مدخل إلى شعر فرج بيرقدار
خاص ألف
2010-05-26
إشارة:
كتب هذا المدخل الموجز ليكون مقدّمة لمختارات من شعر فرج بيرقدار ضمن كتاب (من المشهد الشّعريّ نهاية القرن العشرين في حمص) الذي أصدرتُه بالاشتراك مع دار الذّاكرة بحمص عام 2000 ولكن شاءت اللّجنة المشرفة على العمل حينها حذف الجزء المتعلّق بفرج في آخر لحظة، بحجّة كونه في ذلك الوقت قيد الاعتقال السياسيّ. ولم يسبق لي وأنْ نشرت هذا المدخل، أنشره هنا كما في هيئته الأولى أمانةً وتحيّة للشّاعر... الشّاعر... ريثما تتاح الفرصة لقراءة تجربته الشعرية بصورة مفصّلة.
***
من الواضح أن الشّاعر فرج بيرقدار شخصيةٌ اعتادت أن تكون وفيّةً لجميع مكوّناتها الفكريّة والسياسيّة والإبداعيّة، يحافظ على استقلاليّة كلّ مكوّنٍ عن سلطةِ المكوّن الآخر، لا يترك الموقف الفكريّ والسياسيّ يتغلّبُ على الموقف الشعريّ والجماليّ. وإذا كان فرج لا يرى فصلاً بينهما، فهو يرى ضرورةَ عدم تبعيّة الشعريّ للسياسيّ فيه. وهو من الشّعراء النّادرين النّشيطين على أكثر من صعيد، الذين أدركوا الضرورة السابقة، فأوفوا الوعد الذي يقتضيه النشاط الشّعريّ. وقد يكون الفرق بينه وبين غيره من أصحاب (العقائد والمواقف) الذين يكتبون الشّعر أنّه في الأساس يمتلكُ طاقةً شعريّةً متميّزةً، مشبعاً بها، ممتثلاً لقوانينها الدّاخليّة والعفويّة، حمل هذه الطّاقة الكبيرة وواجه بها الطاقات الأخرى، صهر فحوى طاقة الفكر والسّياسة في جحيم الشّعر داخله. أمّا الآخرون – قل معظمهم – فقد دمجوا الشعرَ في السّياسة الدّعائية والشّعاراتيّة، في حين نجا فرج وبامتياز من هذا المطبّ المؤذي بحقّ الإبداع.
وجد فرج في مرحلة السّبعينيات مع عشرات الشّعراء العرب الّذين نسخوا عن بعضهم، وشابهوا نتاج بعضهم، وجد في هذا التّشابه ليقول صوته وحده مستقلاّ عن آثارهم، وهذه السّمة بارزة عنده من حيث قدرته على توليد مواقف شعريّة من العالم والأرض والإنسان مواقف لا تبتذل قيمة الوجدان والروح بل تعلي من شأنهما وتشحن بهما جملة المواقف الأخرى.
ويبدو شعرُهُ مطمئنّاً إلى قدراته: يقترحُ اللغة الخاصّة به والصّورة الفنية المبتكرةَ، وأسلوب التشكيل اللغويّ الخاصّ، يقترح كل ذلك من داخل حاجته لذلك، وليس من حاجة الفكرة والعقيدة اللتين وإن كانتا لا تغيبان عن شعره لكن الأهمّ أنه قادرٌ على تنظيم حضور الفكرة والعقيدة في ميدان اللغة الشعرية فيذهب وراء نداء الشعر أكثر مما يذهب وراء نداء غيره، ويلملم من الحياة والثقافة ما يعزّزُ القدرةَ الشّعريّة لا ما يثبّطها.
هذا يعني على صعيد آخر أن قصائد فرج في معظمها، حتى تلك في مجموعته القديمة " وما أنتَ وحدكَ " تبدو قصائدَ غيرَ مرحليّة وليست محكومةً بما هو زائلٌ. وهذا ما يمنح شعره امتداداً إنسانيّا عبر المراحل، ونادرا ما نجد قصيدةً استهلكتها ظروفٌ راهنةٌ، حتى في قصائده تلك يحرص فرج على تسجيل أثرِ الظّرفِ الرّاهن شعريّا بحيث يعتصر هذا الرّاهنَ ويستنبطُ منه قدر الإمكان عنصرَ الدّيمومة، بالصّورة التي تنتصر فيها القيمة الكبرى على القضايا الجزئيّة.
ومما يلاحظ على تجربة فرج، خاصّةً بعد إصدار مجموعة جديدة له بعنوان " حمامة مطلقة الجناحين " أنّ هذه التّجربةَ قابلةٌ للتّطور النوعيّ وأنها قادرة في أحلك الأحوال وأضيقها، على امتصاص تجربة الحداثة الحقيقية في الشّعر، غير منقطعةٍ عمّا يجري حولها. وفي مجموعته الجديدة التي يفصلها عن مجموعة " ما أنت وحدكَ " ما يقرب من عشرين عاماً، شعرٌ آخر، مختلف عن ماضيه، غير متنكّر له، ولكنه متّجهٌ أكثر فأكثر نحو مساءلةِ الذات في قلقها الوجوديّ، بعد أن حاور هذه القلق عربيا وسياسياً في أعماله الأولى.
تمتدّ قصيدة فرج بيرقدار في تراث روحيّ بعيدٍ، يستدعيه الشاعرُ من أجل خلق أسباب لقوّة الرّوحِ في زمنها المعتقل، وهو لا يخضع للتراث بقدر ما يتحرّكُ هذا التراثُ بين يديه طاقةً متحوّلةً. كما أنّ فرج لا يخضع للقصيدة نفسها بقدر ما يُخضعها له ولإرادته الفنّيّة.
أخيراً. كنا نظنّ أن خريف الجدران السوداء التي سيّجت جسد فرج بيرقدار خريفٌ انتزع منه الورق الأبيض والبوح العالي، لكن فاجأنا فرج في عمق هذا الخريف بصيفٍ شعريّ لا يضاهى بشمسه وفواكهه. وقبل كل شيء بوضوح شمسه وعليائها.
حمص عام 2000
××××××
نقل المواد من الموقع دون الإشارة إلى المصدر يعتبر سرقة. نرجو ممن ينقلون عنا ذكر المصدر.
ألف
08-أيار-2021
02-أيار-2020 | |
15-كانون الأول-2018 | |
10-شباط-2018 | |
04-تشرين الثاني-2017 | |
29-نيسان-2017 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |