((يارب لا أستطيع ان أفهمك)) الإنسان بين الله و.. جدلية الحياة
خاص ألف
2010-07-12
إن الحديث عن مفاهيم ومصطلحات كهذه مهما حاولنا الاجتهاد فيه فسيبقى ممجوجاً , لأنها أشبعت دراسة وحوارات وألّفت فيها المجلدات الضخمة وأكثرها حيوية في العصر العباسي في القرنين الثالث والرابع الهجريين خصوصاً حينما كانت تعقد الحوارات بكل حرية واطمئنان وسكينة حتى بعضها كان في قصور الولاة , فتلتقي رجالات الفرق الكلامية عامة من المعتزلة والدهريين والمتصوفة والأشاعرة وحتى الزنادقة منهم والملحدين و.. الخ وكانوا يخرجون ليتابعوا أبحاثهم ودراساتهم وندواتهم دون تكفير بعضهم للأخر وإقامة الحد على طرف أو سواه, وكتبهم ورسالاتهم بقيت تتناقل بين العباد والبلاد وتكتب بها ولها الردود بكل حيوية ذهنية .. ولكن ما الذي أصابنا وأصاب ذهنيتنا وعقليتنا حتى ليكاد المرء يحسب أن الكاهن أو الشيخ من أمامه والشرطي من خلفه, ليبقى مزروعاً قبالة أماكن العبادة أو في الساحات يهلل ويسبّح باسم مولاه وأميره ومليكه وبكل أسماء أسره الحاكمة .
و كثيرة هي الأعمال الأدبية التي حاولت طرح هذه الأسئلة الكبرى الهامة إلا أن العربية منها إن حاولت طرحها فبحياء .. أما الأسباب فلن ادخل بتعدادها , ولكن الأعمال الأجنبية تناولتها وبكثير من الحيوية وحاولت جادة رسم ملامح أجوبة دامغة .. كذلك لن أدخل بتعداد الأسباب التي وفّرت هذه الحيوية .. بين يدينا عمل تناول ما ذهبنا إليه وبكثير من الثقة لكاتب أثّر بالكثير من الأدباء والمفكرين وحتى الفلاسفة ..كاتب لن أتحدث عنه لأنه أكبر من التعريف ..إنه الروائي و الفيلسوف والشاعر العالمي نيكوس كازانتزاكيس بعمله " الأخوة الأعداء "
"الأخوة الأعداء" عمل يموج بتلك الأسئلة الكبرى التي تخلّفها حالات الشتات والضياع التي يعيشها الفرد العاقل بين ما هو كائن وما يجب أن يكون وفق الضروريات الأخلاقية التي عرّفها وعرَفها العقل .. عمل يطرح وجهتي نظر لا تبتعدان كثيراً عما ذهبت إليه بعض الفرق الكلامية حول الأمر أو الإرادة , القدرية أو الجبرية , التخيير والتسيير و.. الخ يركّز على الأولى ليمنح الثانية آفاقاً وأمداءً يمكن فتحها من قبل المتلقي ..
وجهة النظر الأولى : والتي تكمن وراء أسئلة كبرى تجيء على لسان فئات عدّة (المقهور , الجائع ,المفجوع , الفنان النحات , الراهب , العاشق , المفكر ) والتي يمكن آن نوجزها بما يلي :
بما أن الله خالق الخلق بكل مكوناته وفق إرادته , وهو الرءوف الرحيم العليم الحكيم السميع المجيب .. الخ , كيف له الله الاسم الجامع آن يترك الأطفال مثلاً تموت جوعاً , والناس تعيش حالات من الاقتتال الداخلي من جهة وخارجي من جهات عديدة والناس كل الناس أليس هم عيال الله ..؟! كيف له أن يترك بقعة جغرافية عظيمة كاليونان أن تتهالك وهي التي مدّت أو قدمت للبشرية ما قدمته .. كيف وكيف أسئلة جمة جداً .
هل كل الذي يحصل بإرادة وعلم ومشيئة الله ..؟! حتماً هنا الجواب بنعم وكبيرة أيضاً , وطالما يحدث ما يحدث بعلمه ومشيئته وإرادته كل هذا ما ذنب الأطفال والنساء والشيوخ الأبرياء وعلى ماذا يعاقبون ..؟! أبجرم ارتكبه الغير .. أليس أن لاتزر نفس وزر أخرى ..؟!
أم لقاء أعمال قاموا بها في أجيالهم السابقة كما يؤمن البعض ..؟! وهل القصاص يا ترى في الحياة الدنيا أم في الآخرة ..؟!
إن كان في الحياة الدنيا فلماذا وكما نرى ونسمع وبشكل يومي أولئك الممعنون في الرزيلة والخيانة بكل معناها وأطيافها ينعمون طوال حياتهم هم وكل ذريتهم برزق العباد والبلاد دون قصاص إلهي دنيوي.. هل يمدّهم مدّا ..؟!
لماذا ولماذا وسيل من الأسئلة التي تسأل منذ بدء الزمان ولكن حاول الروائي أن يجد المبرر لأسئلته هذه من خلال ما عاش وعاشته البلاد :
يا رب ,لا أستطيع أن أفهمك , لماذا تعاقب هكذا بقسوة أولئك الذين يحبّونك ؟ص291
يا رب ! يا رب! حتى متى يظل عدو المسيح أمير الدنيا ص290
يعرف كل شيء وكأنه لا يعرف شيئاً وهو القادر على فعل كل شيء وكأنه لا يقدر
أنا أتأمل العالم يخرج من بين يديك فلا أرى فيه خيراً وأنا أتأمل البشر الذين صنعتهم فيما يبدو على صورتك , لكن هل يمكن أيها الرب أن تكون شبيه هؤلاء البشر ؟! ص197
ماذا فعلت لك اليونان إذاً أيها الإله الذي لا يرحم ؟! ولماذا اخترتها دون ألبانيا وتركيا وبلغاريا ص198.
انظر , انزل من السماء فما جدوى وجودكَ هناكَ في الأعالي إن هاهنا نحتاج لك .. ص117
مات يا أب ياناروس مات (حفيدها) اذهب وقل لمولاك ! ألم يكن لديه قطعة خبز صغيرة يعطيها إياها ص119
العالم لم يعد محتاجاً إلى الرب المصلوب بل يحتاج إلى رب الجيوش , حسبك آلاماً ودموعاً وصلباً فانهض وأنزل إلى الدنيا كتائب الملائكة تحمل إلينا العدل ص354
هذه الجمل والعبارات جاءت على لسان العارف الأب ياناروس أو بحضرته جرّاء الموت الجماعي أو الفردي من شدة الجوع والبرد والحرب ..
إنها صرخة المضطهدين في الأرض إلى الله أم بالله ..؟!
أما وجهة النظر الثانية التي حاول الروائي يقدمها باباً أو نافذة أخرى يمكن الإطلال منها على أسئلة قد تكون استنكارية أيضاً لا استفسارية وتحمل في بعضها أجوبة ما لبعض الأسئلة المطروحة في الوجهة الأولى , والتي مثّلها جواب الله للقسيس ياناروس أو ما تهيأ له أنه الله ..؟!
أنت حر , أنا خلقتك حرّاً فلماذا تريد أن تتعلّق بي ؟ قم يا ياناروس ! دع السجود والركوع واحمل مسؤوليتك ولا تطلب النصيحة من أحد .. ألست حرّاً .؟ غداً اختر طريقك ! ص 207
لتصبحوا بشراً كفى تعلّقاً بأطراف ثوبي كالأطفال الصغار .. انهضوا تعلّموا كيف تمشون وحدكم تماماً .
لنلاحظ كم تحمل وتختزن هذه الأجوبة الافتراضية من موروث وثقافة معرفية وكما قلنا لا تبتعد كثيراً عن مواقف وآراء تلك الفرق الكلامية في ذاك الزمان . وهنا كما اتضح يعيد الله كل شيء إلى الإنسان فالخير كل الخير من عند الله , والشر منك أيها الإنسان فأنت حرٌّ تقرر أي الطريق تسلك .. وهذا جمل وعبارات إنشائية حفظناها لكثرة تردادها بين السائل والمسئول .
كل هذه الأسئلة وجوّها العام تعيدنا إلى مقولة ضرورة الإقرار بأن الله حين أمر إبليس بالسجود لآدم كان أمره شكلياً ولم تكن تلكَ إرادته بالضرورة , لأنه لو أراد له ذلك لكان , لأنه كما كل الموجودات فهي بالنهاية من صنيعته وأيضاً لو أراد على وعظم شأنه أن تنتهي هذه الحرب أو تلك وان تبقى الأطفال بعيدة عن الجوع والحصار والموت لكان له ما أراد , فكل شيء بإرادته.
ويمكن هنا أن تعاد وتسأ ل ذات الأسئلة التي ذكرنا بعضها أعلاه ..
هل الإنسان مخيّر أم مسيّر ؟!
وهل الموضوع هو مفترق طرق وحسب , يستدل إليه الإنسان وفق وعيه المعرفي أو ملكاته العقلية والأخلاقية ..؟! أم أن الله هو الذي خلقه وهو الذي رسم له الطريق وجاء به ليسير عليه بإرادته ومشيئته .. أوليس كل شيء مكتوب لكل مخلوق أو حتى سيخلق في اللوح المحفوظ ..؟!
وفي هذا الإطار يتسع الحديث .. أما القدرية والجبرية فقد ناقشها كتاب ومفكرين كما قلنا كثر ومنهم الدكتور صادق جلال العظم في كتابه نقد الفكر الديني فأكد أنه توجد في الإسلام نظريتان القدرية والجبرية , نظرية القدرية تقول بقدرة العبد على خلق أعماله وأفعاله وهذا ما قالته المعتزلة .. بينما تقول الثانية (الجبرية) أن الله هو خالق أفعال العباد أي الجبرية والأشاعرة كانوا من هذه المدرسة .
أسئلة قلقة حاول الروائي العمل على طرحها من جهة والإجابة عليها من جهة أخرى , إذ ومنذ بداية العمل قال كلمته وفاض معينه قلقاً وإمعانا من حراك مذهل, إذ بدأ روايته بتصوير قرية الكاهن ياناروس الآمنة جداً .. فهي لم ترتكب ذنباً ما .. وأهلها يصومون دائماً في أيام الصيام , ويمتنعون عن اللحم والخمر والسمك يوم الأربعاء والجمعة , وفي يوم الأحد يذهبون إلى القداس ويقدمون و.. و.. الخ واصفاً القرية وأهلها كأنهم على الصراط المستقيم ..
ثم ماذا .. ها هو الله الذي كان لطيفاً بهم عطوفاً يشيح بوجهه عنهم فجأة لتغرق القرية في ظلام دامس مرعب و.. الخ
والسؤال الذي يطول إلى آخر العمل .. كيف ولماذا حدث ويحدث ذلك .. أناس طيبون يحبون الله والناس والحياة .. ولكن ..
ختاماً :
كازانتزاكي .. بلغته التي ترفل شعرية منحت العمل ملامح معبد قديم , أروقته تسبّح بأيقونات ضاق بها الخلق والإبداع فرشحت نحو كهنتها وقديسيها .
عاش وعيّش القارئ في حالات الخوف والقلق والصراخ بوجه القبح الذي امتدَّ طويلاً ..
يمسك المتلقي بيده ويدخله معه إلى البيوت والأحياء والأماكن العامة .. يتأملان الجوع والقهر والظلم والعهر والكفر معاً .. يتأملان الكثير من المناطق المعتّمة والعاتمة فيحاولا تخليصها من العفونة والرطوبة والخروج من أقبية القهر إلى هواء الحرية والشمس المألوفة للكائنات .. لكنهم ينفرون من الكل .. هكذا ناقش كازانتزاكي كل ذلك بتماسك لغوي نصّي لا يخلو من حالات انفعالية لاشعورية والتي هي منعكس لذهنية ثقافية زمكانية حيوية منفتحة ينتمي إليها .
عباس حيروقة
[email protected]
×××××××××
نقل المواد من الموقع دون الإشارة إلى المصدر يعتبر سرقة. نرجو ممن ينقلون عنا ذكر المصدر ــ ألف
08-أيار-2021
07-آذار-2011 | |
18-شباط-2011 | |
09-كانون الثاني-2011 | |
27-كانون الأول-2010 | |
22-كانون الأول-2010 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |