا يملك سوى أن يذعن للصمت كعادته حفاظاً على ثمن قطعة الرغيف التي يحصلها تحاشياً للطمات الزمن). إنّها إشارةٌ خجولةٌ كما هو واضح، لكنّها تدلّ على وعيٍ جديدٍ آخذٍ بالنموّ تجاه قضيّة العامل سواءٌ أكان إماراتيّاً أم وافداً، وهو أمرٌ لا نظنّ أنّ القصّة في مراحلها السابقة قد تعاملت معه إلاّ على نحوٍ محدود..
ومع ذلك يبدو ضروريّاً عند هذا الحدّ من التحليل والدراسة أن نشير إلى أنّ الوقت ما زال مبكّراً لاستخلاص نتائج نهائيّةٍ وقاطعةٍ حول ما قدّمته الكتابة القصصيّة الجديدة في هذا الموضوع، وذلك بحكم محدوديّة المنجز كمّياً على الأقلّ، فالأمر يحتاج إلى وقتٍ أطول ريثما تتبلور الملامح، وتترسّخ التجربة، وإن كانت المعطيات تشير إلى أنّ ما يحدث ليس مجرّد طفرةٍ تعيشها القصّة الإماراتيّة، بقدر ما هو حصيلةٌ طبيعيّةٌ ومنطقيّة لجهودٍ وتجارب تراكمت، وآن لها أن تثمر شيئاً ما..
08-أيار-2021
28-أيلول-2019 | |
06-تموز-2019 | |
26-كانون الثاني-2019 | |
17-شباط-2018 | |
13-كانون الثاني-2018 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |