Alef Logo
يوميات
              

بيضة مسلوقة

فاديا لاذقاني

خاص ألف

2010-06-15


إلى وفاء...Amiens

فتح السجّان البابَ الأسود. انفتح بابُ جهنم! هذا هو داخلُ "الدّاخلُ إلى هذا المكان مفقودٌ والخارج منه مولود". كأن يداً خفيّةُ دفعتني فانزلقت إليه. خطوةٌ واحدةٌ تكفي لأن تصبح من سكان العالم الآخر الذي لم تكن تعلم حتى بوجوده.
الحقّ أني لم أكن أعرف، إبان توقيفي، أن هنالك مجموعةُ من النساء والصبايا "يعشن" في غرفةٍ لا يتجاوز طولها الأمتار الثلاثة وعرضها كمثل ذلك. إنها واحدةُ من "مزدوجات" كفرسوسة دمشق. ثانيةٌ واحدةٌ قد تخترق عمرك فتلوّن سنواتٍ منه وسنواتٍ. ثانيةٌ واحدةٌ تتحدّى كل ساعات أزمان الأرض أن تستطيع لها وصفاً. بثانيةٍ واحدةٍ أحاطت عيناي بثمانية عشر وجها نسائياُ لثمانية عشر كائناً كأنها هربت من رسم ذهانيّ ضخم يمثل عماءً بيوم الحشر أشبه، كنّ لاصقات بعضهن ببعض كأنهن أكياسٌ رُصّت في قعر عربة نقل فارغة. وجوهٌ غشيتها الصفرةٌ (الحقُ أنه لونٌ كالح بلا لون، لكنه للصفرة أقرب) غائرة العيون، وجوه راحت تستطلعني بنهمٍ بعث البرق في العيون ووسّع حدقاتها رغم علائم السبات الطويل المحيطة بها وبجميع المكان.

طاج/ طج.
أُقفل الباب الأسود. أضحت الحريةُ خلفي.
نطّت المرأة التي كانت جالسةً في صدر الغرفة قبالة الباب عليّ كالمسوسة. اندفعت صوبي كرصاصة، وراحت تدسدسني قطعةً قطعةً دون أدنى حرج، وهي تصدر لهاثاً كالفحيح! كان وجهها عجيباً ينطق بأغرب الملامح. فيه بعض بقايا جدر، وكانت في الأربعين : " بربّك، بربّك، قولي، قولي، قالت رياضُ وهي تزيد لهاثاً وغرابةً وترشق كلماتها رشقاً، تستعجلها كما لو كانت خبأتها في حلقها منذ زمن لازمن له، بربّك، بربّك، هل مازال في الخارج أناسٌ يقطعون الشوارع وسيارات ٌ تجري وحوانيتٌ تُفتًح وأشجارٌ تظلّ وأطفالٌ يولدون وأمهاتٌ حبلى؟" يا إله الشياطين! لفّني الذهولُ وتسمّرت مكاني متحيرةً كأن ما يحدث لايحدث لي أنا. صمتّ برهةً دون أية إجابة. أتراها كانت تنتظر جواباً؟

أجلت ناظريّ بالمكان سريعاً. كتلُ بشرية مكوّمة كأنها طُبقت بعضها فوق بعض. وخيّل لي أن بعضها قد استفاق لتوّه من النوم، لدى فتح الباب ودخولي، وتوقف الآخر عما كان قيد فعله. النافذة صغيرة مسورةٌ بطبقاتٍ ستٍ من الشبك والحديد مختلف السماكة. وفجأة، وقعت عيناي على ما صعب عليّ تصديقه أول وهلة ! بلى، إنها امرأة حاملٌ ينداح بطنها ككرةٍ ضخمةٍ أمامها. كان هزالها مفرطاً وشحوبها مرعباً. كانت ترتدي ثوباً عريضاً بين الفستان والعباية، ممزقة حواشيه السفلى.
_ أنت أكيد لست إخوان، لماذا أمسكوا بك؟
وراحت الأسئلة تهطل من كل حدب وصوب.
_ "آه، كم أودّ النوم" كنت أقول لنفسي وأنا أجبرها على التجمّل بالصبر حالمةً بالساعة التي سأخلد فيها إليه. (عن النوم، عن النوم ربما أحدثكم فيما بعد)
أسئلة...أسئلة...أسئلة..

طاق طاق/ طق
فٌتحت كوةٌ صغيرةٌ لم ألحظ وجودها من قبلُ في منتصف الباب الأسود، وراحت تُقذف أرغفة الخبر قذفاً، واحداً تلو الآخر بسرعة آلة، ثم أتى الصوتُ الآمر الغاضبُ القاطع "خدوا الأكل". ورأيت الطبق الأول فالثاني يخترقان الكوّة فكأنهما يعبران المسافة على كتف جنيّ. تلقفتهما يد الصبية الواقفة عند الباب.
بدأ أول درسٍ لي في تعلم ألفاظ الأبجدية الجديدة. "السّخرة" وبسرعة البرق، راحت مجموعة السخرة تلمّ الأغطية الخشنة عن أرض المزدوجة. ووُضعت بطانيةٌ منها في المنتصف كفراش طاولة عالم الحرية. تجمع الجميع حولها وانهمكن في تفريغ الخبز العسكري السميك (فلا شيء لا يُحتفظ به هنا)، ثم تفتيته إلى لقيماتٍ صغيرةٍ كن يلقينها في الطبقين. وُضع طبقا شورباء العدس في المنتصف وتحلق الجمع وبسملن إلا ثلاث (سأصبح رابعتهن) وبدأن الأكل.
كانت الشورباء كأنها ماء لُوّن بأخضرَ قميءٍ لا يشبه أي أخضر لا من قبل ولا من بعد. قلت إني غير جائعةٍ ولا أريد أكلاً، فتتركنني لشأني وبعضهن يبتسمن ابتسامة العارف بالأمور.
كنت قد وصلت إليهن مساءَ أحد أيام تشرين ثانٍ، في العاشر منه، الساعة السابعة والثلث. بعد تجوالٍ في اكثر من قبوٍ دام يومان.
في اليوم التالي، تكرر المشهد نفسه وقت الفطور والغداء والعشاء. ماعدا خلو الإفطار من الطبقين الكبيرين، الحفلة نفسها، الطقوس نفسها.
طاق طاق/ طق تُفتح كوة الباب الأسود، يدٌ خفيةٌ لسجانٍ لايُرى تقذف بالأرغفة سراعاً واحداً تلو الآخر، فتتلقفها أيدي السخرة التي كانت تتهيأ لهذا عند الباب، محاولةً تفادي وقوعها الأرض قدر الإمكان، ثم تأتي الشورباء، شورباء العدس..............
هذه الشورباء لا تشبه أية شورباء. أقلت شورباء عدس؟ هل قلت عدساً؟ ماء الشورباء منفصل عن هيكلها، فلا قوام لها. أقلت عدساً؟ بالكاد يُستطاع أن يجس بالملعقة في القعر بضع حبات عدس أو مايشبهها، ثلاث، أربع، أ م تُراها كانت خمساً في قعر كل طبق من طبقي البلاستيك الكبيرين الكريهين؟ كانت "الأخوات" يفتتن الخبز بهذا الماء الشورباتي وهن يرددن "كان الرسول يحب الثريد ويأكله قائلاً " بارك الله في الثريد".
هذه شورباء العالم الآخر.
ستة أيام تواصلت الشورباء. المشهد نفسه.
طاق طاق/ طق الأرغفة المنقذفة، طبقا الشورباء البلاستيكيان الكريهان. ويتردد ، كما كل يوم، أكثر من صوت " تعالي كلي، بعدك ماجعتي؟، ثم إنك في مرحلة التحقيق"
ستة أيام متواصلة، وأنا لم أشاركهن أية وجبة [الشورباء وجبةٌ ملكيةٌ ترافق الكبة في بيت أمي]. " شكراً، لست جائعة" كنت أرد على الداعيات.
قالت الحجة مديحة " اتركنها وشأنها، فسوف تقدم من نفسها وقت تهلك جوعاً وتدرك أن هذا طعامنا ولا طعام لنا غيره". أما أنا فكنت ككلّ "داخلٍ" جديد، أحاول استيعاب ما لا يمكن استيعابه.

أتى اليوم السابع. تردد أكثر من صوت " سوف تهلكين من الجوع، تعالي كلي". كنت قد لحظت عند العتبة (أقول هذا تجاوزاً، إذ لم يكن لمزدوجتنا صدر ولا عتبة، لا الأسماء هنا هي الأسماء ولا الأمكنة هي الأمكنة) "كرتونة ً" من البيض موضوعة ً بعنايةٍ فائقة ألاّ تدوس عليها رجلٌ ضالّة في الذهاب والإياب من المرحاض (شبيه المرحاض) وإليه، وهي حركة لا تنقطع قطُّ طوال ساعات اليوم بدقائقه الأربعين وأربعمائة وألف. وكان إلى جانب الكرتونة " وابور كاز". استحيت من الإلحاح، فقال لساني بشكل عفوي " لا تهكلوا همي، إذا جعت آكل بيضة مسلوقة"
وكأن عفريتاً مسّ كل من كانت في المزدوجة. فما أن أنهيت جملتي حتى انفجرن بضحكٍ عالٍ كأن كلماتي فتحت عنق زجاجته الحبيسة في ضلوعهن. عاصفة من الضحك الهستيري الماجن الشرير متعالي الصوت لحظة بعد لحظة. ضحك، ضحك، ضحك لا ينتهي، وهاهي تمتزج بعض الضحكات فتتحول إلى مزيجٍ غريبٍ وحشيٍ من الضحك والبكاء والحشرجة. أضحى المشهد في غاية العبث بالنسبة لي، إذ ليس فقط لم يكن ليسعني مشاركتهن الضحك، بل وغمر كياني ذهولٌ عميقٌ لم أعد معه أفهم شيئا من شيء، " يالها من دعابة سمجة. لماذا يضحكن؟ وما بالهن لا يهدأن عن الضحك؟ أغزت وجهي علائمُ مضحكة في الأيام الأخيرة لا أراها؟ أم هي نكتة عابثة تفوهت بها إحداهن على غير درايةٍ مني؟ ولكن لم يتكلم أحد بعدي. أتلقى النكات هنا همساً فغافلني همسُهن؟ أم تراني جئت عن غير قصد بكلمة سحرية أو نطقت بشيفرةٍ مجهولةٍ ما أن يسمعنها حتى تنبعث منهن جميعاً أصوات الضحك العابثة المجنونة غير العابئة بخجلي وارتباكي؟ وهاهنّ يشرقن بضحكهن ويتابعن النظر إليّ غير مكترثات لأحاسيسي، وكأن أياد خفيةً تداعبهن جميعاً من خصورهنّ فلم يعد بإمكانهن التوقف عن الضحك! ضحك. ضحك. ضحك.

طاق طاق/ طق.
فُتحت الكوة بعنف كـأنه الرّعد، وصاح صوتٌ غليظ سميك أجش " اخرسوا ياشراميط ". وللحال عمّ الغرفة سكون مبين.
أما أنا فقد تمنيت أن تبتلعني الأرض مع أحاسيسي بالحرج والضيق والغيظ والقهر. وبقيت صامتةً لا أعرف للأمر تفسيراً لابثةً في حيرتي أسائل نفسي إن لم يكن بهنّ مسّ من المقام الطويل؟ وأو يمكن للإنسان أن يتحلل إلى مركباته الأولية فينقلب إلى حيوانٍ أبله أو شرير؟

أخيراً بعد لحظات خلتها بلا نهاية جاءني الجواب. كانت الضجة قد هدأت تماما ً تماما ً بعد البهدلة، وكأن واحدة منهن لم تشارك في الضحك قبل لحظات. اكتست الوجوه ثانيةً شكل الأكياس البشرية، وغرق بعضهن في سكون عميق مقيم.

راحت منيرة تشرح لي : " اسمعي يافادية، نحن صار لنا في هذا المكان سنة ونصف السنة، الزيارات ممنوعة، قالت مشيرة ً إليهن، قبل أن تتابع : " وقبل مجيئك بخمسة عشر يوماً فقط، وبعد مطالب من قبلنا على مدى أشهر طويلة لتحسين عيشنا وطعامنا، سُمح لنا بالتنفس ثلاثة أرباع الساعة، منها نصف ساعة في الباحة بعد اقتطاع زمن الذهاب والإياب، سمحوا لنا أيضاً بالوابور وببعض المشتريات إن كان لدينا نقود. أول ما طلبناه كانت كرتونة البيض هذه التي ترينها، ثم مناديل نسائية وبعض البهارات لتحسين الطعام. كرتونة البيض هذه تأخرت وتأخرت، وكنا نظن أنها وصلت، كلما سمعنا ال طاق طاق/طق. ثم وصلت قبل مجيئك بيوم واحد فقط وحسبنا انتظارنا لها فكان أربعة أشهر، وهكذا احتفينا بوصولها كعروس وزغردت الحجة مديحة محيطةً فمها بكفيها.........ولكن... وسكتت منيرة قليلاً قبل أن تضيف وعيونها تسهم في اتجاه لا يتقاطع مع عينيّ : " لكن البيض ليس للجميع، إنه مخصص حصراً لأديبة الحامل، فقد نزفت ومعها فقر دم. على أية حال، هذا كل ما استطعنا شراءه لها"

رحت أرسم في مخيلتي صحن بيضٍ مسلوقٍ، مما تصنع أمي، مقطّّعٍ بكل عناية مع النعناع والبصل الأخضر وربما بعض البندورة وأحياناً الطرخوم، وأنا أندفع في تفريغ الخبز مع السخرة، ثم أقبل بنهمٍ عظيمٍ على أكل شورباء الطبق البلاستيكي، ذات الثلاث حبات عدس في القعر، مدفوعةً بجوعٍ بدائيٍ كانت معدتي قد بدأت تعاني منه منذ يومين دون أن أجرؤ على البوح بذلك لأحد.
حدث هذا في اليوم الثامن.



كفرسوسة ، آميان ـ باريس 1985ـ2010


×××××××


نقل المواد من الموقع دون الإشارة إلى المصدر يعتبر سرقة. نرجو ممن ينقلون عنا ذكر المصدر.
ألف















تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

كل هذا الخوف السوري

22-نيسان-2013

هل أتاك حديث الصور؟... حديث القتل في سورية؟

10-شباط-2013

لجميل حتمل في ذكرى نومه الطويل: اثنتا عشرة قرنفلةً وستّ

09-تشرين الأول-2012

بيضة مسلوقة

15-حزيران-2010

فرويد كما رآه الشاعر برونو غويتز في مذكراته

04-أيار-2010

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow