من نُصوصِ برلين 3
2010-08-28
يوميّات روما
" يوميّات روما " ، أو " قصائد إيروتيكيّـة " ، هي مجموعةٌ صغيرةٌ من قصائدَ كتبَها الشاعر الألمانيّ غوته ، عن رحلته الإيطاليّة.
القصائدُ نُشِرَتْ في حياته غير كاملة ، ولم تُنشَر كاملةً إلاّ بعد وفاتِه.
بل أن صديقه الشاعر شيللّر الذي كان يصدِر مجلةً أدبيةً في فايمار ،هي" دي هورن" مارَسَ نوعاً من الرقابة ، وطلبَ من غوته الامتناع عن نشرِ إحدى القصائد ، كما حذفَ من قصيدةٍ أخرى.
*
بإمكاننا الآن النظرُ إلى الأمر كله في ظروف القرنين الثامن عشر و التاسع عشـر بألمانيا ، معتبرين دورَ المنصبِ الرسميّ ، والوضعِ الاجتماعيّ ، لغوته ، آنذاك.
هذه القصائد الإيروتيكيّةُ ، متفاوتةٌ في صراحتِها.بعضُها يمكن إدراجُه في ما اصطُـلِـحَ عليه عندنا بـ " الأيريّات " ، مثل قصائده التي تمجِّـدُ بريابوس " المرادفَ اللاتينيّ للأيـــر .
بعضُها يمكن إدراجُه في الشعر الفاضح ، مثل تلك القصيدة التي كتبَها عن فينيسيا " البندقية " مقارِناً بينَ ضيقِ أحدِ أزقّتِها ، وضِيقِ فرْجِ عشيقتِه الإيطاليّة . كأنه يؤكدُ قولَ تلك الأعرابيّةِ:
يريدونه ضَـيِّـقاً ، ضَـيَّـقَ اللهُ عليهم !
بعضُها تُـمْكِنُ إحالـتُــه على السـرد ، مثل تلك القصيدة التي يروي فيها كيف تعطّلت
العربةُ التي كان يسافرُ بها ، فاضطرّ على المبيت في نُزْلٍ . وهناك أقامَ علاقةًً مع فتاة الـنُّـزْلِ التي تسلّلتْ إلى فراشِــه حين انتصفَ الليلُ ، ولم يستطعْ أن يمضي في عملية الحبّ معها بعد أن قالت له إنها عذراء...
وثمّتَ قصائدُ يتحدث فيها عن عشيقتِه الإيطالية التي كلّفتْـه عِشـرتُها ثروةً ، كما ذكرَ صديقٌ له ، وكيف أن تلك الشابّةَ كانت تختالُ وهي في العربة في طريقِها إلى الأوبرا ...
إنه سعيدٌ بأن يروي تفاصيلَ الفراشِ وما يجري فيه ، كأن في الإعادةِ إفادةً ، كما يقالُ.
وهناك كلامٌ عن ضعفٍ جنسيّ كان غوته يعاني منه ، ومن هنا جاءتْ رحلتُه الإيطالية باعتبارها نوعاً من علاجٍ يبدو أنه كان شافياً.
بعد عودة الشاعر من إيطاليا ، تزوّجَ فتاةً في الثامنة عشــرة !
" قصائد إيروتيكيّـة" تُعتبَر من نتاج غوته ذي القيمةِ الشِعرية العالية من ناحية الصنعة الشِعرية ، ويُنظَـر إليها أيضاً باعتبارِها جزءاً من المهمّة التي نهضَ غوته بها باعتباره " محرِّراً " ، وفاتحَ آفاقٍ
في الثقافة الألمانية ، والمجتمع الألمانيّ بعامّةٍ.
صَــيــفٌ بَـرلـيــنــيّ
قطاراتُ الظهيرةِ ...
كان شــيءٌ من الضَّوعِ اســتوائيٌّ
وكانت ســراويلُ النساءِ تكادُ تَخفى
من القِصَـرِ .
الرجالُ مُـدَوَّخونَ الظهيرةَ .
سوف تمتلئ المقاهي بهم.
حتى إذا ضاقتْ أقاموا موائدَهم على العشبِ.
انتظرْنا مجيءَ السبتِ
يوماً بعدَ يومٍ ،
وها نحن الأُلى يمشونَ دوماً رعاةً غافلينَ ...
ألم تجدْنا بأبوابِ المحطّاتِ ؟
النساءُ استرحنَ إلى براري الـعُـرْيِ
أسْــرِعْ
و لا تَـخَـفِ
......................
......................
......................
القطاراتُ استفاقتْ
سـتَصْــفِــرُ ، مرّةً أخرى ، قليلاً
لتحملَــنا
وترمـيـنـا ،
بعيداً ...
حيثُ لن يعوي قطــــارُ !
برلين 04.07.2010
اضطرابٌ جَــوِّيٌّ
تَـخــاطَـفَ البرقُ ليلاً
والبحيرةُ والأشــجارُ غابتْ.
ســماءٌ ليس يسـكـنُــها
ســوى تَـخاطُـفِ هذا البرقِ ...
.................
................
................
ثانيةً
ويقصِفُ الرّعــدُ .
يأتي وابِلٌ هَـطِــلٌ ؛
ويشــربُ النـبتُ أمواهاً مقدَّســةً
وتدخلُ الغرفــةَ
الأرواحُ والورَقُ
ويَخْطِفُ البرقُ ...
في الـمَـبنى الـمُـواجــهِ بانتْ شُــرفةٌ
وبأعراقِ الجِـيرانيــومِ كانَ الكونُ يأتلِـقُ !
برلين 05.07.2010
الـــنّــواقيــس
هنا ، في برلين ، لا تسمعُ النواقيسَ ، إلاّ نادراً ؛ أوّلاً لأنها خفيضةُ الرنين ، وثانياً لأن الكنائسَ والكاثدرائيّاتِ قليلةٌ نسبيّاً.
برلين ، على أيّ حالٍ ، ليستْ مدينةً كاثوليكيةً ، ولا تُـمْـكِـنُ مقارنتُها ، في هذه النقطةِ ، بباريس ، المدينةِ التي تظلّ تئِنّ تحت سطوة الكاثوليكيّة. فرنسا جمهوريةٌ علمانيّةٌ لشعبٍ من المؤمنين الكاثوليك !
يقول بدر شاكر السياب:
بُوَيب
بُوَيب
أجراسُ بُرجٍ ضاعَ في قرارةِ النهَرْ
الماءُ في الـجِـرارِ ، والغروبُ في الشّـجَـرْ
هنا يستعملُ بدرٌ كلمةَ " أجراس " ويعني بها النواقيس. البرجُ هو بُرجُ كنيسةٍ ما .
عندما نُقِلَت، إلى لغتنا العربيةِ ، رواية إرنَستْ همنغواي الشهيرة :
To whome the bells toll
كان عنوانها : لِـمَن تدقّ الأجراس ...
لكنّ " النواقيس " هي الأقربَ إلى روح الرواية .
وعلينا ملاحظة أن همنغواي استعمل الفعل
Toll
Ring وليس
الفعل الأول يعني رنيناً فيه حزنٌ ، أي أنه ليس قرْعاً أو دَقّـاً كما يعني الفعلُ الثاني.
أرى أن العنوان الأقرب إلى روح رواية همنغواي ( المرثيّـة ) هو :
لِـمَـن ترِنُّ النواقيس
أو : لِـمَـن تئِنُّ النواقيس
*
في هذه الضاحية البرلينية ، حيثُ أقيمُ ، ضيفاً شِبْـهَ ثقيلٍ على ابنتي شــيراز ، أدمنتُ الـمشيَ رياضةً ونزهةً ، وفي مساءٍ مبكِّرٍ ، قُبَيلَ السادسةِ ، سمعتُ رنينَ ناقوسٍ خفيضاً. قلتُ لشيراز : لنتبع
الصوتَ . أريد أن أرى الناقوس!
في أعلى مبنىً ، كنتُ أمُرُّ به فلا أحسبُه كنيسةً ، كان ناقوسٌ حقيقيٌّ صغيرُ ، ينوسُ جيئةً وذهاباً ،
ويتردّد صداه بالرغم من السيارات المسرعة عادةً. ظللنا ننصتُ إلى الرنين حتى الخفقة الأخيرة !
برلين 06.07.2010
حــديقــةُ غِــيْـزونــد بْرونِنْ
Gesundbrunnen’s Garden
07.07.2010
مَـصاطِـبُـها (حينَ تَفْرَغُ من نائمِيها )
لها كُلْـحَـةُ الوحلِ.
والنائمونَ الذين مضَوا نحوَ أوَّلِ دُكّانةٍ في الصباحِ
سيأتونَ بالـجُـعَــةِ ...
الصبحُ يفتحُ دفترَهُ في الحديقةِ
كي يكشفَ العشبُ تاريخَهُ
من هشيمِ زجاجٍ
ورائحةٍ لـخُـراءِ الكلابِ
وبَـولِ السّكارى.
كأنّ الحديقةَ مهجورةٌ منذُ أن خُـلِـقَتْ والغُراب ...
كأنّ الذين بنَوا فندقَ " الهوليداي إنّ " جاراً لها
أنكَروا أنّ هذي الحديقةَ تُـسْــمى الحديقةَ
( كانت لهم خِرْبةً أو خراباً )
وقد يُخطىء المرءُ
مِـثلي،
فيأتي ليختارَ زاويةً للتأمُّلِ ...
لكنهم يجمعون هشيمَ القناني ، كما يَقطفونَ الزهورَ
وأعقابَ كلِّ السجائرِ
والإبَرَ ،
العُـلَبَ الورقيّـةَ
والقيءَ ....
................
................
زاويةٌ للتأمُّلِ ؟
جَـــوّابٌ
هذا الصباحَ ، جلستُ تحتَ الخيمةِ الخضراءِ
تحتَ الدّوحـةِ ...
العرَباتُ مســرعـةٌ وعصفورٌ أتى هذي الدقيقةَ ،
كلبُ ســيِّــدةٍ
وسائحتانِ يابانيّتانِ ،
الشمسُ ناعمةٌ
ويَبْلغُني الهديرُ الـمـَعدِنيُّ :
قطارُ شَـحنٍ مَـرَّ تحتَ الجِســر ...
لا ماءٌ
ولا شجرٌ
قطاراتٌ تَـمُــرُّ ؛
الأرضُ حولي ، خَشْـنــةٌ ، بُـنِّـيَّــةٌ
لا عشبَ تحتَ الدوحــةِ
امرأتانِ يابانيّتانِ ...
أهيمُ ، منذُ الفجرِ ، في طُرُقاتِ برلينَ .
......................
......................
......................
القطارُ يظلُّ يحملُني ، كطَــيرِ الرُّخّ .
برلين 09.07.2010
الـنّســـر البْروسِــيّ
كم قِيلَ : نَـسـرُ بْروســيا قد طارَ !
.......................
.......................
.......................
منذُ نهاية الحربِ الأخيرةِ طارَ عن برلين .
لا ندري إلى أيّ الممالِكِ طارَ ، أسحمَ في المســاء .
وهل بنى بالصخرِ والفولاذِ والذّهبِ الـمُـخـبّـأِ وكرَهُ ؟
وبأيّ طيرٍ أو طرائدَ كان يقتاتُ ...
المدينةُ ( وهي برلينُ العجيبةُ ) أغلَقَتْ حتى السّــماءَ ،
وبابَ بوّاباتِها : بْـرانْـدِنْـبَرْغ ، والجســرَ القديمَ .
ولن يعودَ النّـســرُ
نسْـرُ بْروسِــيا ...
*
واليومَ ...
في الصيحاتِ
في الأبواقِ
في الراياتِ
في ما تنفثُ الكُرةُ البعيدةُ ، تلكَ ، من إفريقِـيا
أبصرْتُ ذاكَ النســرَ
أسحمَ
مرهَفَ الـمنقارِ
مبسوطَ الجناحِ إلى النهايةِ ،
كان نسْــرُ بْروسِــيا
يختالُ ، في المرسيدس السوداء ، كالجنرالِ
في برلين ...
برلين 10.07.2010
الــزاويةُُ البــريطــانـيّــةُ
إذاً ... اكتمَـلَ الأمرُ ،
وصارتْ لكَ في هذا الكوكبِ زاويةٌ.
حقّاً ، إنكَ لا تعرفُ أسماءَ الأشجارِ
و لا ما نطَقَ الطيرُ
وإنكَ لا تعرفُ فيها أحداً
( تلكَ رؤوسٌ من حَجَـرٍ ، ووجوهٌ من قارٍ ... )
ولسوفَ تُحشرِجُ إنْ قلتَ :
إلى أينَ تؤدِّي السككُ ؟
الأغربُ أنكَ لم تدخلْ بيتاً لسواكَ
فلا جارَ
ولا أخبار
و لا حتى كلماتُ " صباح الخير ... "
وإنْ كانت كاذبةً .
.................
.................
................
لكنك تأوي ، مثلَ سواكَ ، إلى زاويةٍ
وقد اكتملَ الأمرُ
وصارتْ لكَ في هذا الكوكبِ زاويةٌ ...
فلماذا تشكو؟
أ لأنّكَ ما صافحتَ ، هنا ، أحداً ؟
أ لأنكَ ما صافحتَ ، هنا ، حتى نفسَك ؟
برلين 13.07.2010
مـــع مؤيَّــد الراوي
كلّما حللتُ ببرلين زائراً ، التقيتُ مؤيّداً .
أنا حريصٌ على الأمر ، لأن في لقاء الرجل تجديدَ صداقةٍ ، واستمتاعاً بأحاديث ، ومقاربةَ دعابةٍ .
السبت الماضي أمضيتُ معه أربع ساعاتٍ .
التقَينا في منطقة ببرلين الشرقية ليست بعيدةً عن محطة مترو " وارشــو " ، منطقةٍ للمقاهي والمطاعم ، وأهلِ الفنّ .
كان الناس يتابعون كرة القدم .
أمّا نحن ، الأثنين ، فلم نكن مسَمَّرَينِ إلى شاشة التلفزيون العريضة جداً .
كان حديثنا مختلفاً.
مؤيد الراوي يتساءل عن " أيّوبيّات " بدر شاكر السياب .
أتحملُ معنىً دينيّاً ؟
هل المعنى الدينيّ في نصوص بدر الأخيرة مقصورٌ على فترة المرض ، أم أن له تاريخاً أسبقَ في نصوصه؟
يقارن مؤيد بين بدر وناظم حكمت ، وكيف أن ناظم حكمت ظلَّ قويّاً حتى النهاية ، بينما كانت الرياح ، حتى الخفيفة منها ، تتقاذفُ بدراً .
يبدو أن المسألة ذاتُ إلحاحٍ .
ما السبب؟
مؤيد الآن يعاني من وطأة السّكّريّ.
بدأ بصرُه يَكِلُّ . ومشيتُه تضعُفُ .
صارت الكتابةُ عسيرةً ، بل شبه مستحيلة .
اقترحتُ عليه أن يملي على فخرية البرزنجي ، رفيقةِ حياته . قال : لا أستطيع . يجب أن أكتب !
*
لمؤيد الراوي فضلُ وضعِ قصيدة النثر ، في وقتٍ مبكرٍ ، على المسارِ الجادّ ، مع ديوانه المرموق
" احتمالات الوضوح " الصادر في العام 1974 .
لا أحدَ يعود إلى هذه المعلومة.
" شعراء" المكتب الثاني للجيش ، حوّلوا الأمرَ ( أعني أمرَ قصيدة النثر ) إلى مهزلة عامّــة مُـعَـمّـمـةٍ .
برلين 13.07.2010
مَـنْـظرٌ صــباحيّ
كان عندَ البحيرةِ
مستسلماً لانعكاسِ الغصونِ على الماء.
أخضرُ ماءُ البحيرةِ
والطيرُ أخضرُ
حتى كراسـي السفينةِ في الـجُـرْفِ خضراءُ .
ناقوسُ تلك الكنيسـةِ ، يُعلِنُ، وقتاً طويلاً
مجـيءَ الصباحِ.
المطارُ القريبُ استعدَّ ليستقبلَ الطائراتِ المبكِّــرةَ.
الآنَ ، تلمُسُ صفصافةٌ بجدائلِها كَـتِـفَـيَّ ،
وأهجِسُ أنّ أناملَ تضْـفِــرُ
إكليلَ آسٍ
بأزهارِ دُفلــى.
.....................
.....................
.....................
البحيرةُ ليستْ بلادَ طيورٍ مهاجرةٍ .
بجعٌ أزرقٌ ظَلَّ منزلِقاً
في مياهٍ بلا موجةٍ
أو طحالبَ.
فاختةٌ تتهجّى اسمَها في مجاهلِ حُرْجٍ بعيد...
برلين 14.07.2010
08-أيار-2021
14-نيسان-2018 | |
24-شباط-2018 | |
12-آب-2017 | |
02-أيار-2011 | |
25-آذار-2011 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |