رد على رد / الثقافة الوزارية على مقياس الأهلية والشرعية
2008-04-20
أعتذر عن تلبية دعوة المكتب الصحفي لوزارة الثقافة لزيارته والاطلاع على المنجزات الثقافية؛ وإن كنت أقبل دوما دعوة الأستاذ نجم الدين السمان، مدير المكتب، بصفته الشخصية. وعدم استجابتي لهذه الدعوة لأن معاينة الحال الثقافية لا يكون من خلال الاطلاع على أوراق الوزارة وقراراتها ومقالات السيد الوزير أو مكتبه الصحفي، بل في الشارع وفي الأحياء والبلدات والقرى والمدارس والجامعات، أو حتى من خلف مكتبي (شكرا للفخامة) حيث أستهلك ثقافة وأنتجها، فلا أراني أحتاج للمشاركة في الدبكات الوزارية كي أقول قولي في حال الثقافة.
يمكننا تصور حدوث عجائب جديدة في عالمنا السوري، لكني أجزم أنه لن يكون من بينها قيام مكتب صحفي وزاري بإدانة وزارته أو الاعتراف بفشلها، فهو لم يوجد إلا للدفاع عن الوزير (أي وزير) حتى لو أقيل هذا الوزير بعد ساعات وتمت إدانته القضائية. لهذا لن أضع
كلمتي في مواجهة كلمة المكتب الصحفي كي لا أظلمه، فأنا أقول قولي ممارسا حقي في مراقبة ومساءلة أي من مؤسسات الدولة، أما هو فإنما يقوم بدور وجد لأجله (المقصود دوما المكتب الصحفي وليس السيد السمان أو أي من الزملاء في المكتب). ومن هنا فليس المطلوب مني تقديم البيّنات على آرائي، بل هو واجب المؤسسات تبيان جداول أدائها كي تكسب ثقتنا بأنها تقوم بما نريدها أن تقوم به لنا؛ فأنا (ليس شخصي بل أي سوري) لست بحاجة أو بصدد كسب ثقة الحكومة بل العكس هو الصحيح. وهذا ما حاول المكتب الصحفي القيام به مشكورا من خلال تبيان جودة الأداء الوزاري (رغم التطاول علي شخصيا وهذا من لزوم الرد الرسمي)، مع اعتقادي بأن هذا الرد منسوخ عن نموذج حكومي معمّم قام محرره بملأ الفراغات حيث الاسم والموضوع …الخ.
لكن الغريب في أمر الرد الوزاري على مقالي أنه انبرى يدافع عن الوزارة الحالية رغم أن المقال لا يكترث بأمرها تحديدا، بل يتناول دور وزارة الثقافة طيلة نيّف وأربعة عقود وكيف تم تأميم الثقافة الوطنية ومصادرتها لصالح ثقافة واحدية عليا لا تعترف بتنوع الثقافة السورية وتعددها، ولا تقر للقطاع الخاص الأهلي شرعية الإنتاج الثقافي، بل قامت باحتكار الثقافة أسوة "باحتكار قطاعات أخرى كالرياضة والصناعة والإعلام. لتصير غاية فاعلية الدولة الثقافية ليس إنتاج ثقافة ترضي التنوع المجتمعي السوري بل تحقيقا لمبدأ أن واجب الدولة النهوض بالواقع الثقافي. لهذا نجد أن مقياس هذه الفاعلية، كشبيهاتها من الصناعة والرياضة والإعلام، هو الكم الإنتاجي الكاسد، إن لم نقل الفاسد، وتأمين ضجيج إعلامي للمباهاة به، وهذا طبعا يقتضي التباهي بالكم المالي المصروف، أو المهدور، لإنجاز مثل هذا الإنتاج".
عندما أتناول إحدى مؤسسات الدولة أستند إلى مقياسين: شرعيتها وأهليتها، أو أهلية القيّمين عليها. والمقصود بالشرعية ليس الهيكلية الصورية لتلك المؤسسة بل دورها ومن تخدم؟ وهل هي مؤسسة للسلطة أم للدولة؟ وهل الشعب السوري متمكّن منها: مراقبة ومحاسبة ومعاقبة، أم أنها عاصية عليه؟ وما هي مؤهلات القيّمين عليها، وكيف تمكّنوا من تبوء مناصبهم، وهل جميعهم من نفس اللون في الثقافة والسياسة والاجتماع؟
على ضوء تساؤلات كهذه أرى إلى وزارة الثقافة.
ولهذا لا أعتدّ بعدد المراكز الثقافية العاجزة عن القيام بأي دور ثقافي وطني، بعد أن اقتصر دورها على نشر ثقافة السلطة فقط، أي ثقافة واحدية، وأغلقت أبوابها بوجه ألوان أخرى من الثقافة السورية ما لم تنل موافقات أمنية وسياسية وشخصية مسبقة؛ وهنا يحضرني قول مسؤول رفيع المستوى في الوزارة يبرّر رفضها قبول تمكيّن مثقف سوري كبير (مقيم في سوريا) من المشاركة في نشاط "ما": "إنه يجلس في حضننا وينتف لحيتنا". إن الوزارة تمارس دورا أيديولوجيا وليس ثقافيا؛ مع إقراري بتبدّل هذا الدور الإيديولوجي بين حقبة وأخرى، وقد بات الآن معنيا بنشر الفكر الديني البسيط الذي لا يمكنه أن يرتقي بالثقافة السورية، ما لم نقل العكس. وهذا نراه بوضوح من خلال مشاريع التعاون بين المراكز الثقافية وبين دور نشر إسلامية بحتة، وكان آخرها مشروعا افتتحه السيد وزير الثقافة في مركز المزة (تحدثت عنه في مكان آخر).
إن مقياس المنتوج الثقافي والعائدية الثقافية على هذا الصعيد ليس عديد المراكز الثقافية، مع أهميته، بل مقدرتها على الاستقطاب الطوعي للجمهور وتأثيرها في حياتهم ومعاشهم. ولا يحتاج الأمر إلى تبيان هنا، فالقراء الأعزاء يعرفون أن عشرات النشاطات التي تقام في المراكز الثقافية لا يحضرها أكثر من عشرة أشخاص.
وزارة الثقافة عندنا ليست هي السلطة الثقافية ولا هي التي تشرّع الثقافة، بل هي مُنفِّذة بيروقراطية، لا أكثر، لتوجيهات وتدخلات جهات عدّة. وهنا تكمن ضرورة إصلاح مكانة الوزارة لتصويب أدائها وإكسابها شيئا من الشرعية. واستنادا إلى هذه النقطة لا أعوّل كثيرا على قول السيد الوزير في أن "الثقافة هي فعل شعبي"، على الرغم من أنه يكتسب أهمية بالغة ليس من ناحية جدته فقط بل لجرأته العالية أيضا حين أكمل عبارته (في كلمة له في المركز الثقافي بالمزة) "… وليست فعلا حكوميا"، ذلك لأن تحقيق هذا القول ليس من صلاحيات وزارة الثقافة، إذ ليس بمقدورها السماح بقيام مؤسسات ثقافية أهلية متنوعة ومتفردة ومستقلة عن الثقافة الرسمية الواحدية؛ اللهم إلا إذا اقتصر معنى المؤسسات الثقافية على صالات الفنون التشكيلية. وحتى السماح بهذه ليس من صلاحيات الوزارة وحدها…!!
بالعودة إلى الرد الوزاري وإلى الأرقام الوزارية المصرّح بها بهذا الرد فهي ككل الأرقام الحكومية مجتزأة وليس لها ملموسية في الواقع السوري. فالتباهي بكشوفات مهرجان بصرى لا يحجب تكاليف مهرجان المحبة على سبيل المثال لا الحصر (مع التشديد)؛ مع أن النظر في أمر المهرجانات لا يجوز أن يقتصر على حجم التكاليف من دون تبيان حجم المردودية الثقافية، فأنا أنظر إلى هذه المردودية بالقياس إلى حجم التكاليف والوزارة ترد بصدق كشوفات التكاليف. ومع ذلك لا يستوي الأمر في هذا الحقل إلا إذا أشهرت الوزارة حجم ميزانيتها العامة وسبل التصرف فيها بشكل مفصّل جداً، حينها يكون الجدل حول الأرقام مجديا، وحينها يكون بمقدورنا التحقق وتدقيق الأرقام الواردة في الرد، فعلى سبيل المثال إن رقم "86 كتابا في عقود سابقة" (الوارد في الرد الوزاري) أعتقد أن المقصود به متوسط الإصدارات السنوية منذ عام 1960 حتى العهد الوزاري الحالي وليس مجموع الإصدارات؛ وحتى لو صح التصويب فإن هذه المقارنة ليست منصفة. وهنا لا بد من الإقرار، الذي يشاركني فيه الكثيرون، من أن الوزارة أصدرت كتبا بالغة الأهمية طوال عقودها، لكنها بالمقابل أصدرت عشرات العناوين التي لم تستطع تسويقها حتى حين لجأت إلى تسعيرها جميعها بخمسين ليرة للكتاب الواحد. ولن أتعرض هنا لمسألة الدوريات.
ومباهاة الوزارة بأنها تعتزم نشر 300 كتابا هذا العام، فإن هذا الرقم، على تواضعه من وجهة نظري، لا يدل على الارتقاء بحال الثقافة السورية. فالمقياس هو ازدياد عدد القراء وليس عدد الإصدارات أو حجم المبيع.
وفي هذا الصدد لا أرى أن من واجب الوزارة أن تكون خاسرة، بل واجبها في إطار نشر الكتب يقتصر على رفدها سوق الكتاب بكتب ذات نوعية جيدة وتشجيع القراءة بسبل ناجعة. فالتكلفة الوزارية للكتاب محسوبة من المال العام تبلغ أضعاف تكلفته الحقيقية في السوق، إذا احتسبنا الطاقم الوظيفي المعني وجميع الأمور الأخرى والهدايا والحسومات، ولا يعدّل هذه الحسبة مشاركة الوزارة في المعارض العربية الخارجية، مع افتراضي أن هذه المشاركة يجب أن تكون محض تجارية، أي رابحة اعتمادا على التكلفة الحقيقية وليس سعر الغلاف، لا أن تكون لإثبات حضور الوزارة. فالمال المخصص لتغطية نشر الكتب تم اقتطاعه من المال العام من أجل القارئ السوري وليس المستهلك العربي.
أما كلامي عن حال دور السينما في سوريا لا يبدده ولا يفنده الرد الوزاري (الحصيف!): "ورغم أن حال السينما في بلدان أخرى لا يسر بسبب طغيان وسائل الاتصال، فإن الكاتب لم يسمع بورشة العمل التي أقمناها عن السينما, ولاعن لقائنا بأصحاب دور السينما لمعرفة مشاكلهم مباشرة, ولا عن خطة وزارة لشراء ابرز صالات السينما المهددة بالتوقف, ولا عن اقتراح إعفاءات من كل أنواع الضرائب المترتبة عليها. وغير ذلك من الحلول المتاحة والقابلة للتنفيذ ماديا". فالرد الوزاري، الذي سأتواضع وآخذه على محمل الجد احتراما للوزارة وليس للصياغة "الحصيفة"، لا يغيّر من الواقع السينمائي ولن يغيّر، بل سيزيد الطين بلّة في حال اشترت الوزارة بعض هذه الدور. واحتكار إدارة العرض السينمائي والإطاحة بحال الفرجة السينمائية في سوريا كان قبل "وسائل الاتصال" التي يذكرها الرد، وعدم معرفتي بورشة العمل تلك لا يمكنني اعتباره قولا جاداً، فكاتب الرأي لا يختلف عن عامة الناس سوى أنه عبّر عن رأيه كتابة، ولا يحتاج لا هو ولا ملايين السوريين المرور صبيحة كل يوم على جميع مؤسسات الدولة كي يبنوا رأيهم في أحوال الطرقات والمياه والأسعار و…الخ، ويسألوا هذه المؤسسات إن كانت أقامت ورشات نقاش أنهت بها كلاميا كل مآسيهم.
إن اهتممت بالرد على المكتب الصحفي، وما اشتغلت عليه في المقال المعني ليس بقصد محاربة الوزارة كمؤسسة حكومية أو مؤسسة ثقافية ولا محاربة القيّمين عليها والعاملين فيها، بل محاولة لإظهار حاجتنا إلى إصلاح ثقافي لا يقتصر على تصويب الأداء الوزاري، وإن كان لا يتجاهله. ولو تقصدّت الحرب، وهذا عادة دور الصحفي وليس كاتب الرأي، لما عجزت عن الإتيان ببيّنات تفصيلية دامغة، خاصة وأن وزارة الثقافة من الوزارات التي لا يمكنها أن تخفي حقائق أدائها، كونها على صلة مباشرة مع الجمهور. لكني لا أجد أن إصلاحا في الثقافة أو في أي من قطاعات ومجالات حياتنا يمكنه أن يكون في "النق" على تقصير المسؤولين، فالأمر أكثر جذرية وعمقا من هذا. وهنا أدعو السيد السمان (واستجابة لدعوته أيضا) إلى النقاش في ما أسماه "إستراتيجية" الوزارة التي يقول إنها تسعى إلى تحقيق "نتائج تليق بعراقة الثقافة الوطنية السورية بوجهها العربي وبعدها الإنساني". وأرجو لو يوضح لنا طبيعة دعوته "للمبدعين السوريين بكل أطيافهم للمساهمة في الفعل الثقافي ومناقشة خططها [الوزارة]"، أي كيف يرى سبل مساهمتهم في الفعل الثقافي، وهل يمكن أن تكون دعوته للمناقشة هي على صفحات مجلة شرفات. وهنا آمل أن تخصص مجلة شرفات ملفا مفتوحا (لجميع الناس بمن فيهم ناتفي لحى الوزارة وليس الدولة) ودائما لمناقشة إستراتيجية الوزارة وحال الثقافة السورية؛ وملفا آخر (مفتوح أيضا) للبحث بكيفية تحقيق قول السيد الوزير (الذي أوافقه عليه وأناصره به): "الثقافة هي فعل شعبي وليست فعلا حكوميا".
ملاحظات: مقالي "ثقافة السوق الاجتماعي: الإصلاح الثقافي" نشره موقع ألف مشكورا عن مجلة الحال. وبالمناسبة أشكر موقع ألف والأستاذ سحبان السواح على اهتمامه الدائم والحاضر لفسح المجال أمام مثل هذه الحوارات.
08-أيار-2021
29-تموز-2008 | |
20-نيسان-2008 | |
09-نيسان-2008 | |
13-آذار-2007 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |