الذّات.. تذْويتها واختزالها
خاص ألف
2010-08-02
لا تستقيم الفلسفة..الرؤية المفاهيميّة للعالم..التفكير في الحياة، دون القبض على ثنائيّة
(الذات - الموضوع)، إذ لا معنى لوجود طرف في هذه الثنائيّة إلا عبْر وجود الآخر، ذلك أنه ما يمنح للوجود معنى هو تقابله و وجودٍ آخر. يٌشتَقّ من هذا الجدل بين (الذات - الموضوع) ثنائيّة أخرى تنتمي إلى الماهيّة الجدليّة ذاتها، ألا وهي ثنائيّة (الأنا - الآخر)، وما يحكم العلاقة بين الذات والموضوع، يحكم العلاقة بين الأنا والآخر أيضاً.
إنّ الذات..ذاتي..ذواتنا هي وحدتنا الخالصة، والوحدة وجود متفرّد، خاص، منذ الولادة وحتى الموت، الوحدة كيان مستقل، روحاً..جسداً..فكراً..عاطفة..شعوراً...إلخ. هي الحياة..حياة كائن معيّن، موجود، ووجوده مستقلّ عن أيّ وجود آخر، هذا يعني: أنّ غياب الذات، غيابٌ للوجود، والعكس صحيح تماماً، فغياب الوجود، غيابٌ للذات كذلك.
لا تعني الوحدة، العزلة بأي حال من الأحوال، فأنْ تكون منعزلاً يعني أن تكون بدون أصدقاء..بدون أحباء..بدون اتصال وتواصل، أمّا أنْ تكون وحيداً فهذا يعني أنْ تكون ما أنت عليه، وتلك هي حقيقة وجودك الإنساني، والإنسان على حدّ تعبير بوذا "يُولد وحيداً، ويحيا وحيداً، ويموت وحيداً".
كتب "باسكال" في كتابه (الأفكار) سنموت وحيدين، وهذا لايعني مطلقاً، سنموت منعزلين.
نحن وحيدون في لحظتي (ولادتنا/موتنا) ووحدتنا الأجدر، تلك القابعة ما بين اللّحظتين، حاضرنا المستمر للنهاية..نهايتنا.
ومما لا شكّ فيه إنّ ولوج هذه الذات يكون عبْر ذات أخرى..وجود آخر، يكون بالنسبة إليها موضوعاً، هكذا، كلّ ذات هي ذات وموضوع، وبالمقابل فإنّ كلّ موضوع هو موضوع وذات أيضاً، فثمّة ذات وموضوع بين كلّ ذات وموضوع.
لكنَّ الذات كوحدة خالصة ترتبط بالموضوع ضمن علاقة جدليّة لا إلغاء فيها، وفقاً للمنظور الذي طرحناها فيه خلال السُّطور السَّابقة، أو على الأقل وفق ما ينبغي أن تكون عليه حال الذات والموضوع، سوف لن تبقى في صورتها السَّليمة هذه إذا ما حدثت مفارَقة تخلخل هذه العلاقة البدهيّة -إن صحّ التعبير- مشوّهة إيَّاها، تحدث المفارَقة عندما تدخل السلطة..أي نوع من السلطة في الذات، لتبدأ تالياً عمليّة تحنيط هذه الذات أو تأطيرها بسِمَة محدَّدة أو حكم محدَّد، فيتمُّ "تشييء" هذه الذات، والتشييءهو بالضَّبط ما يعنيه مفهوم "التَّذْويت"، فأنْ "تُذَوِّت" مرأة مثلاً يعني أنْ تزيل عنها ذاتها ككائن يعقل ويفكّر ويشعر...إلخ، لتختصرها في الجسد فتصير مجرّد كائن جنسيّ "شيئاً"، وأنْ "تُذَوِّت" طالباً بطيء التعلّم على أنّه غبيّ، متخلّف، يعني أنك تحوّل هذا الطالب إلى مجرَّد شخص غبيّ، فتدفع به كي يعيش هذه الذاتيّة التي زُجَّ بها، ليصبح من الصعب عليه أنْ يتعلّم بسرعة وبالتالي يغدو مع الزمن مجرّد ذات غبيّة "شيئاً".
وإذا علمنا أنَّ مفهوم "التَّذْويت"Subjectification)) هو من المفاهيم الأساسية فيما سُمِّي بالدِّراسات ما بعد الكولونيالية (1)، إذ نَظّرَ له الماركسي الفرنسي "لوي ألتوسير" حيث اعتبر أنّ استدخال السلطة في الذات يعني ألا يغدو أعضاء المجتمع الأفراد "ذواتاً" قبل أن "تستدعيهم" قوى المجتمع الحاكمة أو ما يدعوه ألتوسير (بأجهزة الدولة الإيديولوجية)، فالشخص لا يُولَد "ذاتاً" بل المجتمع هو الذي يحوِّل الشخص إلى "ذات"، هكذا، فإنّ مفهوم التَّذْويت عند ألتوسير يشتمل على كلّ من دَفْعِ الشخص إلى إدراكٍ واعٍ ومكتمل، ومُسَيْطَر عليه في آنٍ معاً، فيغدو الشخص في كلا المعنيين "موضوعاً"،هكذا، يُذَوِّت المُسْتَعْمِر الشعوب الأصليّة بأنْ يسمِّيهم همجاً، برّيين، غير متحضِّرين، غير عقلانيّين...إلخ وبهذا يغدون خاضعين للمُسْتَعْمِر بوصفهم "ذواتاً" همجيّة، وهذا هو بالضبط ما فعله المستعمرون الأوروبيّون كسلطة خارجية حيث كرَّسوا كلَّ جهودهم كي يبقى المحليّون في الأماكن التي استعمروها "أطفالاً" بالمقارنة مع حكّامهم الأوروبيّين العقلانيّين، الرّاشدين.
يدفعنا التفكير المطوَّل في مفهوم "التَّذْويت" -كأشخاصٍ ننتمي إلى مجتمعات عربية مذَوَّتة- إلى البحث عن أسباب تشوّه مفهوم الذات لدينا، لطالما أُنْهِكْنا استعماراً وبالتالي "تَذْويتاً"، صُنِّفْنا كمجتمعات نامية فعشنا هذا التّصنيف واعتدناه وألفناه.. صُنِّفْنا كمجتمعاتٍ متخلّفة، طفوليّة لا ترقى إلى عقلانيّة ورشد المجتمعات الغربيّة التي قدَّمت نفسها دوماً على أنها النّموذج الأرقى والطّموح الأهم للبشريَّة، فبتنا نعيش "ذاتيّة التّخلّف" ولم نعد قادرين على تجاوز هذه الذاتيّة النَّاجزة التي استدعانا إليها اللآخر (الغرب المُسْتعمِر - المركزيّ). والطرفة هنا: حينما يريدنا الغرب أن نتحضَّر ونتطوَّر ونتقدَّم "يذَوِّتنا" وفق مقاييسه ورؤيته للتقدّم، كي نرقى إلى مستواه هو..نموذجه هو..معياره هو، هكذا نصبح "ذاتا" كفوءة، جديرة بالاستغلال! وبالمقابل فإنّ ما مارسه الغرب علينا كسلطة خارجيّة من "تَذْويت" لذواتنا، مارسته علينا السُّلط الداخليّة (وما أكثرها وأكثر اللاّءات الأبويّة واستطالة الأبنية الهرميّة لدينا والتي تقزِّم الذات..ذواتنا باستمرار!)، هكذا، صار الإنسان مع التَّذْويت مجرّد "شيء".. كائن يعيش تحت وطأة "التَّذْويت" الدّاخلي والخارجي وما بينهما.
إنّ فكرة المفهوم..أي مفهوم، تتأتّى من عدم قدرة العقل الإنساني على التّعامل و(الكَثرة) بحيث يحيل هذه الكَثرة إلى الواحد دوماً، من هنا نستطيع القول: إنّ مفهوم "التَّذْويت" كمفهوم سيطرة وهيمنة على الذات عبْر تحنيطها..تسميتها واختزالها بشيء محدّد..ثابت..لا متحرِّك..أخير، يحيلنا منطقيّاً إلى مفهوم آخر قد لا يقلّ ضراوة عن مفهوم التَّذْويت، ألا وهو مفهوم "الاختزاليّة" أو الردّيّة(Reducuctionalism) حيث إحالة الكَثرة إلى الوحدة، وردّ التنوّع إلى الواحد، واختزال الذات بعنصر وحيد، أو سِمَة وحيدة، وبالتالي قتل تنوّع الذات..حركتها..حيويّتها وتجدّدها.
تتحوّل الذات مع اختزالها إلى هويّة مطلقة مُحَال أن يُضاف إليها أيّ شيء يجعلها متناغمة والحياة..الكَثرة..الحركة، وبالتالي الزمن بأبعاده الماضية والحاضرة والمستقبلة. من هنا: تتمخّض النظريّات "الدوغمائيّة" القطعيّة، الوثوقيّة، لتؤكّد ذلك النّزوع إلى الاختزاليّة، خصوصاً أنّ (نمط) عقل الإنسان مجبول على الرّد والإحالة واختصار الحياة بكلّ تفاصيلها في الواحد.
ما الذي يعنيه اختزال شخص، مجتمع، شعب، وجود....ذات ما؟؟
إنّ اختزال ذات ما، يعني اختصارها، أي تحويلها من وجودٍ مركّب..متنوّع.. خصب، فكراً، نفساً، شعوراً، عاطفة، جسداً، روحاً...إلخ، من وجودٍ لا مجال لرسم حدوده كونه مفتوحاً على تغيّرات وإمكانيّات لا حصر لها تستحدث باستمرار عناصر ومركّبات جديدة، إلى وجودٍ بسيط (والمقصود بالبساطة هنا، ابتلاع التكوين الخصب والمتنوّع العناصر للوجود..أي وجود، أوّلاً، وردّه تالياً إلى عنصر واحد، وحيد) وتبرز دوغمائيّة الرّديّة أو الاختزاليّة كمفهوم، عند التعاطي مع الوجود..أي وجود، الأشخاص..المجتمعات..الحياة..العالم، من خلال رؤية واحديّة تستند فيها إلى فكرة وحيدة أو عنصر وحيد.
تنطوي هذي الاختزاليّة على معنى التَّسلسل الهرميّ المُسْتَنِد إلى أنّ بعض الحقائق أقلّ أساسيَّة من حقائق أخرى يمكن (إرجاع) الأولى إليها، وهذا يعني: أنَّه هناك مرجع أو منبع لكلّ شيء.
هكذا، تتجلّى ديكتاتوريّة الفكرة أو المفهوم في اختزال الأعداد..كلّ الأعداد في الواحد!
وهكذا أيضاً، اختزل الغرب (المستعمِر- المركزيّ) العالم بتنوّعه وكثرته ليصهره في
"ذاته- وحدته" ثقافة..تاريخاً..علماً.. سياسة..اقتصاداً..فنّاً..وحتى ديناً...إلخ!
وهكذا أيضاً وأيضاً، اختُزِلْنا نحن في أوطاننا ومجتمعاتنا، جمِّدنا في قالب الإنسان، وما الإنسان في الثقافة العربيّة إلا أحد صورتين نمطيَّتين جامدتين: إما (أحسن تقويم) أو (أسفل سافلين)"2"
لذلك كلّه: لا بدّ من عصيان تلك المُفارَقة، المخالِفة للبَداهة التي تشغلنا في هذي السّطور.. بداهة
(الذات - الموضوع)، المُفارَقة التي تحدث عند استدخال السُّلط في تلك البداهة واختراقها لها، حيث تُحَوَّر الذات في علاقتها الجدليّة مع الموضوع، فتغدو مفهوماً ناجزاً.. معطى جاهزاً يُقَدَّم دفعة واحدة بدون مقدّمات ولا انفتاح على نتائج متجدّدة دوماً تبعاً لمقدمات متجدّدة أيضاً، فيُنزع عن الذات حيويّتها وتفرّدها ووحدتها، ليُزَجّ بها في الموضوع، وتغيب بالتالي جدليّة
(الذات-الموضوع) كثنائيّة، لتُخْتَصَر في واحديّة شيْئيّة، في (الموضوع)، وتصير الذات "شيئاً" والشيء كما نعلم لا يَعقل..لا يَشعر..لا يُفكّر..لا يَنبض!!
هامش:
1-يمكن الاطلاع على دراسة "دوغلاس روبنسون" (الترجمة والإمبراطورية: الدراسات ما بعد الكولونيالية، دراسات الترجمة) المنشورة في مجلة "نزوى"، العدد الخامس والأربعون، ترجمة ثائر ديب. (ما الذي تعنيه ما بعد الكولونيالية؟) ص44-45-46-47-48
2- يمكن اللاطلاع على مقالة الدكتور يوسف سسليم سلامة ( الإنسان ) المنشورة في موقع "الأوان " بتاريخ 24 آب (أغسطس) 2008
××××××××××
نقل المواد من الموقع دون الإشارةإلى المصدر يعتبر سرقة. نرجوممن ينقلون عنا ذكرالمصدرــألف
08-أيار-2021
30-كانون الثاني-2021 | |
24-تشرين الأول-2020 | |
03-تشرين الأول-2020 | |
11-نيسان-2020 | |
30-تشرين الثاني-2019 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |