عشر سنوات على رحيله / لماذا استمر نزار حاضرا في ذاكرتنا؟
محمد ديبو
خاص ألف
2010-05-02
عندما كان نزار قباني حيّا, كان الجميع يقول بأن شعر نزار لن يصمد بعد موته, وهاهو نزار بعد سنوات على رحيله يفاجئ الجميع بقوة حضوره واستمراره.
يفاجيء الجميع كما كانت قصائده تفاجئ قراءه ونقاده على السواء, وخاصة نقاده الذين كانوا ينظرون إلى شعره بنوع من الاستخفاف والحذر: الاستخفاف لأنهم رؤوا في قصيدته نوع "الشكولاته التي سرعان ماتذوب في الفم" وفق تعبير بدر شاكر السياب, والحذر من جماهيرية تزداد يوما بعد يوم, رغم تحذيراتهم وأرائهم القاطعة بأن الشعر هو ماينظرّون له فقط.
إن السؤال الكبير الذي يسأل : لماذا استمر نزار؟ ولماذا استمرت قصيدته؟ ولم استمر حضوره في الذاكرة العربية؟
أعتقد أن نزار قباني في الشعر يمثل حالة حداثية ونقلة نوعية بامتياز في تاريخ الشعر العربي, حالة تقترب من حالة "الملعونين" عمر بن ابي ربيعة وأبو النواس, هذين الشاعرين الذين خففا اللغة من جزالتها وفخامتها لصالح لغة الحياة والناس, وهذا مافعله نزار عندما خرج على التقاليد الشعرية والحياتية معا, فجعل من قصيدته معادل شعري لحياة الناس, أو معادل شعري لطموحاتهم أو لم يصبون إليه, ففي الوقت الذي كان فيه تيار الحداثة العربي ممثلا بمجلة شعر وأتباعها يبحث عن الحداثة في اللغة وتفجيرها وتنقيتها, كان نزار قباني يبحث عن الحداثة في الناس وحياة الناس, لأنه أدرك أن لاحداثة حقيقية دون الناس, وهنا اختلف نزار مع تيار الحداثة الآخر الذي ترفع عن الجمهور خائضا غمار تجارب حداثية لم تفض إلى شيء, فابتعد الجمهور عن الشعر ولم يكسب هؤلاء الحداثة المزعومة, فخسروا المعركتين وربح نزار معركته, ليكون بذلك حداثيا حقيقيا إلى جانب الراحل محمد الماغوط, ورغم اختلاف تجربة الاثنين, إلا أنهما تلتقيا في اقترابهما من الجمهور وإيمانهما بأن الجمهور مفتاح الحداثة, مما يستوجب تقديم قصيدة لا تتعالى عليه ولا تهبط عن مستواها الفني بآن.
والنقطة الثانية, تتمثل بأن نزار استطاع بذكائه الجميل أن يزرع نفسه في كل نقطة من نقاط دمشق, فهو بعثر دمشق ومفرداتها وأماكنها ومقاهيها وياسمينها ونسائها في كل قصائده, بحيث أينما تحركت في دمشق ستصادف نفسك أمام قصيدته التي تتحدث عن هذا المكان أو ذاك, من حديثه التفصيلي في بعض قصائده عن البيوت الدمشقية التي تحولت إلى مقاهي, وحديثه عن مقهى النوفرة وسوق البزورية وروائح الهال واليانسون والنارنج والياسمين التي تعبق في تلك الاحياء الدمشقية العريقة ومحي الدين بن عربي وصلاح الدين والجامع الاموي ورأس الحسين... وهذا الامر أكثر ما نلمحه عندما يأتينا زائر من خارج البلد ونأخذه لتلك المناطق, فنراه فجأة يقول بيت لنزار قباني يتحدث عن تلك الاماكن, وهنا كان نزار ذكيا إذ ربط قصيدته مع امرأة / مدينة متربعة على قلب التاريخ, دمشق التي أسرت قلبه واحتلت قصيدته كما احتل ذاكرتها.
ومن النقاط الهامة أيضا التي جعلت شعر نزار حاضرا,هي أن نزار خاض معركة الحداثة من داخلها, إذ ركز في بداية قصائده على "السوس" الداخلي الذي ينخر وعي الناس ويكبل قواهم, وهذا مابدأه منذ قصيدته "خبر وحشيش وقمر" التي نوقشت أمام البرلمان السوري في الستينات مسببة عاصفة من الازدراء في الاوساط التقليدية بسبب تركيزها على ايمان هذا الشعب بالغيبيات والعادات الاجتماعية السيئة التي تعيق التطور والحداثة, ويضاف إلى ذلك خوضه معركة المرأة من أوسع أبوابها وإن كان البعض يرى أنه شيّء المرأة وسلعها, فهو كان يؤمن أن الحداثة تبدأ من المجتمع من تحرر المرأة وتحرضيها على هذا التحرر ومن نبذ العادات والتقاليد التي تعيق التطور, وكان نزار متفردا بذلك عن مجايليه الذين انتظروا ثورة لم تأت, لأن التغيير يجب أن يكون في صندوق الرأس وليس في صندوق الانتخاب فقط, وفق تعبير المفكر جورج طرابيشي.
ولعل الايام تثبت لنا حاليا صحة ماذهب إليه نزار, إذ نجد أن المجتمعات العربية في كثير من الاحيان هي التي تقف عائقا أمام التطور والحداثة بسبب سيادة الفكر التقليدي, فأغلب دعوات التكفير ضد المثقفين تخرج من المجتمع لا السلطة, والذي حمل سكينا ليحز رقبة محفوظ لأنه كتب "أولاد حارتنا" هو ابن مجتمع مغرق في تقليديته.
ولعل أهم النقاط هي حديث نزار المركز في قصائده عن الحب والعشاق, فهذا الموضوع الذي كتب به الشعراء منذ العصور, يبقى موضوع كل عصر وكل زمان لأن العشاق يتناسلون كما يتناسل البرامسيوم بالانشطار, وسيبقى العشق حاضرا وخالدا مادامت الحياة موجودة.
استطاع نزار أن يقارب مسألة الحب بلغة وحساسية جديدة لم يسبق لأحد أن عالجها بمثل تلك الشفافية والعذوبة, مستخدما لغة وسطى قادته إلى قلوب الكبار والشباب والمراهقين, ومازلنا حتى الآن نجد عاشقا شابا يهدي حبيبته قصيدة أو ديوان شعر لنزار, فهذا إن كان يعني شيئا فإنه يعني أن نزار انتصر على تكهناتنا, لأنه آمن بالحياة والانسان بينما آمن الحداثيون الآخرون باللغة وحدها دون الناس, فكان "أن حفروا في أرض بور فلم تطلع لهم الحنطة" وفق تعبير نزار نفسه.
×××××××
نقل المواد من الموقع دون الإشارة إلى المصدر يعتبر سرقة. نرجو ممن ينقلون عنا ذكر المصدر.
ألف